أجراس الغضب

أجراس الغضب

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٩ نوفمبر ٢٠١٩

تسمع حتى المختبئين خلف أسوارهم، ملذاتهم تنبئ عن إحداث تغيّرات هائلة في فكر أبناء الشرق الأوسط الباحثة عن حلول علاجية مستدامة، لا مؤقتة ولا إسعافية، فأغلبية المؤطّرين في دولهم أشبعوا من لغة مركبة مغلّفة بمعسولها، وهي التي كشف الغطاء عنها دفعة واحدة، ليظهر الجميع عراة على مسطحات تهتز منذرةً بحلول الكوارث.

 ولم يعد يجدي نفعاً اللعب على سلالم الوقت المهترئة، التي لم تعد تجدي أمام مطالب شعوب المنطقة، والتي لا تريد سوى الحياة الكريمة الآمنة، فهي لا تطمح إلى الرفاه، بقدر ما تسعى إلى السترة وقياداتها، التي لم تدرك حتى اللحظة أنّ فكراً جديداً ولد وتكاثر من جراء الحروب والفوضى وتجار الأزمات، وأحدث رعباً في حياة المسؤولين عن وصول البلاد إلى هذه الحال، وأنجز خللاً في حركتهم، ظهر في اضطراب أقوالهم ووعودهم ووضعهم في مواجهة هائلة بين الاستقرار والعبث، وواجههم  بأهم الإشكاليات المعاصرة، بين حق الشعب بالحياة والتقدم وأحقيته في التنمية المستدامة، وبين الضياع والتخبط والتخلف والإحباط.

أمام هذا وذاك وجدنا أجراس الغضب تقرع بين الصمت البائس والصخب الجامح في وجه مديري الوقت المتمترسين خلف إدارات السياسة والاقتصاد والأديان وأدواتهم المتغلغلة بين مفاصل الشعوب، تجني لهم من دون إدراك لما يحدثونه من آثار على مصير البلاد والعباد.

أجراس الغضب تقرع، حيث لم يعد هناك أسرار اقتصادية أو حتى اجتماعية، باستثناء بعض من السياسة، فعمق الأزمة أخرجها إلى السطح، وأخذ الكل حالة الدفاع عن النفوذ والمكتسبات، فما فرض مواجهات إما مباشرة وإما فكرية مهمة، لكن الجميع توحّدوا ضد العودة إلى الوراء، ونبذوا الحرب وأفكارها البغيضة الطائفية، حيث التقسيم وسماسرة السلاح والمخدرات ونفاق الانتماء والولاء، وعندما ننظر بعين الواقعية، ونرى حجم الممارسات نستطيع أن ندرك حاجتنا السريعة إلى إعادة التأهيل في البنى المديرة أولاً، ومن ثم للجميع، لأن الذي يدير يحتاج إلى الإصلاح، كما هو حال الآباء والأبناء، فالمسؤولية الأولى على الآباء في التربية وزراعة الأخلاق وصناعة المستقبل، فإن لم يصلوا إلى هذا المستوى فالخلل واقع في مسيرة الأبناء، فالمراحل السابقة التي كانت تشكل الجبهات الداخلية المتماسكة والمتراصة هي أوجدت للحكومات الأرض الصلبة لتتحرك وتقف عليها، أما الذي حدث نتاج استسلامها لقناعات وقوفها فأظهر أجراس الغضب، وعلى غير مسبوق في تاريخ المنطقة وضمن دولها، والسبب أن هذه الحكومات كانت تحيا ليومها، من دون إعدادها لملفات الغد، واكتفت بتدوير أزماتها أو إلقاء تبعاتها على سابقاتها، ولو نظرنا في أزمات دول المنطقة لوجدناها متشابهة، لذلك حملت صورة شمولية في أزماتها، وكأن كل شيء ينهار، مع الاعتراف بأن كل المطالب محقة، تتحرك من بين أصوات الأجراس، لتصل شوارع المدن والبلدان، وهي تطول كل شيء، وأهمها سبل معيشتها، فلا يهم أبناؤها ما يحصل مع أولئك المأزومين مالياً، إنما الذي يهمهم بعد إعادة الأموال وسبل علاج المشكلات ومدى انعكاسها على حياتهم، ولن تقدر أي حكومة الحفاظ على الجوع واليأس المولدين الرئيسين لأي خلل أو اضطراب، والمشكلين أيضاً لدواعي التخلي عن التهذيب وقواعد الالتزام، فالأصوات التي لا تسمعها الحكومات اليوم قد تجدها غداً متحولة إلى أفعال جارحة لا يحمد عقباها.

أجراس الغضب تقرع من أجل إحداث الاستفاقة والشروع إلى بناء نهضة، وكأنها تمنح فرصة استثنائية للخروج من تحت ركام أزماتها، تشكل أصواتها مجهراً ومبضعاً لعلاج أو استئصال الخرب، وتحديد نطاق التفكير واتجاهاته والوصول لفهم المجريات أمام توافر بحر هائل من المعلومات والبيانات، التي توضح الكثير من فهم العلاقات بين الذات والآخر، فالذي جرى مع شعوب هذه المنطقة جرى وذهب بعوالم ومكائن الاحتراق الداخلي، والمطلوب تطوير الذهنية المنغلقة إلى محيط مفتوح، تسرع التفاعل مع فهم مقتضيات الحياة وتفاعلاتها أمام الخطر الخبيث المسكون لدى مدّعي النهضة والتطوير، الذين يشكلون مفردات العمالة، ويخدمون الآخر لمصلحة إبقاء الجهل والتخلف اللذين يجددان الصراعات بين الفينة والأخرى.

إلى متى ستبقى الشعوب حطباً جاهزاً للاشتعال من شرارات الفتنة؟ وهل السبب ضعف أداء سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية؟ وما دور الإعلام في وأد الفتنة أو تفعيلها، أو في تقديم الحلول؟ وهل السيطرة على الشعوب تحل المشكلات؟ أم إن توارث السخرية يؤجل الحلول؟ أجراس غضب البؤساء تقرعها شعوب كوكبنا الحي من هونغ كونغ إلى سنتياغو، مروراً ببغداد وبيروت وعمان وإسطنبول والكويت، وما يجري في اليمن وليبيا والجزائر وفنزويلا والبرازيل من شعوب العالم الثالث أو النامي أو المتخلف، من المسؤول عن حضور هذه التسميات بين جنباته هو ذاته أم سلطانه؟ وظهور الصراعات بين هذه الشعوب وإداراتها التي لم تستفد على ما يبدو من التطور الهائل في مجالات الاتصالات وأساليب النقل المباشر بين محاور الأرض، التي استطاعت أن تغذي فئات من الشعوب، وتنتهك فئات أخرى، أي قدرتها على تقطيع أوصال المجتمعات في بلد مستخدمةً الفوارق الدينية والحزبية والسياسية والاقتصادية، وكيف لعبت المعتقدات، في الوقت ذاته، «الحزبية أو الدينية» على الأوتار، ورسمت هويات خندقت بها مريديها، فالمشكلة مضاعفة وتكمن فيمن يصوغون هذه الأجواء، إنْ لم يبادروا إلى إحداث نقلة في أفكارهم، فإنَّ أجراس الغضب تستمر بصمت أو بصراخ، والخوف أن تتحول إلى انفجار نتاج استمرار المنافسة غير النزيهة بين الحكومات وشعوبها من جهة، وبين الحكومات والحكومات من جهة أخرى، علماً أن موارد أي دولة تكفي شعوباً مهما كانت ضئيلة أو كثيرة، إن كانت هناك ثقة متبادلة فيما بينها ونزاهة في الأداء والسلوك واستثمار حقيقي في فكر أبنائها وتحفيز على الإبداع والإنتاج.

إن اعتبار سواد الشعب رعاعاً من بعض أفراد الحكومات، وأخذهم بأفكار عزلهم يولد الغضب ومن ثمَّ تُقرع أجراسه، في البدء حدث هذا أيام الثورة الفرنسية بين نابليون وشعبه أواخر القرن الثامن عشر، ولم يصل إلى نتيجة واحدة، وهي فهم احتياجات الشعب والتوافق معه، لتنجح بعدها تلك الجمهورية، وتضع أسساً فكرية واقعية، تصل الشعب بالحكومة، وها هو يحدث بعد ما يقرب من قرنين في دول العالم الثالث، فما سرُّ هذا؟ وهل وصلت الحكومات إلى فهم أبعاد ما يجري، وخصوصاً ما نراه الآن على محاور الشرق الأوسط؟ وكيف يوزع الرغيف مع الشعارات والرصاص والمصاحف والأناجيل، وينتج عن ذلك الصراخ والعويل، تنتشر الدماء، ويزداد التخلف، من المسؤول؟ الله والكهنوت والساسة؛ مثلث الحكم في عالم الجنوب.

وإذا كانت سورية استثناء بحكم أن لكل قاعدة شواذ، فهي موقع ارتكاز لا ارتكاسَ فيه، وإذا كانت تمتلك رجلاً قائداً استثنائياً فهي تستحق بجدارة أن يقال عنها سورية الأسد، فهو الذي قال: إن ما يجري في المنطقة والعالم لا يشبهنا. ومن ذلك يقع على عاتق الحكومة والشعب الانتباه وتحليل أفكاره وتحويلها إلى واقع عملي والعمل الحثيث لتجاوز الأزمات والمحن، ونحن نقول له لأنه خاصتنا لسورية وقدوتنا وقدوة لسواد الشعب العربي والشعوب الساعية للتحرر من نير التبعية والانهزام والانقسام: إننا لن نكون إلا أوفياء لمبادئك وللوطن، فمهما قرعت أجراس الغضب في محيطنا والعالم، فإن أجراسنا لن تكون إلا أجراس الحب والعمل والأمل

وأجراسك التي تقرعها والتي تجسد لغة مدمجة تجمع التصحيح والتطوير والتحديث، تجد أحداثها بين شبابك الصاعدين ورجالاتك المؤمنين بك، وبهذا الوطن الساكن في قلب الحياة الأنثى، لن يلد إلا الخير والنجاح.

 د. نبيل طعمة