معتقدات زائفة

معتقدات زائفة

افتتاحية الأزمنة

الأحد، ١٢ يوليو ٢٠٢٠

وحكايات وأمثال متداولة في حياة الشعوب والأمم، أسرد بعضها، لأن ليس كل ما تراه عيناك أو يصل إلى مسامعك أو تقرؤه شفاهك أو يقربك من الحقيقة أو تحياه خيالاً صدقاً أو نفاقاً أو حيلاً بارعة أو نسجاً نوعياً يحمل الحقيقة أو الواقعية، وإنما ومن أجل أن تستمر الحياة بكل ما فيها من آلام وآمال وأحلام وأعمال ومستحيلاتها التي تدعوك للاستسلام لها، أو تجبرك على اختراقها، فالمستحيل ممكن لدى الباحثين عندما تتوافر لهم الأمكنة والإمكانات، ويغدو الممكن مستحيلاً لحظة انتقاء الحاجات وعدم القدرة على توفيرها، وعليه نجد أن المعلومات الصحيحة تحتاج إلى تدقيق والبحث عن الكيفية التي تدعونا لإيصالها إلى الشرائح الكبرى من المجتمعات التي تمتلك مفاهيم خاطئة وأحاديث مبهمة ومركبة وعادات وتقاليد عفا عنها الزمن، لكنها مشاعة وأمثال قاتمة مثل: إن لم تكن ذئباً.. وألف عين تبكي ولا عيني تبكي، وإذا رأيت الأعمى "طبّه" مالك أكرم من ربه، وأنا ومن بعدي الطوفان. هذه الأمثال الداعية إلى ثقافة الأنا والتفرقة، هل يدرك الناس معانيها؟ وبعض من الأحاديث الدينية التي تحرم وتفسح أو تدعو وتطلب العطاء والمنفعة، وتحلل لنفسها ما تحرمه على غيرها، لتصل حدود المعتقدات، لكنها زائفة، فالأكاذيب التاريخية كبيرة، وهي مستمرة وصناعة دائمة تستخدمها السياسة والمجتمعات، وبمرور الوقت تتخذ طابع الحقيقة، يصدقها الناس ولايزالون.

 لنأخذ أمثلة عما سكن العقل الإنساني، ففي العصور القديمة أنجز الكاتب الروماني إيليان عام 130 ق.م دراسةً عن الإنسان الجبان مشبهاً إياه بالنعامة التي تخفي رأسها بالرمال عند وقوع الخطر عليها، هذه التي استحضرها من وحي خياله، وهو الذي لم يرَ قط هذا المشهد في حياته، وربما لم يرَ النعامة أصلاً، ولقد أثبت علماء الحيوان بعد بحثي المستفيض عن هذه القصة أن النعامة إذا فزعت، إما أن تهاجم وضرباتها وعضاتها قد تصل حدّ إماتة خصمها، وإما تولي الأدبار بسرعة قد تصل لأكثر من مئة كيلو متر بالساعة،  فليس لديها الوقت لتدفن رأسها، ولم يحدث من خلال آلاف التجارب التي أجريت في جميع حدائق الحيوان، وفي مناطق عيشها أن شوهدت نعامة واحدة تخفي رأسها في الرمال من الخوف أو الفزع.

وهناك قصة الجرذ الذي يبحث عن غذاء، فلم يجد سوى بيضة، وشاء خيال الكاتب أن ينسب إلى الجرذان عملية من أشق العمليات الميكانيكية والرياضية، فجعله يحتضن البيضة بيديه ورجليه، وينقلب على ظهره، ومن ثم يساعده جرذ آخر بأن يسحبه من ذيله، ومن ثم يقتسماها معاً، هذه القصة كتبها لافونتين عام 1687، فثارت ضده ثائرة الكتاب والنقاد، واتهموه بأنه كتبها لمجرد إقناع الناس بذكاء الحيوان.

 وليس بالبعيد عنا، ففي دمشق في ساحة الشهداء "المرجة"، سئل بائع حلويات مشهور عن شيبه المبكر، فقال: كنت أجهز المحل مساءً بأن نرتب صواني الحلويات بعد تصنيعها وشيّها من أجل الصباح، وفي أحد الأيام افتتحت باكراً، فوجدت نقصاً في معظم الصواني، راقبت العملية لعدة أيام، وكل يوم أجد نقصاً، شككت في العمال وراقبتهم بدقة، ولم أجدهم يأخذون شيئاً، قررت أن أنام في المحل، لأعرف من يسرق، وفي الليل وجدت الجرذان تتدلى من فتحة في أعلى باب المحل، وتمسك بعضها من ذيلها، هالني المشهد الذي يضم عشرات الجرذان، إلى أن تصل إلى الصواني، وتبدأ المناولة، وخفت أن آتي بحركة فتهجم عليَّ، ومن شدة خوفي شاب شعري، وفي اليوم الثاني طلبت أن يحضر مسؤولو مكافحة القوارض وأجروا اللازم.

وهنا أعود إلى تحليل هذا الخيال، حيث قام الدكتور "جودجار" أستاذ علم الحيوان بجامعة كولومبيا الأمريكية بأبحاث حول قضية الجرذان، بأن أجاع مجموعة منها، وأتاح لهذه الجرذان سرقة البيض، وكان فعلاً البيض يختفي، وأصر على المتابعة، وفي إحدى الليالي شدد مراقبته، فتبين له أن الذي يسطو على البيض مساعده في التجربة.

وكتب أيضاً الرواة الرومان كثيراً من قصص الخيال، فمثلاً عن الذئاب التي تعض ذيول بعضها بعضاً، عندما تريد عبور نهر جارف حتى لا يفقد أحدها أو يجرفه التيار، وعن القرود وعبورها الوديان وتعلقها أيضاً بأذيال بعضها مستخدمة أغصان الأشجار، وعن العقارب وانتحارها عند صيدها، وهذه أوردها كاتب هندي، وتناقلها عنه الفرس والعرب، وأسطورة الثعابين واجتذابها لفرائسها بنظراتها الثاقبة، وبول الضباع إذا رشتها على الفرائس، وحتى على الإنسان، فإنها تصبح تابعة لها، ويسهل اصطيادها من قبلها، وحتى عند العرب قصصهم مع الجمال، وكيف أنهم يملؤون بطون الجمال بالماء عندما يريدون قطع الصحارى، فيذبحونها ويسقون خيلهم، ويشربون منها، وقد ذبحت آلاف الجمال بعد اختراع هذه القصة، ولم يستطع أحد أن يشرب ولو قطرة واحدة، وهذه القصة مسكونة في عقول الشعوب التي تستخدم وتربي الجمال.

معتقدات زائفة تتهم بها الأديان بعضها، فالأول ينفي ما لدى الثاني، والثاني ينفي ما لدى الثالث، والثالث يكفر ما لدى الأول والثاني، والكل واقع بين الحق والباطل، بين تكفير بعضهم وإيمانهم ببعض، يتوزعون بين البشرية والإنسانية، وكل لديه من يحامي عنه، ويدافع به، وأنه وحده الصح، فالأول شخّص الله وجعله إنساناً، والثاني حمله آلام صلبه ووصفه بالطبيعتين، والثالث نزّهه، وتاهت الإنسانية بين عذابات القبر وأنكر ونكير، والحساب والجنة والنار والخلود والتقمص وعودة المخلص، وبين الصعود والنزول والتنزيل وفهم العدالة الإلهية، حيث لا عدالة بين البشر، فأنشؤوا القضاء والمحامين، وأن المحامي يفك المشنوق، حيث ذهب رجل متهم إلى محاميه، وعرض عليه قضية، وبعد أن استمع إليه وقف المحامي، وأشار بيده إلى مكتبته قائلاً للمتهم: هذه الكتب التي ترى جميعها تعزز قضيتك، وتنتصر لك، فاطمئن لأننا سنكسبها، وبعد أيام عُرضت القضية على المحكمة، وخسر المتهم القضية، ولم تنفعه الكتب والأسانيد، على الرغم من استخدام المحامي لجميع الحجج الموجودة في الكتب، عاد الرجل إلى المحامي ثائراً غاضباً قائلاً له: كيف بك تخدعني؟ وكيف أخسر القضية رغم وجود كل هذه الكتب؟ فقابله المحامي بهدوء، وأخذ بيده إلى الغرفة المجاورة، وأشار إلى مجموعة ضخمة أيضاً من الكتب وقال: إن هذه الكتب تحوي كل ما يعارض قضيتك ويُدينُك، وهنا أقول: لا بد أن ينتصر الحق وإن طال.

المعروف عن بعض الدول في العصور الوسطى أنها كانت تقدم الحيوانات والطيور والحشرات إلى المحاكمة، وتُسجل ملفات المحاكم في فرنسا أنه قد صدر اثنان وتسعون حكماً ضد بعض الحيوانات المختلفة فيما بين عام 1120م وعام 1740م وكان منها الحكم على بقرة بالإعدام ذبحاً لأنها طاردت مختار القرية بين المزارع والحقول، واضطرته لإلقاء نفسه في مستنقع لكي ينجو من قرنيها الحادين. وفي دمشق وحتى عام 1940 كانت هناك محاكم أهلية، وبشكل خاص للكلاب خلف القصر العدلي في شارع النصر بدمشق، حيث يُستدعى صاحب الكلب مع كلبه، فإما يدفع التعويض عما ألحقه كلبه من ضرر بالآخرين كالعض أو الكسر، وإما أن يتم قتل الكلب. وأيضاً كانت هناك محكمة للموتى، حيث يوجد في نهاية سوق الحريقة زقاق المحكمة، وبه طاولة حجرية كان يوضع عليها الميت، ولا يدفن حتى يقوم ذووه أو أصدقاؤه بتبرئة ذمته.

هل تعتقدون في أن كل ما ورد في الأديان أو السياسة أو التاريخ صحيح أو حقيقي؟ تفكّروا وتأملوا ودققوا، فستجدون الكثير من النفاق والتزييف والتلاعب المشغول به على العقل البشري.

 د. نبيل طعمة