الفنون والتخلف

الفنون والتخلف

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٢ نوفمبر ٢٠١٩

أبدأ قائلاً: إنّ الجاهل والمستهتر يشوهان كل شيء جميل بمجرد النظر إليه، والجمال مساحة للسعادة، معه نتعلم أول دروس التأمل والصبر للوصول إلى فهم الأشياء، فهما يذكيان في نفوسنا النشاط والحيوية، ويرسمان البسمات، ويدفعان بنا إلى الحكمة التي يجب أن نتطلع بها إلى الحياة، ونستمتع بجمالها والتهذيب البنائي في الحركة والملبس والمأكل وتبادل العلاقات بعد إدراك مكوناتها للتخلف، وعقولنا الشاردة هي وحدها التي تحجب جمال الحياة بما فيها من طبيعة وفنون، وإني أقدر أن أقول: وا أسفاه... إننا وحتى اللحظة لم ندرك معاني الجمال وآثاره، لماذا؟ لأننا كسالى خاملون متدينون بالفطرة والتبعية، لا بالبحث والعلم رغم كثرة الإبداع حولنا، ونغمض أعيننا عنه، وما يحيط بنا من الحسن الباهر بحكم ما زرع فينا من تحريم النظر إلى الجمال ومفرداته وامتلاك فنونه، تكبّرنا عليه، والحكمة تقول: كلما زاد المرء بساطة ازداد جمالاً وكمالاً، لأن معنى البساطة الاندماج في الحق.

 أكتب عن النحت لأن نحاتاً من بلدي وجد شجرة يابسة، أعاد لها الحياة بعد أن عبّر عن رأيه فيها، وجسم عليها معنى نبيلاً، لم يبالغ، ولم يسرف، ولم يهزل، لأنه أدرك المرأة، وفهم جمالها وهي تخلع ثيابها، رآها كالشمس تشقّ حجب السحاب، فتبهر أشعتها العيون، وهدف النحات رفع مستوى التذوق الجمالي من خلال رفع مستوى التعبير، كيف لا يكون ذلك وإرادة الفن تتجه نحو الجمال؟ فهي تبرهن للملأ أن الشخصية والقوة والخلق لا تقل أهمية وجمالاً عن الجمال ذاته، ويمكن أن توجد في أي شكل، حتى وإن كان قبيحاً، مثل أي شكل وسيم. بعد هذا تجد التخلف يتحرك مسرعاً ليقطع الشجرة، واعتقاده الخبيث أنها يابسة، فلم يستطع أن يرى الفنان أحياها بعد أن جسّد عليها نحتاً للأم السورية الأولى عشتار، ويسانده في ذلك مريدو التخلف وما أكثرهم في بلادي، ومن يحركهم وصل إلى مصانع القرار، فكيف يحدث هذا؟

همُّ أي فنان أو أديب أو فيلسوف أن ينقل إلى ذهن الناظر معنى أو صورة تسكن النفس وتحاور مخيلته فكرة عميقة، تنقله نحو الوساعة، وترتقي به من الدون إلى الانتقال، من خلال اللغة البصرية، فكل همّه يتجسد في أن يخرج عن المألوف والتقاليد المتنازع عليها، يلفت الأنظار إلى الجمال بإبهاره، وفي الوقت ذاته يفسح المجال لفكره للتعبير عن رأيه، من خلال تجسيمه لمعانٍ نبيلة، فأن ينحت جسداً عارياً من صخرة ميتة أو شجرة يابسة يعني أنه مؤمن بأن الخلق لم يحضر بلباس، وأنه في الوقت ذاته يحيي الموتى من الصخور والمعادن والأشجار، وأيّ فنان تتجسد رؤاه بأنه يحاول إظهار الوجدان الإنساني والتعبير عن أحاسيس الناس المخفية كما أرادتها الطبيعة العارية، لأن الفنان يحيا الجمال بعد أن يستشعره، وإذ به ينقله إلى الآخر عبر لوحة تمثال إبداع لإله، فهو مصوّر الجمال ومبدع الطبيعة وناسج القصص التاريخية والدينية، نتاجاته صادقة المقاييس، صادمة بتعابيرها المفرحة والحزينة.

إذا كان كل من الشاعر والموسيقي يستطيع التعبير عما يجيش في صدره في قول منظوم أو بلحن موزون، فإن كلاً منهما ومهما أوتي من قوة البيان لا يقدر أن يصور الحبيبة مثلاً بما يغني عن النظر إليها، ذلك لأن الشعر والموسيقا من الفنون التي تشغل حيزاً من الزمان، على حين أن النحت والتصوير يستلهمان الواقع من الفنون التي تشغل حيزاً من المكان، وإذا كان الأديب قادراً على أن يقدم لنا وصفاً دقيقاً لتمثال عشتار، حتى وإن استخدم الشعر، فإنه يتعذر علينا أن نتصور ما كانت عليه هذه الملكة الأم من جمال خالد على الزمن، أما أن يرينا نحات تمثالها فهو يعطينا فكرة مجسمة عن جمالها، وأين؟ أمام مبنى كلية الفنون الجميلة، ليخرج عليها مدّعو التحضّر المتخلفون جوهراً مهاجمين ومذعورين من أن يتقدم الفن مواقفهم المختبئة تحت أقنعتهم.

الحضارة ليست مظهراً، أي لا تعني قصوراً وعطوراً وساعات فارهة وماركات ألبسة، الحضارة أيها السادة جينات تسري في العروق مع الدماء، تصرفات ومواقف إبداع وإنتاج نظافة وإيمان، وبناء فكر إنساني يُزرع منذ المهد مع اللوحة والمنحوتة والموسيقا والآداب اللغوية، ومذ أن ظهر الإنسان على الحياة ظهر الفن ورافقه وتابعه، ومازال يرينا الفن الفينيقي والبابلي والآشوري والفرعوني والإغريقي فناً تضمن حدَّ الإعجاز، وتصويراً فاق حدّ التصور، لأنه صوّر مشاعر النفس وأحاسيسها، فكان فناً إنسانياً، وتمثال العذراء أثينا قبل المسيحية المصنوع من العاج والذهب مازال حتى يومنا هذا مضرب الأمثال والإتقان، وبعد المسيحية ومع ظهور الإسلام زُينت قصور أمراء المسلمين في بغداد بفصول من سورة يوسف الصدّيق، التي وردت في القرآن الكريم، واستعين بما جاء في شعر الشيرازي من وصف الغرام الذي استولى على فؤاد امرأة الفرعون نحو النبي يوسف عليه السلام، وما كان لذلك المصور الرسام المستمد لمعناه من اسم الخالق الكلي «المصور» تصوير ذلك الغرام بدقة وروعة، لولا أن كان مؤمناً حقاً أنه تذوّق جمال الغرام، وعاش هواه، فأبدع وأنجز. ونرى أيضاً في عصر النهضة الأوروبية التي انطلقت بعد قيد عصر الظلمات والنفوس قد تحررت بعد كبت، وشهدت هذه النهضة كيف تلاقحت العقول بين الشرق والغرب، فكان الاقتباس وتبادل الرؤى وتحويلها إلى فنون، هذا التحرر حسّن التعابير عن الأحاسيس والمشاعر في حرية مطلقة، فرأينا جوانب تمجّد الدين ورجالاته والملوك، وتصورهم وأمراءهم وعظماءهم من فلاسفة وقادة جيوش وعلماء وموسيقيين ومسرحيين وأدباء ومفكرين، إضافة للملائكة التي سادت تلك العصور، وزينت بها المتاحف والساحات والكنائس، وما تماثيل بوذا وموسى النبي والعذراء والسيد المسيح إلا من أجل تقريب الرؤى والأفكار وتعزيز قيمة وقوة الجمال التي عكست جمال الله على مخلوقاته.

 أليس الله من صاغ إنسانه؟ عجنه بيده اليمنى، وجعله في أحسن صورة، أليس هو القائل في كتابه المكنون: «هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء»، كيف بنا لا ندرك ذلك؟ ومن سبب ذلك الذي سكن العقل، فقتل الجمال عندما منع التصوير والنحت، على أنهما تجسيد وعودة إلى الصنمية والوثنية، وحرّم الموسيقا والرقص والتمثيل، وحتى العمارة لم تهدِ بلادنا حتى اللحظة بارقة معمارية، أي لا معلم لدينا، وكل ما نمتلكه من تراث إما روماني أو عثماني أو فرنسي.

 أين ثقافتنا الفنية؟ أين هويتنا المعمارية ومقطوعاتنا الموسيقية ومنحوتاتنا ورسومنا؟ أصارحكم.. أين التي يجب أن نفخر بها ونبني منها العمق الجمالي العربي؟ كل هذا مفقود، لأن المفسّر الإسلامي اعتبرها أدوات فتنة وإغراء وإغواء وحرفاً عن مبادئ الأديان.

إذاً مشكلتنا مع من؟ مع المفسر، أم مع ناقل الحديث؟ فما فُسّر في ذاك الزمن البعيد لم يعد يصلح لهذا الزمن، لا شك أن الثوابت تفرز ذاتها، إلا أن المضاف والمنقول يجب حذفه أو التدقيق فيه، والذي لا يدركه المفكر الإسلامي حتى اللحظة أنّ العالم يسير إلى الأمام، ولا يمكننا أن نغيّر العالم، ونجعله يسير على شاكلتنا، وهذا جزء من مشكلة المسلمين مع الآخر.

هي ليست حادثة عابرة تلك التي حدثت مع منحوتة عشتار، إنها ثقافة خفية متراكمة ومختبئة في أعماق عقولنا حتى اللحظة، إذا شوهدت قبلة على التلفاز يصرخ الأهل بإقفاله، ومازالت ممنوعة في درامانا، ونحن نفعل السبعة وذمّتها، ونقول في النهاية هذا حلال وذاك حرام. لا تتقدم الأمم إلا بتقدم فنونها وإفساح المجال بشكل علمي أمامها.

 د. نبيل طعمة