الانتقام من كورونا

الانتقام من كورونا

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١١ أبريل ٢٠٢٠

من يجرؤ على قتاله وهو الذي يعيث في أجساد البشرية دون استثناء طبقاتها؟ لا كبير لديه ولا صغير، لا غنيّ ولا فقير، لا مسؤول ولا مدير، لا ضابط ولا جندي، يصطاد الجميع، ينهنه أقوى الأقوياء، وينهي فوراً الضعفاء والبسطاء، إرادته قتل الجميع، من سيحاربه؟

قبل هذا الحدث كان مقتل جندي على الحدود بين الدول يؤدي إلى حرب مدمرة، وأي شكّ في دولة يفعّل الاتهامات عليها، يوقع العقوبات الاقتصادية والسياسية، محاصراً إياها، تسلط وعدوان واحتلالات وانتهاكات لحقوق الإنسان في كل مكان، وأحلام الغطرسة والتبجح بالاستباحة من دول لدول كانت أكثر من رائجة، التركي يعتدي ويحتل أرض غيره بداعي حماية أو مقتل عدد من جنوده، والإسرائيلي ومن أجل جندي خُطف أو قُتل يستخدم كل ما لديه من قوى، أما الأمريكي الذي يهدد أيضاً أينما وُجد، إذا قُتل جندي لديه يسارع ليقول: سأمحي الدولة التي حدث عليها القتل، حاشداً أساطيله من دون وازع أو رادع.
فيروس صغير يقتل مئات الآلاف، كيف ستحاربونه؟ أين حكمة العقول اليوم؟
يحدثنا المشهد من خلال الحدث الأقوى الذي شكل الهلع والخوف، وأخذ يحصد عشرات الألوف، يميتها دون أن يُرى، وربما تصل أعدادها إلى مئات وملايين الإصابات، حيث تكشف عن ضعف القوى المسيطرة على كل شيء، إلا على الأدوات التي تحافظ على الصحة العامة والخاصة، أي على حياة الإنسان ضمن أوطانه، مليارات تنفق على التسليح والتجسس والتنافس على مراكز القوى، صراخ وعويل مع انكشاف الواقع الصحي، وأين؟ في عالم الشمال.
يسمح لنا الحدث المثير والمؤلم الوقوف على الأطلال من الحاضر، علّنا نرى الماضي والمستقبل، ولا ضير أن نبحث فيما نراه، هذا الذي يبدو مفيداً، عندما نريد إجراء مراجعات، وقد يساعد كثيراً في تفسير بعض الحاصل في واقعنا المعيش، على الرغم من اختلاف الأحداث والواقع والمعطيات، وخصوصاً أن أنظار جميع العالم توقفت عند الحدث الأكبر، ألا وهو فيروس الكورونا.
نبحث جميعاً عن آليات الخروج من هذا الفيروس، وخاصة أن وسائط التواصل الإعلامي والاجتماعي أظهرت قوتها، أولاً من حيث إظهار الحدث لحظة بلحظة، وثانياً إحداث الوعي لإدراك ما يحدث، وهذا لم يحصل بهذا الشكل منذ الحرب العالمية الثانية، فكل شيء قبله كان يوحي بالقوة والعنجهية، الكبار والصغار كانوا على ذلك، وأمامه توحّد الجميع، ولم يكن ببال أحد أن البشر مع أدواتهم وآلياتهم سيختفون فجأة من الساحات والشوارع، ومن البحار والسماء، ويلتجئون إلى المنازل والمشافي، يبحث كل واحد عن نجاته وكيفية رد الموت عنه، هل هو صراع بين شيخوخة الحياة وشبابها؟ بين مناخها الملوث ونظافته، بين سلبياته التي هيمنت عليه وإيجابياته التي تضاءلت لدرجة مريعة، بين مشاهد التسول العلمي وترفه المسيطر عليه من الندرة.
هل افتقدت القواميس للناموس الحياتي والإلهي؟ أين يجد العالم أبواب المرونة والبراغماتية كي يلغي معظم التحفظات القديمة، وينطلق إلى عملية تغيير كبرى تطول جميع قواعد اللعب؟ هل يسقط العالم الضيق المتحكم بالعالم الكثيف بحكم الفشل الاقتصادي وغياب الحريات؟ لأن المواطنين اكتشفوا المفردات الخشبية للقواميس الراسخة في عقولهم، فذهبوا إلى تحطيمها بمساعدة فيروس لا يرى حتى بالمجهر، مجبراً الجميع على التوقف والبحث عن مدى قدرة احتمال توسعه وأعباء تمويل مقاومته التي دعا الجميع إليها، وطالبهم بعد أن وضعهم على سطح واحد، وكشفهم حتى درجة أن عرّاهم من أفكارهم وأموالهم وملابسهم.
التوجس والرهبة، القلق والخوف، هو ما يسود البشرية الآن، وهنا لا أريد عكس تسييس كل شيء في الحياة، إنما أسعى لإحداث مقاربات وإسقاطات وصلتنا من التاريخ والحياة، فلا القوة وحدها تستطيع إبقاء وجودنا، ولا المال بمفرده قادر على ذلك، إن لم نكن حاملين للأخلاق ومنفذين لمبادئها، فالمؤكد أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ما يحدث الآن، فهو تحدٍّ مختلفٍ مع شيء لا مرئي يخترق جسد الإنسان، يصارعه من الداخل، لأن هذا الإنسان قادر على غلبة أي صراع يجري معه من الخارج، وهذا يرينا عدالة الحياة وعدالة السماء وعدالة الأرض، وما تحمله عليها من نبات وجماد وحيوان، حيث جميعها تعبت مما فعله هذا الإنسان الذي يحيا بينهم وعليها.
أفادنا التاريخ بحادثة فردية وكيفية دخول البرغشة إلى رأس النمرود، ولا أحد يتعظ، لأنها تحمل رمزية تطل بين الفينة والأخرى بشكل أو بآخر، وكلما تعاظم الغلو وانتشر الطغيان، وهنا أقول: يجب القضاء على فقر التعلم الفكري واعتباره أولوية مثله تماماً مثل إنهاء الجوع والفقر المدقع الذي يحياه سواد البشرية، وطبعاً إنه ليس بالأمر السهل، لكن وأمام هذا القاتل الشبح وحدثه الجلل ليس بوسعنا أن نتراجع أمام التحدي إن أردنا تحسين الواقع، فنحن جميعنا ودون استثناء مدينون للحياة، وأينما وجدنا على سطح كوكبنا الحي للجميع الحق بأن يكون الطموح لديهم عالياً، كي يكونوا على قدر المسؤولية.
ها هي الأرقام تتحدث عن شيخوخة الإنسان نتاج خوفه الشخصي لا خوفه على مجتمعه، فهل تنقطع صلاته الفعلية مع الأجيال التي تولد من شبابه، هؤلاء الذين يسجلون الانتصارات اللاحقة، التي تطالب بتحسين حياة الإنسان في ظلها؟ هذه الشيخوخة التي غزت الفضاء، تسقط اليوم في معركة بسيطة تحول الجميع إلى أرقام، حيث لم تعد المفاهيم القديمة قادرةً على إقناع الناس بشد الأحزمة على العقول قبل البطون، وذهبت البشرية تسأل مرة ثانية عن حقها في حياة أفضل.
فيروس صغير جداً استطاع ضبط الانفلات البشري وإيقافه على قدم واحدة، في وقت لم تستطع أعتى جيوش العالم وأسلحته النافذة الدقيقة الذكية والخبيثة على ضبطه، وحده تمكن من إغلاق المدارس والجامعات، وأمر الناس بالتباعد، وفرض الغرامات على المخالفين لأوامره، نعم لقد جسّد انتكاسة أخلاقية غايتها إعادة الأخلاق بعد مراجعة الأفعال السابقة، حجز الناس في منازلها، فاسحاً لها المجال للتأمل فيما عملته سابقاً، وما أنجزته من إيجابيات وسلبيات علّها تستفيق على واقعها، وتصلح ما خربته أفكارها السابقة وأياديها.
كورونا نقطة تحول على مفترق طرق الحياة مفصلية الحضور، شكل بحضوره أزمة خانقة ومتصاعدة عبر تحديه للبشرية وإطلاقه للتهديدات المخيفة، ومنبهاً العلماء والباحثين والمفكرين بأن لديهم فراغات هائلة في مختلف العلوم، أهمها الطبية وما يتعلق بحياة الإنسان وكوكبنا الذي نحيا عليه والفضاء المحيط به.
هل ننتبه إلى أن إصرارنا على قتل بعضنا واستباحة البعض للكل كان هو السائد، والسؤال الذي يفرض حضوره: هل سنستمر على ذلك؟ أم إن هذا الشبح القاتل سينبهنا ويعيدنا لبناء الإنسان والاهتمام به وبناء الأرض التي تعبت من ممارساتنا ونهبنا الهائل لها؟
مؤكد أن السماء تتفرج، لأنها وضعت قوانينها من ذاك الموغل في القدم، موقنة أن عدالتها تتحقق عبر أضعف مخلوقاتها، هل نعتبر أنها قضية تستحق التأمل والاهتمام؟.
د. نبيل طعمة