اعرف نفسك

اعرف نفسك

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٤ أكتوبر ٢٠٢٠

قبل أن تعرف عدوك الذي هو من جنسك، كل ما نراه اليوم من تطور وتخلف خلقه الإنسان، ومن أجل الإنسان الذي فهم حقيقته، وذهب للبناء عليها من فهمه للتحديث وآلياته، التي لا يتم الوصول إليها إلا بعد إدراك التمسك بأولوية تحديث العقل وتوفير مستلزمات منهجية وقيمية من بنى تحتية نشطة وفوقية قيادية علمية وعارفة، وبين هذا وذاك تأسيس عملية تربوية ناضجة وإعلامية متحررة، ودفع الكل للعمل على بناء روابط قوامها التجانس والتلازم، نذهب بعدها للتدقيق في العقل الذي ينبغي أن يبدأ في الإبصار وإزاحة الغشاوة عن بصره، ليستطيع رؤية أين هو؟ وعلى أي درجة يقيم؟ ومن ذلك يتبين أن شعور الإنسان بمشاكله اليومية وتوهانه في جزئياتها مازال أقوى من شعوره بمشكلات مجتمعه، فكيف به يكون كذلك، من دون أن يشعر بمشكلات الحياة الكلية، وهنا أعزو السبب إلى انحصاره بمنظومة الغرائز والعادات والتقاليد التي تمنعه من مجاوزة ذاته وخاصته إلى العام. بماذا يسعى كي ينجح ويخرج إلى غده، إذا كان لا يفكر إلا في يومه وهمه، وهنا أتحدث عن الواقعية ومعرفة أبعادها، مبتعداً عن المثالية وأسسها غير القابلة للتحقيق مهما بلغت المجتمعات من تقدم أخلاقي، لأن المتغيرات الطبيعية المستمرة الحركة هي التي تفرض صور الحياة وصيغها على الإنسانية، فإن لم تسارع القيادات لفهم منظومة التحديث فإن التخلف سيصل إليها، والتدقيق البسيط يرينا أن النار تتأجج في باطن الأرض، وتنفجر في قمم جبالها، وهذا وحده يمنحنا فرص العودة لبناء المجتمع بعد إدراك مقتضياته والخروج من جوائح البربرية إلى مفاهيم الإنسانية.

مجتمعاتنا يجب أن تتجه وبسرعة إلى الحيوات العلمية الواسعة، بغاية إنماء ملكات العقل، ومن ثمَّ تحفيزه على التفكير الحر الطليق، الذي منه تنطلق الأفكار، وبعدها يتم التقاط المفيد والمطور لها، لأنها تتقدم وتطرح الحلول لمجمل الأزمات، ولكن دون إهمال العلوم الاجتماعية والإنسانية التي يتم تجاهلها بشكل خطير، فالإنسان لا يفتر عن القول بأن الفقر أفضل من الظلم والبؤس، لكن أحلامه لا تتوقف، وخصوصاً في إحياء القيم الإنسانية، وأمله تنمية الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهنا أجد أن هذه الأحلام هي مسؤولية السياسة، التي إن لم تهيِّئ للتقدم العلمي مع إشعار إنسانها بكرامته ومساعدته على إدراك ذاته فلن يعرف حاضره، ولن يقدر على بناء مستقبل له ولأجياله، وإيصال هذا الإنسان لمعرفة حاجاته الحاضرة والمنتظرة مع المطلوب منه، وبهذا تتحقق مقولة: إن كل من يصمد يصل إلى التقائه مع ما يحلم به ولو جزئياً فالإنسان قادر على تحمُّل ألم البؤس، ويصبر عليه، لكنه لا يصبر على الظلم.

الإنسان لا يعرف نفسه معرفة حقيقية إلا إذا عرف أين يقف، وما هو قادر على التقدم أو الصعود، أم إلى التقهقر والتخلف والجمود، فهل عرفنا نحن في مجتمعنا أين نقف؟ وهل نحن نتاج شبكة حصينة تملؤها عقلية القبيلة والعشيرة والطائفية الدينية والحزبية، وجدران صماء واجهاتها الجهل وعدم الفهم بما يدور خلفها، وآبار تفيض بالأنا الفردية التي نغرق فيها من دون أن نشعر، وتوهاننا في سراديب متوازنة من الخوف والكراهية تنجب الفساد، وتسعى لانتشاره، وحصون كئيبة من الواقعية المزيفة التي تحمي خلفها كل المعتقدات التي تفرق ولا تجمع.

هل نريد أن نبقى كذلك؟ وهل هذا ما سنتركه للأجيال القادمة؟ أم إن علينا الغوص والبحث في المشكلات العالقة وإيجاد الحلول لها قدر المستطاع، لأنها تتعلق بالمسؤولية عن تطوير الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟

 كيف بنا نضمن بناء مجتمعنا ووضعه على سكة النمو المعرفي والعلمي، وألا نقوم بمهامنا من على سطح لا يرينا سوى فرديتنا التي تعالج الشكل، وتتهرب من المضمون؟

هل فكرنا بمعالجة الملل والإحباط والجمود واللامبالاة؟ أو حتى ما أطلق عليه ثورة، أي الإرهاب ودوافعه، وما أوصل جزءاً من المجتمع ليكون حاضنة له، وأدى إلى الخراب والتدمير وزيادة كل أشكال التخلف.

 هل نحن أوفياء لفكر المعرفة والعلم؟ أم إننا متذرعون بالعصمة التي توقف الإنسان عن أي تفكير وإغلاق كل مناقشة وإفناء أي حوار، بغاية حبس الأفكار وجعلها في كفن قرمزي، إلى جانب المعتقدات الوضعية والإلهية.. ألا نعاكس الطبيعة بهذه الأفعال التي يجب أن تمنح الإنسان معرفة نفسه أولاً.. والموجود وحوله ثانياً؟ وبهما تبدأ رحلة التطوير والتحديث. الإنسان قلب الواقع وفكره، وبهما نتجه إلى تنميته، وتطبيق العلم يؤدي إلى التنمية السريعة لذات الإنسان ولمحيطه. ولذلك أجدني أتحدث عن حاجتنا الماسة لحراك السياسة وتحريرها مما هي عليه، كي تبدأ فعلاً في حل قضايا التنظيم الإداري والتقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والتحول إلى امتلاك المعرفة، لأنها تدعونا للتفكير في الواقع بكل ما فيه، ولتكن علمية الفكر، فإذا أحدثتها وأعطتها معناها الذي يتعلق بالإنسان قدمت له تلك الخدمة الكبرى التي مازال حتى اللحظة يبحث عنها.

اعرف نفسك.. فإذا عرفت استطعت إعادة إنتاج نفسك أولاً، وبالمعرفة تستطيع أن تنتجها، وكأنها جديدة. اعرف أين أنت فستجد الوسائل اللازمة لتطورك وازدهارك، وأين أسرتك ومجتمعك؟ وبذلك تستطيع أن تحدد ما تريد وما يراد منك، لتقرر بعدها كيفية انتقالك من الفردي والذاتي إلى الصالح العام، وتتفهم الفارق بين الرحمة والعدالة، لأن الرحمة حماية ثانوية، أما العدالة فهي التنظيم الموضوعي لموارد الطبيعة الإنسانية وتفاعلاتها، وهي أداة دقيقة لتحول الإنسان إلى الإبداع والإنتاج وتحقيق التوازن بين المادي واللامادي، الذي يرشدك للتعلق بأن هذا صح وذاك خطأ، وكأن بك تشقّ الآفاق التي توصلك مع الآخرين لتحقيق الحضارة والثقافة وبالمدى المنظور.

الإنسان في كليته يعتبر المؤثر الأول والأخير، تبدأ من نفسه على شكل طفرات فردية، يستفيد منها ويفيد، فإذا لم يكن موضع كل تقدم، فإن تطور المجتمع، أي مجتمع وتقدمه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يصبح أفراده بعيدين كل البعد عن المعنى المنشود في التنمية، ولا يمكن أن تكون لها فائدة إن لم تبدأ بتطوير الكرامة الإنسانية، فالإنسان لن يكون له حضور إن لم تقم السياسة ببناء هذا الحضور له، ومهما عرف نفسه.

 ها أنذا أكتب مع انبلاج فجر يوم جديد، بعد أن تخلصت في ليلي المديد من أفكار الانتظار، وتجولت في باحات ثلاثية المقدس، فوجدتها مقفرة، ومررت تحت الأقواس المؤمنة بصانعيها، وكيف تنشر طاقاتها الكامنة على الحياة من عزوم بنَّائيها، وذهبت إلى الخطوة الكبرى التي تسيطر عليَّ، عسى أن أعرف نفسي، تناولت أفكاري بعد أن مزجتها بأفكار المتطلعين إلى الأفضل، وسكبتها كما تقرؤونها الآن على السطور الواقعة على خطّ بصركم. .

 د. نبيل طعمة