الحساب ليس رأياً

الحساب ليس رأياً

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٩ أكتوبر ٢٠١٩

لأنه علم العلوم المادية والروحية، لا عاطفة أو حبّ أو كراهية ضمنه، ولا يستند إليها عند حضوره كمنطق أو ضرورة، الخطيئة لا تتبناها القيم والأخلاق، لأنها تحمل معناها، وإن احترام الآراء وإن اختلفت فهي تجسد لغة العقل، إلا أن الدلائل والأرقام والإحصائيات تكون فوق الآراء، والمناصب والصلات الخاصة أو العامة ومباهج الحياة وآلامها لا حدود لها، ومغرياتها أكبر من أن تتحملها أرض وُجد عليها الخمر والنساء وتلاعب الليل وأنواره الخافتة الممتلئة بالغزل والمقامرة، وأنجزت فيه المعجزات والأسرار والمكائد والمؤامرات الرهيبة، وظهر فيه الهتاف المجنون، وأشرق بالشعر والأدب والوحي والتأملات، رافقها كثير من الظلال والدموع، بعد استفاقة من رعب وعربدة ودماء منتشرة فوق برد قارس وجوع كاره، يرجو خلاله كسرة خبز تعيد له رمقه، فهو يصبر على كل شيء، مهما كان غنياً أو فقيراً، إلا على كسرة خبز تنادي قائلة: الصح لا يقبل النقد، الخطأ متعدد الأشكال، ومهما حاولنا إخفاءه فإن المصادفة تشير إليه، ناهيكم عن المبادئ والقيم التي تشكل له المرصاد الذي لا يمكن تجاوزه، ونسير لنقارب قائلين: إنّ الحساب حقٌّ، ولا مشقة في الوصول إلى الحق، الذي يعالج بعد فك القيود المصنّعة من الكذب والاحتيال، والحق ميزان ذاته، والاعتراف به يولد متعة فائقة للروح وللعقل الذي يؤمن به.

نجمع الأشياء، تتغير، إلا الحساب الذي لا يفنى بحكم أن مقدار المادة المتفق عليها يبقى أبداً كما كان، تتناقله الذاكرة، وتتذاكره بشكل مستمر، أو كلما حضر مثيلٌ له، لذلك أقول: من يبدأ باليقين ينتهِ بالشك، أما إن بدأ بالشك فلا بدّ له أن يصل إلى اليقين.

صحيح أن الحساب يوجع ويضني، لكنه يصحح المسارات، وينتج راحة النفس خاصةً، وللعالم الذي يسعى دائماً للإنصاف أمام ثوابته الراسخة، بأن «واحد زائد واحد يساوي اثنين»، لا يمكن أمام هذه النتيجة إلا القول: هذا لك، وهذا لي، وذاك له، وما للإله للإله، وما للناس للناس، وكلٌّ له سلطته وحكمته العميقة والظاهرة، وأمامه لا نجد بداً من الإذعان لمشيئته، ويمكننا هنا أن نقول: إن الطبيعة البشرية ثابتة، لا تختلف أينما كانت على جغرافية الحياة، ووجودها ذاته في جميع الحقب والأزمان، لأنه- وأقصد الإنسان- الذي لا يتأثر بشيء سوى الحساب، الذي تجده أمامه قلقاً حائراً مستذكراً كل لحظات عمره، ومناقشاً ومقارناً معها ارتكاباته، الصح والخطأ يجتمعان أمامه، وأثناءها يعلم مقدار ما له وما عليه، ومعه أجد أنه يختلف أي الحساب عن الأخلاق والعادات والمعتقدات، أياً كان نوعها، دينية أو غيرها، وأنسب هذه الاختلافات إلى طبيعة الظروف الخاصة والعامة والداخلية والخارجية، وإذا عدنا إلى منظومة العقل والتعقّل نجدها أعدل الأشياء قسمة، وأنصبة الناس فيها متساوية.

لم يخلُ أيُّ عصر من فلسفة الحساب، ومن لا يحسب لا يسلم، وتحت أي مسمى كان الثواب والعقاب، الحلال والحرام، الصح والخطأ، وارتبط هذا بمسألة التوقيت الزمني، فالأديان أعطته الجهل، واعتبرت أن القصاص واقع لا محالة، ولكن كيف وأين ومتى؟ ومدته تقع بين الحياة وبعد الممات، أين؟ في الآخرة.. مستندة إلى القيامة، حيث معها يكون الحساب، فإما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم، أو البقاء في حالة انتظار. لعل كلمة إيجابية أو سلبية تدخله إلى هنا أو إلى هناك، أما الدنيوي المادي فيخضع إلى القوانين الوضعية، التي تحاسب فور وقوع الجريمة، أياً كان نوعها، اغتصاباً، سرقةً، اختلاساً، اعتداءً، تلاعباً بالأموال العامة أو الخاصة، محققة ضبطاً في المجتمعات المؤطرة المنظمة ضمن حدود يُطلق عليها دول، معتبرة إياه مانعاً للفساد والانفلات عبر أجهزتها الرقابية والأمنية ومن ثم القضائية، التي تتخذ القرارات ذات الحالة الإنصافية، تطول مدتها أو تقصر، لكنها تنطق بالنتيجة إلى الحرية أو إلى الحجز، ومن خلالها يشعر الناس بالأمن والأمان والالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق، ما يشجعهم على العمل والانفتاح والإنتاج والإبداع والانتماء، وهنا أؤكد أن الحساب بند مقوم لانحراف الأخلاق، فمن دونه يكون انهياراً لها، وعندما نلمس مراجع أي عصر نجدها في أخلاقه، كما نلمسها في نتاجه الفكري وحركة مجتمعاته وآليات قيادتها، وكلما أقبل مجتمع على دمج البصر بالبصيرة تسارع فيه الاستيعاب لأفكار الصح، واندفع لامتلاك علم العمل والإنجاز وبناء القوى، موقفاً لغة التسليم بكل شيء، وغدا باحثاً متشوقاً إلى الاستثمار في التجارب، واعتاد التذوق من الجمال، وركب مراكب الكشف والاستطلاع.

الحساب يمتلك أسساً وقواعد ونظريات وفرضيات، له تخصّصاته في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والعسكرة، ليس رأياً ولا وجهة نظر ولا اتهاماً مركباً، إنه لا يؤمن بالحسد، ولا علاقة له بالأحقاد أو الضغائن أو نصب الأشراك والمكائد أو الغيرة القاتلة من النجاح، لأن غايته إصلاح الخلل الذي يبدأ بالشك، وينتهي باليقين، وهو أصل حكاية الإنسان الموجود على هذه الأرض التي طالبته بالعمل والاجتهاد والكفاح، ومروره بالآلام والمآسي التي تمنحه العبر تلو العبر، حتى المنظومات الدينية التي توافرت من أجل إصلاحه واستقامته بُنيت من عناصر حسابية، وقايضته بأن له الجنان إن أحسن، وغياهب الجحيم إن أخطأ، وهنا أدخل إلى المقارنة بين الحساب الدنيوي والحساب الأخروي، فالمنطق يشير إلى إحداث النهضة، ويسهم في إظهارها، لأنه يسعى لتطوير الدقة في العمل، مع هامش يسمح بالخطأ الفطري القادم من بنيتي الإنسان العقلية والحركية المرتبطتين بالحياة المادية، وصحيح أن كل من يعمل يخطئ، وكل من يخطئ يحاسب، ومن لا يعمل لا يخطئ، ومن لا يخطئ يكافأ، حيث السعي المعرفي العلمي البصري النظري يتجسد في عدم ارتكاب الخطأ وتوخي الوصول إلى الدقة، التي تمنح الحياة المضافة للإنسان.

الحساب ليس رأياً، لأن جوهره قرار إيجابي، فهو أجر عمل يتفق عليه، وهو في النتيجة عقاب على خلل ارتكب بحق العمل، أو اقتناص غير مشروع بحق الآخر، إنسان أو ما يمثله مجتمع دولة بحق دولة على دولة، وقلت جوهري لأن المخطئ يعلم ويدرك ما قام به، فإذا لم يكتشف من الآخر الإنسان يتدخل الإله، الذي يؤرقه مهما بلغ من قوى إلى يوم البعث المنظور في المقدس الروحي.

لن تقدر دولنا على النهوض ما لم تمتلك الجذر الحسابي، وتتفهم أبعاده، وتؤمن بأنه قادر على إنجاز أُسّها الرياضي، الذي ينتشلها حتماً مما هي فيه، لأن به تستطيع التحول من دول روحية عاطفية إلى دول علمية، تلغي واقعها المأساوي المتغلغل في فكرها، حيث تتفاعل معه، هذا الحساب الذي يشكل كسباً ليس معنوياً فقط، لأنه إن تمّ كان رياضياً يبني الثقة بين مواطني الدولة، وبه تعاد الحياة إلى الإيجابيات النوعية، التي تدل على أن هذا الوطن حيٌّ، ويستحق الحياة فيه، وإذا كان الكسب غير مشروع، ومهما حاولوا إخفاءه، فإن الأحياء قادرون مع القدر على كشفه ولو بعد حين.

الحساب مطلب عاجل، ويعني ضرورة ترتكز على مهمات عاجلة، تراجع حينما نأخذ به مرحلة زمنية عصفت بواقعنا الوطني، الذي ومن خلاله يتمّ تحصين المكتسبات الوطنية وعلاج أسباب التراجعات والاختراقات والخلل في كثير من مفاصل حياتنا كدولة وشعب، لأن إرادة النجاح تشير إلى نسب مهمة، وإلى أنها استطاعت أن تكون أكبر من الرسوب والفشل، وتعزيزها يعتبر من أهم شروط استمرارنا وبقائنا ضمن ديمومة الوطن، الذي يقول: الحساب يساوي نتائج، لا آراء تذروها الرياح، أو أفكار جدلية تحمل الخلاف، أو تسعى إلى الاختلاف

د. نبيل طعمة

.