العظمة أم الكمال؟

العظمة أم الكمال؟

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٦ سبتمبر ٢٠٢٠

العظمة لا تدوم عند البشر، ومهما بلغ الإنسان فهي محكومة بالموت، والكمال لا يدرك إلا للمدهش اللافت للأنظار، والإنسانية والهمجية لا تلتقيان. الحروب لا تؤدي خيراً، لأنها تعتمد قواعد إفناء الإنسان لأخيه الإنسان أو مواطنيه أو عدوه من الإنسان، ومادام كذلك فلا استقرار له ولا سعادة، ونحن غير مستقرين، فمن الاستعداد للصح والصواب أن تكون مستعداً للخطأ، وانظروا دائماً إلى الحياة تجدوها لا تنافي الخطأ، وإنما تنافي الجمود والبقاء في المحدود، والحياة أيضاً فكر وعواطف، وهاتان الحالتان تمنعان أن يظل الإنسان آلة تستعبدها العادة، وتستكين لها السهولة، وكلما ازددنا خبرة بالحياة ظهر لنا أن أصعب ما فيها من المصاعب إنما هو تغيير عادة ترسخت بين الأجيال، وتناقلتها العقول، وتوارثتها الشعوب، فلا يمكن لكائن من كان أو أي قدرة أن تخلق روحاً إنسانية، وهي تحيا مراحل البربرية والهمجية والتخلف وحكم المكاتب الذي يستند إلى التكتيك اللحظي، لا على الرؤى الإستراتيجية، وإذا لم تستطع القدرات إعادة الإنسان إلى الصفر الفكري، فمن المستحيل بناؤه على السبل السليمة ووضعه على طرق الكمال، طبعاً لن يصله، لكنه يكون على المسار الصحيح، وإذا حصل هذا نستطيع أن نقول: إن الله أشفق على مخلوقه، ومنحه قيمة وقوة الاستمرار إلى حين، أي ضمن المساحة المقدرة لحياة الإنسان رغم وصوله لقناعة أن هذه الأرض الحية لم تعد ملكه، لأنها أصبحت ملكاً للغرائز والشهوات والنهب والتنكر لمبادئ وقيم أسباب وجود الإنسان، هذه الغرائز التي أعلت من شأن الشرور التي أخذت تتمدد بكل الاتجاهات، حتى إن الجدل حولها لم يعد مفيداً، والادعاء بمكافحة وجودها أي الشرور بمسماها الشرعي الفساد والمفسدون المذكورون في كتب الله الرئيسة؛ توراة، إنجيل، قرآن، كما يجري استبدال المفاهيم المجردة الناظمة لمسيرة الحياة بالماديات وإخضاعها للحالات الوضعية وتدحرجها حسب مقتضيات الحاجة والأمور، وما نراه اليوم من مآسٍ ما هي إلا حلقة في سلسلة المآسي التي عاشتها جميع شعوب العالم في الماضي، وتخلص منها بعضها الأقوى، وبقيت مستمرة في الشعوب الأضعف، وكل هذا الذي بقي واستمر بسبب المؤثرات السياسية والقبلية والنزاعات الدينية وعدم القدرة على دمج أبناء المجتمعات ببعضها.

إن تحمل البشرية دائماً ما لا طاقة لها به من نهب وسلب وانتهاك حرمات وتعطيل مصالح وعدم إشعار الإنسان بأنه مؤمن في حياته أو ماله أو عرضه يجعل من سمة الهمجية حالة عامة لا يمكن ردعها، لأن الذي يريد أن يردعها هو أيضاً إنسان، وهنا تسأل الحكمة الإنسانية: كيف بنا نعيد لعالمنا ألقه الإنساني وإنسانه تحمّل الكثير من الآلام أثناء مروره من حقب التاريخ؟ ربما كانت أشد ظلمة ومأساوية من التي نجتازها في حاضرنا المعيش، فالبربرية الدينية التاريخية والملكيات القديمة والنزاعات القبلية كلها مارست الحرق والشنق والخوازيق والصلب في الساحات العامة ومراحل العبودية وبيع الناس كما يباع المتاع وإفناء شعوب وإحلال شعوب أخرى، كالهنود الحمر والبيض في أمريكا وكندا وجنوب إفريقيا واليهود في فلسطين، وكل ذلك كان ينفذ على اعتبار أن الأقوى يضحي بالأضعف، صاحب القدر المجهول الذي استثمر فيه الآخر القوي، وها نحن اليوم نشهد ورغم وصولنا لمراحل متقدمة من التكنولوجيا العلمية إلى أننا نعيد بوسائطها المتفوقة على ذات الإنسان إلى تلك الحقب بدهاء العلم وكهنوت الأديان وتجهيل السياسة للمجتمعات عبر تحويلها إلى لعبة الهمجية الجديدة، ولكن بطرق مخططة بدقة وفتن قادرة على شق أقوى الصفوف المتراصة.

مؤكد أن وجود عظماء في الإنسانية ضرورة مستمرة من ذاك الماضي وصولاً إلى حاضرنا، هؤلاء الذين هذّبوا عقول الأحياء، وثقّفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها وأسرار علومها، تشابهوا إلى حدّ كبير مع مكوّن الكون الهائل والعظيم، ولندرك أن من دونهم كنا خسرنا الحياة، وكنا لا شيء أو شيئاً غير معرف.

 ألا تفتكرون معي موسى النبي والسيد المسيح والرسول محمد وبولس، ومعهم أفلاطون وسقراط وهوميروس والغزالي وابن عربي وابن خلدون وصولاً إلى غوته، لقد صنعوا للإنسانية طعماً لافتاً، أليسوا ومن واكبهم عظماء خليقين بالحب والإكبار، وهنا تكون العظمة للأمور ومنجزاتها ولتنفيذ العهود والوعود والأقسام التي نتعهد بها التنفيذ الجيد والوفاء والإخلاص وعدم الخيانة، استخدمها الإله الرب حينما قال في كتبه المقدسة:  "وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم"ٌ "له المجد والعظمة والقدرة والسلطان"، هذه كلها إن حققت تمنح الإنسان سمة العظمة، ولا علاقة للمال أو الجاه في الوصول إليها، إنما هي في التعهدات الفكرية وتحقيقها أمام الآخر من الجنس الإنساني، فهي إما أن ترفع الإنسان لمرتبتها، أو تلقيه إلى الهاوية من على كواهلها، وكما أكدت أنها تختلف عن الكمال والبحث عنه، وهنا أؤكد أن الأمم تحيا مديداً  مادامت تمتلك ملكة السعي وصولاً للكمال ضمن أريحية الحركة وإعجاب من المسير، وتموت أو تدخل مراحل الترهل والانفلات أو التشنج إذا فترت هممها، ونضب من فكرها حرارة البناء والحب للتكوّن، والإنسان لا يعوزه من هذه الحياة إلا الفرح والإعجاب بما ينجز، أو يُنجزه الآخر، هذان اللذان لا يتحققان إلا إذا توافرت له الثقة والرجاء والإحساس والتقدير، ويفتر أيضاً كل هذا إذا خلد للعجز، ويئس من النهوض والمجاراة في مضامير السعي والحركة رغم ما في الحياة من الخفايا التي تظهر تشابه الأحوال في المظهر واختلاف النفوس في الجوهر، وهنا أقدر أن أقول: إن الإنسان الذي تمتزج فيه حقوق الفرد والبيئة الإنسانية مجتمعة هو مثال للكمال المنشود، فإن سألت أي هذه الحقوق ينساها إذا اشتجرت في نفسه، واستحال عليه التوفيق بينها، فإني أجزم بأن ينسى فضائل الفردية والبيئة في سبيل تعزيز فضائل الإنسانية الباقية، وهو هنا يكون طالباً للكمال المعلق بالمثابرة، لا بحاجات نفسه الزائلة، ولا بالزمان المحدود الذي يحيا فيه.

العظمة والكمال تخصان المكوّن والمتكوّن الظاهر في المخلوقات الحية، التي أهمها الإنسان الذي نبحث فيه عن الكمال والشمم واستقامة الأفعال وطهارة الأخلاق، الإنسان الذي يطالب ويعمل لبيئته ومجتمعه وأمته بالكمال، ويسعى معها إليه، بعد أن يستبيح مآثمه في الظلم والنفاق، وإن أفضل أنواع التعريفات عن الكمال أنه كذلك الذي لا يوقع ألماً بأحد كائناً من كان، وإنسان العظمة والكمال هو ذاك الذي لا يقدر على عمل وضيع، ولا على فكر باهت سخيف، ولا على إحساس ساخر هزيل، فإذا كان، كان منظوراً في خلقه لنفسه أولاً، وإلى غيره، وإذا امتلك جمال الكمال كان قوياً.

هنا أختم بسؤال: إذا كانت الإنسانية لن تبلغ حدّ الكمال فإلى أي مدى ستؤول؟ وإلى أي حال سينتهي إنسانها على هذه الأرض التي يبيد عليها جنسه، كما يبيد باقي الأجناس الحية بقدراته؟

 حياة ربما نقبلها أو نرفضها، وكثير من أمورها قد تعجبنا أو لا تعجبنا، ونحن نمر منها، ونعلم أننا سننتهي، ولا نكف من أجل هذه الحياة، فهل نمتلك العبرة ونحن فاعلون فيها؟.

د. نبيل طعمة