لسنا ملائكة

لسنا ملائكة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١ أكتوبر ٢٠١٩

تطوير الواقع يتكئ على ما يمده به الفكر الذي ينتج الثمر الصالح لا الطالح منه، والمجموع البشري يحتاج بشكل مستمر إلى الأفكار التي تغني وجدانه وفكره بأنواع من الأفكار، يأخذها أولاً كتجارب، فإما أن يحولها إلى واقع تنعش عمله وتزيد في مواهبه وتحسن ظروف عمله، أو يرمي بها باحثاً عن جديد، وهنا أتجه إلى إدراكنا الذي يقودنا بعجالة إلى أننا بشر.

لذلك هناك ضرورة أن نلتقي معاً لتدارس مفهوم الإنسان والحياة، حيث المنطق يشير إلى أن تكون علاقة متزنة لها إيقاعها ونظم بقاء وفناء أحيائها، وانتقالهم من حال إلى حال، وتكييفهم فيها واستفادتهم من بعضهم، بعد أن تتكون الأسئلة الحاملة لمفردات «من قبل من»، الحياة أولاً أم الإنسان؟ وهل التقيتا معاً لتبدأ دورة أو دورات خاصة بالنمو والانتهاء الإنساني، لأن الحياة امتداد لا نهاية لها، وعلى الإنسان أن يحسن تذوق التقسيم المتسق، الذي تنفح به جزئية حياته، وأن يقدر فكرتها الكلية ونغماتها المتعارضة وانحلال دورتها فيه. كيف بنا نتقبل الحياة الإنسانية كما هي من دون أن ينضم عليها وفيها؟ وأيضا ًعلينا أن ندرك أننا نحن من نرحل والحياة باقية، وإذا فهمنا بدقة تكوينها وإعجاز تنظيمها أدركنا سرّ هذا الجنس وغموض بنائه الذي مازال يُحيّر عقولنا، وهذا ما يميزه عن فرضية الملائكة التي لا تمتلك سوى الطاعة والحراسة والرقابة كما أُخبرنا عنها، وليس لديها أمل، ولا تعرف الألم ولا الكلل، على العكس تماماً، من الإنسان الذي لا يقدر إلا أن يعمل، وبالتالي عندما يعمل يخطئ، وخطؤه إما أن يدمره، وإما يكون قابلاً للإصلاح، وما إن يصلحه حتى يرتكب خطأً ثانياً، وهكذا نجده يحلم ويأمل، يمرض ويتألم، يفرح ويحزن، يستكين وينفعل، يبني ويدمر ضمن دورة حياتية، ما إن تكتمل بكل ما فيها حتى نجده ينتهي خطفاً منها، أو يغادر منطقياً بحكم التراكم العمري والمعرفي، إلى أين؟ لا ندري.

لم يعد أحد من ذاك الوراء ليخبرنا بالذي حصل، إنما هي حالات إخبارية أبدعها الفكر التكويني، تناقلتها البشرية، غايتها الأولى والأخيرة تحسين الأداء الإنساني وجعله أفضل، وإذا اعتبرنا أن العقل هو أفضل عضو في تكوين الإنسان وميزته الفريدة الناطقة المشاغبة والعاقلة، فعلينا فهم مهمته الرئيسة، وهي تحسس الخطر والحفاظ على الحياة التي تحتاج إلى تأمل وتفكير عميق فيها لكي تستمر، ولكن حصر العقل بمهام التفكير وتشغيل الجسد وأدواته يؤدي بنا إلى فهم دقيق لسلوكنا اليومي وبرمجة أفعالنا التي يجب أن تخفف من وطأة الحياة علينا، وجعلنا نستمر فيها شريطة التحلي بالإيمان بما نريد إنجازه، هذا الذي يجب أن يسبق العمل، وأن يكون اليقين متوافراً، حيث يشكل أساس الطمأنينة المولدة الرئيسة لنجاح مساحة الحياة، لنصل إلى سؤال مهم «من نحن»؟ وربما تتعذر الإجابة عنه، إلا أننا ينبغي أن نكون متفقين في أننا منهمكون في ضروب النشاط اليومي بفائدة أو من دونها، وبإنجاز يتفوق على وجودنا إلى أن يصل مرتبة الإعجاز أو من دونه أيضاً، وهذا ما يفرق بين العقول المحمولة في أجساد الناس عن بعضها، ويمنحها درجات، فاللهاث وراء الأشياء المادية مضيعة للوقت، إن لم يحولها الإنسان إلى فائدة مادية ومعنوية، لأن كل مادة لها دورة حياتية محددة، كما هو حال الإنسان اللاهث وراء سراب، وبالتالي أضاع وقته، وصرفه من دون إنجاز، وهنا أقدر أن أصنف العقول، فهناك عقل حيواني مسالم، وعقل متوحش، وعقل طفولي طفيلي، وعقل عَيشٍ أو تعايش تقليدي أو قسري، وعقل ديني يتملكه التسليم، يدور بفلك الغيبية، متشدد أو متسامح أو غيره، وعقل تقليدي متحضر شكلاً ومتخلف مضموناً، وعقل ريفي أو متمدن علمي المنشأ والاتجاه، أو ذو جهالة بالمبادئ والقيم، وعقل مخترع متطور، وعقل قائد يتمثل الإله، يؤمن بأنه خليفته، يقود بفلسفة الراعي والرعاة، وعقلٌ رئيس فهم الإنسان والحياة، وأنه الرابطة الواقعة بينهما، وعلى عاتقه يقع الجمع لا الفرقة.

كل هذا واضح ومازال الكثير لنتحدث به عن فرادة العقول في تصرفاتها، ولكن الأهم من كل هذا وذاك هو ذاك العقل الجامع اللامع المحب للحياة، الذي يستوعب أبوابها، يدخل ويخرج متجولاً فيها من دون ريبة، ولا يمتلكه ارتياب، فلا هو بملاك، ولا هو بشيطان، يؤمن بأن المسكون أيضاً في جسد البشر المادي، عُنصري الخير والشر أو الصح والخطأ، الضمير الأخلاقي والشيطان، الله  المكون والمتكون الإنسان، فإذا جرى إلى الأول الصح رفعه، وإن جرى خلف الثاني هزمه وأنهاه.

 إذاً.. أين المشكلة؟ في حياتنا، أم فيما نفكر فيه، أم فيما أوجدناه، وعدنا نختلف عليه؟ أم في الخطايا التي نرتكبها؟ لتكون في مجملها حالة اختلاف البشرية القوية والضعيفة.

 لماذا وجد الرجل الإله والأنثى الاستمرار؟ أليس من أجل أن يتحدث ويقول للناس من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر؟ وهنا تعم الخطيئة الناتجة عن الفعل، وقبله وجدت الوصايا الأخلاقية المؤسسة في أعماق الشرق الروحي وبعده، أتت الخاتمة لتشير إلى أن كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون، هل تبنا؟ أعطوني مثلاً حياتياً واحداً على معنى التوبة القادم من العقل الديني، فما حال الخطيئة في العقل العلمي العلماني الممتلئ بالتجارب، وكيف يتم الاعتراف ضمنه بالخطيئة، ومن ثم الإصلاح؟

سئل أحد القادة كيف تقضي على المفسدين والمهربين الكبار، قال: أقربهم أولاً، وأصادقهم، ثم أقضي عليهم، لأنه لا يمكن إصلاحهم.

أليس واضحاً أن الشهوة لا العقل هي التي تحكم العالم؟ لأنها حاملة لكل الغرائز من الجنس إلى المادة إلى الدين إلى القتل، وهي تجعل الإنسان محبباً إلى النفس، وأكثر وداً وتودداً، أم تزيد في النفوذ والحقد والحسد عليه؟ ليست العقلانية، لكن جموحه وشطحه أي اللا عقلانية، فيتبعه الآخر، ومن سرعان ما يكتشف أشياء مبهرة أو قاهرة.

 لذلك أقول: إنه الإنسان لا يمكن له أن يكون ملاكاً، ولا أن يكون شيطاناً، إنه الاثنان معاً، وهذا بسبب تهافته فرداً أو مجتمعاً على القيم الأخلاقية، وصراعه الدائم القائم بين الروح والمادة، والجنس والسياسة، البناء والهدم، يدافع عن الحرية، ويطالب بها وهو عبد لها، يتلطى تحت غطائها، وينشد العدالة، وهو الذي يعطلها بأشياء من المكر والرياء والضعف أمام مغريات الشهوة، التي لا يمكن أن تفارق حياته، هذه الشهوات التي تولد من الخوف والتقليد، وهما يلغيان عقولنا في الظلمات، ويسمحان لنا بألا نكون ملائكة، صراعه مستمر لا ينتهي إلا بانتهائه، تصنيفه إلى كبار يعرفون، يعلمون، يعترفون، وصغار ينافقون، يكذبون، يهربون، يرى الحياة كم هي قاسية وعاطفية، فإن لم يتمتع الإنسان بحكمتها يفقد الشجاعة التي لا تظهر إلا عن فهم للحياة والمنطق، يتحدث على أن الحكمة تقود إلى الشجاعة، لكونها تقف ضد المطامح الشريرة، وتمنحنا الحرية والتحرر من خداع الفكر ومكر الحياة المغرية، هذا المكر المسكون في العقلانية الفائضة التي تأخذ بالبشر إلى اللا عقلانية.

لسنا ملائكة، لأن إرادة كن أرادتنا كذلك، ولو كنا ملائكة لما كان هناك حاجة لوجود قوانين وتشريعات ودول وحكومات وقادة، إلا أن تلك الإرادة أرادت أن تعمل وتتابع، هذا صح وذاك خطأ، وهذا حلال وذاك حرام، موضوع اخترته وسبكته بين الإنسان والحياة، لأن التلظي اليوم واقع عليهما، وإنسانها لا يدري عما يبحث، هل يجتاز حلك الظلام ويذهب إلى الأنوار؟ أم إنه ارتضى وسلم لنظم عيشه؟

د. نبيل طعمة