إنقاذ الرحمة

إنقاذ الرحمة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٣ أغسطس ٢٠١٩

بالحبّ، لأن الحياة سجال ومبارزة، كدٌّ نتاجه نجاح أو فشل، فتنة ونساء وبحث عن الجمال المتجسد في الجماد والأحياء، لا فوارق بين الألوان والألحان لحظة الوصول إلى الترفّع عن صغائر الأمور، وكذا الأمر ينطبق على ما بين المشاعر والظلال الآمنة التي ينشدها كل إنسان، إنها جميعاً تعبر عن معنى واحد، ألا وهو أننا أحياء موجودون متحركون ضمن مفردات الاتزان والهزل، ندغدغ الجد الذي نؤطره مع الأخيلة، ندمجها في الواقع الذي يدعونا إلى مراقبة الخرافات مع عالم يغطّ في غياهب الكسل المعرفي.

أغلبية الشعوب تتثاءب معدية بعضها من إفلاسها الطويل، نتاج فقدانها النبوغ والإبداع، ولهاثها خلف الوضيع من مجرياتها، تنهمك البشرية في تلاوة الأدعية، وتأخذ بطقوس الصلوات، علّها تصل إلى الإله الذي لا يفيدها إن لم تفد نفسها، تنادي بالحب، تراه ممتلئاً بالفوضى والشغب، يهدم الرؤى، ما من معركة تدور إلا وتخلّف الكوارث والدمار مع القتلى، وولادات لا تعرف نسباً لها كيف نبنيها؟

الحياة أمامنا، هل تأملنا آليات خوض غمارها والنساء تجذبنا إليها، ولكل واحدة منهن لغة وحضور؟ من قال إنهن متشابهات؟ لنحمل أمامهن علوم القلم بيد، والورد مع الناي بيد أخرى، ولنشهد عصر عودة الفرح المزهر، لنقرأ جنون رسائل الحب التي تسقط من النوافذ، وهمسات ترتعش بها شفاه العاشقات، وبعد لتكن الخلوات الآثمة أو المواعيد البريئة أو العقود والعهود المقدسة.

من يحاسب من؟ وعلى ماذا؟ من ينقذ الرحمة من أتون شعب منقسم وشارد، يوزع وجوده بين هذا الحاضر، وذاك الغائب عما يحاك له، حيث نجده غارقاً في تطاحن معيب، ظاهر وخفي، وتواطؤ قميء فاضت به الفواجع، وحاصرته من كل حدب وصوب؟

أهكذا نواجه ما منحتنا إياه الحياة المتحدة مع روح الأرض والسماء بقوة لازمة مع أبناء أحيائها المدعوين لتشكيل الوحدة الإنسانية التاريخية؟ حيث شعارها الحب، وأهم خصائصها الرحمة التي تدعو للاستزادة من المعرفة والعلم المولّدين للجمال والإبداع.

أليس صحيحاً أن الإنسان أشبه بالبركان؟ يظل هادئاً حتى يمسه الحب أو الكره، فيثور وينفجر لتظهر مواهبه الدفينة وملكاته الكامنة، ويتفتح عقله كالأزاهير، وقلبه تراه مستعداً لاستقبال ما يستهويه بفرح ومرح وبساطة، ويبدأ بلغة الجمال، ويتخيّر مواضعه، ويبرز محاسنه، ومعه يصير حنوناً، مرهف الحس، طيّب الكلام، أنيق المظهر، رحيم الخطوات، ملتزماً في إنجاز المعنى، ومؤمناً بظهور المبنى من خلاله.

متى نتمكن من رؤية الأشياء على حقيقتها؟ أليست النساء مسؤولةً أولاً وأخيراً عن رقي مجتمعاتها أم الرجال أم الأبناء القادمون منهما؟ هل نرى الأشياء على غير حقيقتها لأننا نتعلق بالمظهر فقط، من دون فهم أو بذل جهد للدخول إلى الجوهر؟ وهل صحيح أن الذي يشبع لن يجد أي طعم للخبز والملح الأجاج المقطر من الماء الصامت، هذا الذي امتاز الإنسان به عن سائر المخلوقات؟

هل نحن شعب نشيط؟ هل أظهرنا حتى اللحظة نشاطنا في الحرب، في السلم، في الإيمان، في الإبداع، في بناء المصانع والجسور والطرق، في زرع الأرض وتسويق منتجاتها؟ هل الإرادة الإلهية معنا؟ ماذا تفعل إن لم نردْ نحن؟ هل فهمنا معنى الحضارة ومعاني الحياة؟ أم إننا أَدْمَنّا المرأة والكأس والمال والخطيئة أمام عدالة لا نجرؤ على تنفيذ أحكامها، رغم أننا ضعّفنا قوانينها، ورحنا نطالب بتطبيقها، لأنها تجسد الرحمة، وأحقاداً يطفو طغيانها تجعلنا نستعد للسقوط في وديان العدم؟

كيف بنا نتجه للكشف عن بواعث وولائد الرحمة وفهم العمق الحيّ لعناصر الوجدان التي غدت دفينة ومستترة في قرارة كل نفس بشرية، ونظهرها في عالم النور الذي يأخذ بنا إلى الإيمان المنطقي، وبه وحده تتم معالجة جميع مظاهر الطبيعة البشرية، ويحوّل التباين والتنافر إلى تجاذب مقدّس، بدءاً من وحدة الجسم بالروح، وصولاً إلى وحدة المجتمع، وهنا أؤكد أن الغاية هي البحث في الحب الحسي المتوافر على الأرض، وفي المحيط هذا الذي وحده يوصلنا إلى فهم الحب الروحي، الذي انسحب من شرقنا الآمل، إلى ذاك الغرب الفاعل، بعد أن امتطى قمرنا صهوة الغمة المطبقة على عقول سواد شعوبنا في الشرق، التي استسلمت لدنيا الظلام وثورات الرمال التي لم تعرف الحب أو الرحمة.

ماذا فعلت الأديان وطوائفها ومذاهبها أمام الأيديولوجيات الحداثوية ذات المناهج العلمية والعملية، التي طرحت أفكاراً أكثر من جيدة وخلاقة، وعملت كثيراً على تطويرها لجذب الناس إليها؟ ماذا يفعل القائمون على إدارات الشؤون الدينية من أجل ذلك؟ أليس أهم شعار ديني الرحمة والمودة؟ أين نحن من هذا الشعار الذي تصنعه الأديان كَأُسٍّ رئيس في أي طرح يتقدم به الأئمة والخطباء؟ أم إنه بقي فقط بنداً أو شعاراً هذا الذي يقتضي أمره الشرح والتفسير والتنفيذ بحثّ الناس على إصلاح فسادهم الفردي بحق بعضهم وبحق دولتهم بدلاً من الترهيب والتكفير، وتعزيز الخوف بدلاً من إنماء مشاعر الحب والصدق والأمانة، وإطلاق تهم الزندقة والهرطقة والارتداد لمن يخالفهم أو ينقض فكرة من أفكارهم، أو يحمل فكرة مضافة تطور وجوده، أو يدعو إلى تطوير أدائهم، أو يدعوهم لفتح باب الاجتهاد المغلق منذ ظهور التفاسير الأولى مع ذاك الموغل في القدم.

وكما أسلفت أين نقف اليوم بعد أن ذهب الجميع لتطوير أفكار ما لديهم؟ حتى الثوابت يعاد التدقيق فيها، لأن عزم تسارع التطور أصبح متقدماً جداً، والكل يعترف بأن لديه أخطاء إلا المديرين عن هذه الشؤون الذين أوقفوا النقاش فيها، ألا يعاني الواقع جموداً فكرياً، ويحيا كراهية الحب والعمل والإبداع، فَسِرُّ هذا الوجود ممتلئ بالحب والرحمة، لأنه سرٌّ محجب قديم قدم الزمان، ومستمر ضمنه إلى نهايتنا التي تُوقفنا واجمين مبهوتين إلى غير رجعة.

هل نحن قادمون من كهوف الرعب المحفورة في أعماقنا؟ أم من حزن الأيام المتثاقلة علينا؟ وإذا كانت الرحمة ذائقة جمال العقل، فكيف بنا نقسو على هذه الذائقة، أو نُعرض عنها، ونذهب لتداول اللا معقول الذي يخالف الطبيعة التي قام من أجلها إنسان الحياة بكل مجرياتها؟

عندما فقدنا الرحمة غدونا مزيجاً من الديمقراطية والفاشية مع الكفر والتديّن، وعجنّا خبزنا بالفساد والرذيلة، هذا الذي كنا نرفعه عن الأرض، نقبّله ونقدّسه ونضعه على رؤوسنا قبل تناوله، بدّلنا كؤوس الخمر والهوى بكؤوس ملئت بالدماء، فدارت الرؤوس، وانقلب أمام العيون كل شيء.

متى نعلن السلام على الحرب مع مفرداتها الغريبة والمروّعة؟ من كان يعتقد أو يفكر أو يظن قبل تلك الأعوام التي تجاوزت الثمانية بأنها مؤلمة وقاسية جداً؟ وأن أبناء الشعب الواحد دخلوا في قتال عنيف وظالم، غزته قوى تعمل في الضوء لا في الظلام، وألبست بعضه أثواب الإرهاب القميء، كي يقضي على بعضه الآخر؟ كيف هذا ولمَ كل هذا؟ والصيحات الإنسانية تعلو، تندّد بالذي حصل، بعد أن اعتبرته اعتداءً صارخاً على الرحمة، أسفر هذا الاعتداء عن مآسٍ مذهلة، فاقت كل توقّع.

إنقاذ الرحمة يحتاج إلى قلوب تخفق بالحب، ونفوس عطشى للحياة المؤمنة، وعقول ملأى بمفاهيم علمية الإنسان، وإيمان دقيق بالرابطة بين الخالق والمخلوق والإنسان مع المخلوقات، تبلسم الجراح النازفة، وتجبر القلوب الكسيرة، إنها تحتاج إلى إيثارٍ عملي من المسؤول مهما كان موقعه، وعطف من الشيخ والكاهن والمؤمن الأمين، فإذا تحقق ذلك ظهرت قوة العلاقة ومتانتها بين أفراد المجتمع أولاً، والمجتمع والدولة ثانياً، فهل نعمل من أجلها لكونها بنداً رئيساً من بنود الإيمان والأخلاق والدين.

د. نبيل طعمة