الصمت سلاح

الصمت سلاح

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٧ يناير ٢٠٢٠

ذو حدّين، التفكّر والسفسطة ضدان لا يجتمعان، فالأول يؤثر الصمت الذي يفترض أن يكون نتاج المعرفة والعلم، ويكون الثاني ساعياً إلى فرض وجوده عبر الكلام بإرادة إملاء الفراغ، من يطلب الوثوق بما يتحدث فعليه أن يؤمن بأنّ الكلام مشترك بين الجميع وحق للجميع، شريطة أن يكون مفيداً، وإذا أردنا إخفاء الحقائق وراء رموز وشيفرات، وارتبطنا بما لا يمكن التعبير عنه نكون كمن يقوم بنفي الآخر، أو وضع الحواجز والعوائق أمام أي انفتاح، وكلما تعزّز الوضوح كان الاتصال مع الجوهر سليماً وعميقاً، ونزعة التعاليم السرية تؤكد أهمية وجود المعرفة، وكشف أسرارها التي توصلك إلى كهن التديّن أو السياسة، وهذا يقتصر على بعض المتمرسين المتمتعين بملكات فطرية واكتساب قواعد وأسس المعرفة والعلم، فإذا فشل الإنسان صمت، وإذا كتم ظهر كالمسالم الأبكم، والمثقفون مؤكد أنهم على درجات يتكلمون كثيراً، وينادون بحرية التعبير، وبحماسة عالية، أما إيمانهم فهو بشكل عام قليل، ونادراً ما نرى وفاءهم لعقلانية معينة حين تبادلهم الأحاديث التخصّصية الدقيقة.

الصمت موقف يقع بين الزمن والقدر، فالزمن عنصر الحياة المادية المهمة للحركة الحياتية، والقدر حاجز الزمن متغلغل في اللامادي، منه يستشعر الإنسان بأنه يراقبه كي يعود إليه حين نشوء أزماته، بحكم أن العقل الباطن الذي يسكن فيه الكلي بصمت لا يعلم عنه أحد إلا حامله، أما الأحاسيس فهي المشترك بين الناس، إلا أن تفاوتها فيما بينهم يظهر لنا درجاتهم الزمنية والقدرية، والعقل يقف بينهما، فالأفكار لا تعكس الموضوع المفكر به؛ بل عقلية الذات المفكرة، لأن العقل موضوع غامض يتفتق عنه مواضيع مقبولة أو مبهمة حسب وجوده في البيئة ومتطلباتها، فإذا لم يصل المثقف إلى مستوى المعرفة بما يطرحه وأغناه بمحيطه يكون أقرب إلى السفسطة في كلامه عن العلم أو المعرفة، والصمت هنا يكون أفضل له، وهذا ما يرفع عنه غطاءها الذي يشير عليه بأنه غوغائي، أو فعلاً يجسد لغة حالمة أو عاقلة.

لابدّ من إيجاد البدائل عن الصمت والفشل والزهد، والذهاب إلى مزج العلم بالإيمان ركني الحياة، في هذه المرحلة التي لا غنى عنها إذا أرادت التطور، ويجب أن تحياها الشعوب الصامتة، وإلا فسيكون الذهاب إلى العدمية غير المبالية، ونتائجها التي تعني هدم الإنسان الذي يتجه إلى الله ذريعةً للهرب من واقعه البشري، مخلصاً كان أم منافقاً، وهذا لا يرتبط بكمية الإيمان به، إنما هو الأمر البشري الذي يسعى لتعليق همومه ونسبها إليه، فإذا فقد الإنسان حسّ الانتقال نحو الأفضل فقد الإيمان بأي شيء سوى إيمانه بأن الله في خدمة الأقوياء، وهذا بحدّ ذاته ما يزيد من ضعفه وعدم قدرته على الكلام، وأي خطوة حاسمة تمكن الإنسان من القيام بها تعني تحسين آماله وأحلامه وأعماله، ومشكلة الناس ومجتمعاتها ودولها تكبر حينما يبدأ الصمت بحفر مجراه، بينما تكون الحاجة لفهم أن الإيمان بالفضيلة قد يمنع الخطيئة أمام القيام بفعل الفضيلة، الذي يسهم في ارتكاب الخطيئة، أي إيقاف الفعل بانتظار تقديم الفضيلة، فإذا تراكمت ولم تصلح تؤدي إلى شنّ الحروب، الحروب القذرة، لأنها تتقدم بعد أن تعلم أن الخديعة الكبرى قد أنجزت لها مهامها المؤلفة من مجموعة من الأكاذيب التي على رأسها تكون أكذوبة السلام، أكذوبة حرية التعبير وإرادة الشعب وضرورة تحقيق الديمقراطية، والصمت الذي يقابل هذه الأكاذيب يؤدي حتماً إلى التأخر عن الركب، ومن ثمّ الفشل، والمواجهة العلمية العاقلة تؤدي إلى فضح كل ذلك، فسلسلة الأكاذيب والأضاليل التي ترافق الصمت تؤدي إلى نشوء أقذر الحروب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وحتى الدينية، وجميعها إن لم يتم لجمها وكشفها يؤدي إلى الحروب العسكرية، وهنا أجدني أفصل بين الصمت الخائف أو الجبان، والصمت الحكيم الذي يحمل لغة التأمل والافتراض، بأن تخرج منه لغة جديدة تؤدي إلى أفعال جيدة جميلة ومبهرة.

 الصمت نوعان، صمت إذا تحدث تتمنى لو لم يتحدث، وصمت يجذبك إليه إذا تحدث، منجزاً تعلقك به وبكلامه، ناهيكم عن صمت الهدوء والخبرة الذي يكون نتاج الحكمة، هذا الذي يستند إلى إستراتيجية النصر وعدم تمكين العدو من الانتصار.

 إن عدم فعل الأفضل ضمن المتاح من القدرات يؤدي إلى وقوع الظلم على المتأخر عن الفعل، لأن الله صامت، لا يظلم ولا يتدخل في الإصلاح، هذه المهمة المعقدة المنحصرة بيد الإنسان، فهو الذي يظلم نفسه والآخر بصمته وكلامه، وهو الذي يصلح، لأنه صاحب الحاجة السليمة أو الخَربة.

الصمت جزء مهم من فلسفة الصبر عند العاقل المبدع والمدير والمتفاعل في شؤون الحياة، لكنه لا يأتي بالعصمة، ولا يأخذ الإنسان حامله إلى الوصاية أو التصوّف، أو حتى لا ينبئ عن إيصاله لمهام القوام عليه، ولا إلى أطوار الأقوام الذين هو منهم. ولعلمكم أيها السادة القراء، إن الأخذ بالعلم يمنحنا فرصة نادرة للفهم، ويسمح لنا بأن نخطو خطوات مشابهة لتلك التي حدثت في عصر النهضة كله، التي فرّقت بين الدين وجميع العلوم والفنون، ومن خلال تلك النهضة عرفت أوروبا أن العلم كل العلوم بصنوفه لا يجري بعد موتنا، وعلم السماء صامت، وهو كذلك، لكي يتعلم الإنسان منه، ومن ثم يتكلم على أرضه ما لم نعرف، فلولا صمت السماء لما عرفنا أننا والأرض حقيقة، لأنها دعتنا للتفكر والتأمل بما نتفكر، فتحدّد الأشياء، وبعدها تتحول إلى معَرّفة، تبني في الفكر المعرفة التي تتحدث، فتحدث الكلام بعد صمت يمنح النتائج المؤثرة إيجاباً أو سلباً

الصمت أحياناً يكون من أجل امتصاص الصدمة، لأنه يشكل مسألة فكرية تخضع لفرضية فلسفية، عمادها الجوهر وفكرة الحركة، وهما اللتان تضعان العقل في منزلة الرقي أو الحضيض، وإني لأعتبر الصمت جوهراً روحانياً يفترض أن يأخذ بالإنسان إلى البحث عن استكمال ما ينقصه، الفكر أولاً ومن ثم الجسد، لأن التأثير الأول والأخير يكون من حاسة العقل على الجسد الصامت الذي لا يتحرك إلا بأوامر العقل الذي يحولها إلى نطق، فمتى يصمت العقل، ومتى يتحدث، ومن أجل ماذا؟ هنا تظهر المسألة الكونية التي عمادها الإنسان وآلياته المتكلمة والصامتة والمتحركة، فإن لم يكن الكلام جامعاً لامعاً وتمتع بالحكمة ورؤوس العظات فالصمت خليق بأن يكون هو السائد، وهو السيد الذي لا يتحدث بحكم رقابته لمجريات الأمور وضرورة متابعته أولاً، ومن ثم نكلمه كيف بك تقرأ وأنت تتكلم؟ وكيف بك تسمع وأنت تتحدث؟ إذاً لابد من الصمت من أجل الاستماع، ومن ثمّ التحليل والتحكم.

ندرة الصمت الحكيم تظهر ندرة الفكر، وتكثر من السفسطة والثرثرة والغوغاء وادعاء الإيمان والعلم والمعرفة، وللأسف ما أكثر ما نشهده في زمننا المعاصر من ثرثرات لا تسمن ولا تغني، بل أكثر من ذلك تؤدي إلى عرقلة البناء والمسير إلى الأمام، هؤلاء الذين يدّعون فهمه ينطبق عليهم القول: «صمت دهراً ونطق فجراً»، وهنا أقترب من الصمت تاركاً الفسحات للشباب وملكاتهم الخلاقة، على الرغم من عدم قدرتهم على زخرفتها، لكنها غدت أكثر من مقبولة أمام لغة الكهول والشيوخ، وإن كانوا يزاحموننا، فهذا حقهم، فهم القادرون على الإصلاح.

أقول: لنذهب إلى الصمت قليلاً، ولنتابع عبر المراقبة والتوجيه، شريطة أن نصل إلى ما نريد، فالصمت الإيجابي علاج فعّال في كثير من محاور الحياة، وسلاح دقيق يستخدم قبل لحظات الحسم، وغدا من الضرورة امتلاك فنونه

 د. نبيل طعمة