السجل الذهبي

السجل الذهبي

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ٢٦ يوليو ٢٠٢٠

لغة السوريين يخطّونها بناءً على مصالحهم الذاتية النيّرة وسياسة حسن الجوار وسعيهم الدائم لإقامة أفضل العلاقات الطيبة مع الآخرين، ويسطرون دائماً للدعوات الحارة لنبذ العدوان والاعتداء على أيٍ كان، ومن ذلك يؤكدون استمرار وطنهم سورية كآبدة إلى ما لا نهاية، وهذا ما يدعونا بين الفينة والأخرى لتقديم قراءة واقعية، أستمدها من خلال ما حققه الصبر الإستراتيجي الذي توافر بقوة أثناء سنوات الحرب الإرهابية والحصار الجائر، والتي لا تعد ولا تحصى، لأنها في حالة تتابع أدونها فيه مع ولادة فكرة عنواننا الجذابة والمسيّرة، وأتمنى أن تكون منطقية وعاقلة، لأنها تحاكي توقاً عميقاً في أعماق أبناء سورية المخلصين وقائدها الرمز الأمين، للوصول إلى نتائجه التي يؤمنون بأنها أكثر من خيّرة، فهم كسائر البشرية ميّالون لأفعال الخير، وهم قادرون على ابتكار وسائل الحياة وتجسيدها وتمتينها، ولذلك لا يرون عيباً أو انتقاصاً عندما يضعون أيديهم في أيادي أصدقائهم الروس والإيرانيين والصينيين وبعض من العرب المؤيدين لهم، حتى وإن كان بخجل، غير متوقفين عند بعض من اختلافاتهم الداخلية أو الخارجية، الروحية أو الثقافية أو حتى العقائدية، فإتقانهم لإدارة شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية تتقوى بفعل نجاح حكمتهم السياسية وخبرة مديرها الرئيس.
خيوط الثقة تولد الصبر وتعين المتمتعين به، فالنزاعات الروحية والإيديولوجية تؤكد دائماً وبما لا تصل إلى الشك أن وجود هذه الخيوط يهيئ للأفعال الإيجابية وتطوير العلاقات، وانقطاعها يزيد من تأجيج نيران الصراعات، وهنا أتحدث عن أن الصبر لا يعني أبداً الخوف، فإن كنت خائفاً من فعل شيء فافعله، كي تكسر حواجزه إلى ما لا نهاية، وبعدها تفكر في فعل إيجابي، والصبر على انتظار نتائجه، وهذا ما يتمتع به الساسة العظام والعلماء مع الفلاسفة والمصلحين والمبدعين المخترعين.
السوريون سجلهم الحداثوي، مشكلتهم مع الآخر تكمن في سعيهم الدائم للاستقلال والاكتفاء الذاتي، لأنهم بنّاؤون مبدعون ومنتجون، يطلبون علو المكانة في الحياة، وهم أيضاً لا يسعون للتفوق على محاوريهم، إنما حقوقهم لا يتنازلون عنها، يؤمنون بأن للإيمان ألف باب، وللتديّن باباً واحداً، ولذلك كانوا مجسدين للتجانس والتكامل متمتعين بالاجتهاد والصرامة والحسم والحزم عند الشدائد.
 من هذا كله كان عنواننا ليس فكرة، بل جوهر جذاب ومثير للاهتمام، لأنه يتلاقى مع سجلات الأمم صاحبة الحق والشعوب الباحثة عن رؤية تجسيدات التطور الأخلاقي والبناء الإيجابي مجتمعة ومتعاضدة، والإنسان في طبعه أميل للأفعال الإيجابية، وبامتلاكه للصبر يغدو قادراً على ابتكار الأفعال الإيجابية، وأكثر من ذلك القدرة على الاستمرار في تنميتها، ومنه أجد أن لا ضير، وليس عيباً أن تضع البشرية أياديها مع بعضها بعد ابتعادها عن مفاهيم العرق والدين والطائفة والمذهب، فالإنسانية لا تتوقف عند الاختلاف إلى لحظة تطور العصبية وانفراط العقد الاجتماعي وحدوث التخلف الثقافي، ما يؤدي إلى حدوث النزاعات التي تبدأ بين الإنسان وذاته، وتنتقل من حدوده إلى حدود الآخر الفاصلة بينهما عندما يتطور التنافس، لأن إرادة البقاء تكون المحرك الرئيس للأفعال، فإن لم يكن لديها الصبر كأساس سقطت في الانفعال الذي يدمر السدود، ويسمح باستباحة الحدود، وهنا يكون حضور الصبر الإستراتيجي أكثر من مهم، فهو لا يعني تقطيع الوقت، ولا الالتفاف على تداعيات الأزمات، إنما إدارته بالحكمة والاتجاه للعمل الجاد بصمت وأناة، على حين يكون الآخر يبحث عن الثغرات التي تمكنه من الاختراق.
إنني هنا أدوّن أن الجماهير تثور، لكنها لا تقود وهي تنتظر قائدها الفذ كي يقودها، فوجوده ينعكس على الاستقرار السياسي الضروري لاستمرار حياة الدولة ونجاحها، ووجود حالات من الوهن الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى حدوث اضطرابات أو انقسامات مذهبية أو عرقية لا يعني الانفلات، كما أن الاعتداءات الواقعة من قوات التحالف مع التركي والإسرائيلي آيلة إلى نهايات حتمية، كل هذا يؤكد عملية تطوير الاستقرار الداخلي أولاً، وفي الوقت ذاته يؤدي إلى إعادة الأمور إلى نصابها والتعلم من الخلل الذي أوصل إلى حدوثها، ما يأخذ بنا لتأكيد تمتع شركاء الدولة وسياسييها واقتصادييها واجتماعييها بالصبر ذاته، فإن لم يكن لديهم ذلك والرؤية ذاتها وكانت الدولة قوية، فإبعادهم أو استبدالهم يغدو أكثر من مطلب اجتماعي وشعبي، لأنهم بذلك يكونون أدوات إضعاف الدولة، وحري بنا القول: إن الخلاف والاختلاف في طبيعة البشر، وإن محاولة جمع الناس على قول  واحد ورأي واحد وسلوك معين هو الصعوبة الأقرب للمستحيل، كما أن تصنيف الناس على أساس اجتهادي دون البحث العلمي والاستقصائي هو الطامة الكبرى.
الصبر الإستراتيجي يؤدي دائماً إلى التمكين السياسي أولاً، ومن ثم إلى التمكين الاجتماعي الذي يقع بينهما التمكين الاقتصادي، في اجتماع ذلك يظهر الإقدار الفاعل بقوة، مشكلاً رافعة تجذب الاعتدال الروحي لدى جميع الأديان بطوائفها ومذاهبها، وما أتحدث به عن تحديث الارتباطات ببعضها بعد تمكينها يمنح الفرص الكثيرة لتقدم المجتمع، وعلى سبله كافة، وأيضاً تفهم المعايير الخارجية التي لا يمكن إهمالها بحكم مؤثراتها وإشاراتها بأن هناك خللاً ما في بعض من مفاصل السياسة والاقتصاد والبحث عن العقول السليمة غير الملوثة بالطمع المادي أو القادمة من فلسفة الفساد والإفساد، هذه التي يبحث عنها في أوقات السلم والوئام، لتكون عوناً عند حلول الأزمات والمصاعب والظروف القاهرة، وهي التي تشكل حصون السلطة التنفيذية والتشريعية وتدعم مرتكزات السياسة الداخلية والخارجية.
نتاج كل ذلك وأهمه الصبر، حتى وإن ظهر مؤلماً في بعض مراحله، إلا أنه حقق تتابع الانتصارات للوطن وقائده وللوطنيين الشرفاء الذين تمتعوا بالشهامة والتضحية، فكان لهم وليس كثيراً أن يربحوا رغم كل محاولات إفشالهم، فظهر نقيضهم على شاكلة البؤساء المتشردين والمتوسلين على موائد الهزائم التي انتشرت في محيط سورية القريب والبعيد، وأهمية ما تحقق من انتصارات أن جميعها وطني بامتياز، بدءاً من الخدمات الإنسانية وتجاوز فكرة الانقسامات وقيمة وقوة التحالفات مع الأصدقاء والأشقاء وصولاً لإسقاط حواجز الخوف والترهيب والتسلط ومكافحة الفساد وإجراءات التأديب وإعادة الكرامة للمواطنين وتأمين سلامتهم.
 واقع سجلنا الذهبي السوري يسأل عن أجيال الحداثة السورية التي تحيا مقاربة الاختلاف مع مفاهيم الوطن والمجتمع والتديّن وحتى مع وطنيته التي تنفصل وتتصل بالعالمية والعلمانية في آن، ويتوقف مع انتمائه التاريخي والحضاري وتضامنه الاجتماعي ومعالجة قضاياه الاقتصادية ومستقبله فيها، والاجتماعية وما يريده منها، والسياسية حيث تكون متنفسه، يحتاج رؤية دولته وتوقف معاناته من كل قضاياها العالقة، إنه باختصار يدوّن من دون تحفظ أنه يريد الانتهاء من عبثية الحرب والانتقال إلى البناء والإعمار بأسرع مما كان، يريد مناخاً جديداً يفتح له فيه أبواباً يمتشق من خلالها مصيره التكويني والوطني، رامياً خلفه مسلسل معاناة آبائه وأجداده وجيله، نعم إنه يؤمن بالنصر، ويسعى إليه، ويدفع كل ما يملك من أجله، فهل يتحقق حلمه بعد الوصول إليه؟ هذا مؤكد لأن قوة الشعب من قوة قائده وعلاقاته المباشرة وغير المباشرة، وما يحمله من ثوابت ثقافية وتاريخية وديمغرافية.
لنسجل معاً سؤالاً: لماذا تعرضت وتتعرض سورية منذ تأسيسها الحديث، أي منذ 1970 لكل هذه الضغوط؟ حيث لم تنقطع حتى اللحظة وعلى قائدين استثنائيين في حياتها، لأنهما خلقا تياراً جامحاً نحو الحرية الحقيقية، والاستقلال الإستراتيجي وجهاه نحو بناء الرفعة والمنعة، وبهاتين السمتين يحيا الشعب.


 د. نبيل طعمة