الإسلام والحداثة

الإسلام والحداثة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٦ أغسطس ٢٠١٩

الحياة عملية تعلّم يمضي الإنسان عمره باحثاً عن الطمأنينة، محاولاً أن يصل إليها لتحقيق أكبر قدر من السعادة، لأن حاله يسعى إلى ذلك، فهذا مطلب يرد على القلب، لكونه جزءاً من هواه، لازم من غير تعمّد ولا اجتلاب ولا طلب في الاكتساب، فالأحوال مواهب تحضر من غير الوجود، والمقامات نصل إليها ببذل الجهود، وصاحب المقام ممكّن في مقامه، ونديم الحقيقة مترقٍّ عن مادياته، أما المقامات فهي اجتناب الخطيئة المقصودة وعدم الوقوع في الطبيعية منها، والترفّع عن صغائر الأمور والصبر على الجلل، إذا ما اعتلى وجوده والرجاء المقرون في العمل والرضا فيما وصلت إليه ذاته، بعدها يرسم طريق طموحه.

أما الأحوال فتكون في القرب من الأحداث والمحبة بالإيمان والرجاء بالاستزادة في إصلاح الذات والشوق مع الحب للعمل والإبداع، ومن دونها لا يكون إنساناً، والأنس بالأنيس والأمان له وبه، بعد الكثير من الخبرة والاختبار اللذين يوصلان بالشك إلى اليقين، وإني لأحمل مرارة في نفسي، وأنا أرى انتشار جماعات إسلامية تعمل على إرجاع المرأة إلى عهود الخدمة الزوجية والطاعة العمياء والإنجاب والحجاب، من أجل أن تظل ساذجة وقاصرة ومنحصرة ومشلولة الحركة تحت مسمى حفظ حصانتها ومنعها من أن تبدع وتهوى، وتحويلها إلى حالة شرف من دون الانتباه إلى شرف الحياة الأكبر، أولئك الذين ينادون بإلغاء القوانين والتشريعات الضامنة لحقوق الإنسان، ليحل محلها الفقه الإسلامي القادم من ذاك الزمن الغابر المستمر.

 إلى هؤلاء المتعلقين بأبراج الماضي أقول لهم: إن لم تنفتحوا على الحياة فستبقون ضمن منطقكم الضيّق الفاقد لمرونة الحياة وانسيابيتها التي تدعوكم للتعلم والاجتهاد، كي تكونوا ضمن ركب الإنسانية الذي إن لم تبادروا فسيتجاوزكم، مؤكد هذا، فالعالم وأمام الانفتاح المذهل تحول إلى أسرة واحدة يتأثر بعضها ببعض.

 تصارحوا بالعلم تجدوا انكشاف المشاريع الدينية التاريخية أمام العالم العلمي المذهل، الذي نصبح عليه، لنجد أنه لن يعيبه البحث عن عقيدة أو أيديولوجيا جديدة، تتفق مع ما بلغه من نضوج في العقل والإدراك والعلم والقوة، ومن يتعمق في دراسة حالة الأمتين العربية والإسلامية فلن يجد الجواب المطمئن الذي يبحث عنه، والمتجلي في هل ستنهض هذه الأمة، وتأخذ مكانها كقوة مؤثرة علمية وعملية، وتكون مؤثرة في السياسة العالمية؟ والسبب ذاك التصارع بين الماضي والحاضر على الواقع والمستقبل، فهل يكون النهوض على أيادي الجماعات وأئمتها؟ أم على أيادي العلمانيين وآرائهم المقبولة والمرفوضة في آن بحكم المسكون التاريخي؟ وهنا أشفق على نفسي وعلى هذه الأمة في استحضار الجواب، لأن متطلبات الوعي الأولى هي البحث فيما يعترينا من نقص والذهاب إلى إصلاحه قبل السعي لامتلاك القوة، فإصلاح الباني يكون قبل إصلاح البناء.

 أين نحن من جوهر الإيمان وصورته الإسلامية التي تمّ تشويهها منذ قرون عديدة؟ ألا يفترض أن يكون هناك اتحاد بين المكون والمتكون؟ فالشفافية تدعو لوحدة الجوهر مع المظهر، أوَلم يساوِ بينه وبين خلقه في طرحه لوساعة كرسيه؟ وأن العبادات ليست سوى وسائل لا غايات، وجميع أحكام الإيمان مرنة تخضع في طبيعتها لظروف الزمان والمكان وطبيعة الحوادث وحقيقة الوقائع والواقع ومصالح الناس، أوَلم تحارب الرؤية الإلهية السلطات الدينية عند منعها الاجتهاد بحكم أن لكل إنسان بصيرة؟ أوَلم تُجز تلك الرؤية ترك الفروض إذا كان في أدائها تأخير أو ضرر؟ أوَلم تعلمنا أن الترغيب والترهيب مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بصفات الإنسان الخيّرة أو الشريرة، وبما يكتسبه الإنسان أو يقوم به من صلاح أو فساد أو خير أو شر؟

 أسأل عمّن قتل التواضع المشرق في نفوس أبناء مجتمعنا وبددنا طول الانطواء والانزواء؟ أوَلم يحن الوقت لنبرز إلى الآفاق، ولنبصر أنفسنا من جديد؟ هل تعلمنا كيف نهتف لجغرافيتنا، ولوطننا صباح مساء؟ وهل تعلمنا الإيمان بمعاني هذا الهتاف: حماة الديار عليكم سلام، وبلاد العرب أوطاني، وسورية سورية؟ ولا ضير أن نستذكر نابليون وقصة حلمه منذ الطفولة من طلبه للمجد، كي يخدم فرنسا إلى أن أصبح قائداً لفرنسا ولبعض من العالم، أليس هذا برأيكم منهجاً يجب أن يستمر ويحافظ عليه بقوة ضمن ضرورات التحديث والتطوير لمنهجنا الفكري وأدبياتنا وأخلاقنا وقيمنا أم ماذا؟

مهم جداً أن نروّض أنفسنا على تقبل النقض وامتلاك أسس الحوار، لأن فيها قيماً إنسانية كبرى وإنباءً على تقدّم واسع في شخصية المجتمع المتكوّن من إنسانه، وإذا أَجَلنا نظرنا بين الماضي والحاضر نصل سريعاً إلى أن فلسفة النمو والتقدم تتحرك بقوة إلى الأمام، ولا تنتظر المتوقفين، وهي وحدها القادرة على بعث قيمة الإيمان، وتُحوّل تقهقرنا الممتلئ بالحيرة وتَأرُّقنا وقلقنا إلى طمأنينة، وضعفنا إلى قوة، وقسوتنا على بعضنا إلى مرونة، وتعيد لعروبتنا شكلها الحضاري، وللعرب قوة لغتهم، لهاتين الحاضرتين المضافتين على الإيمان، تهيّئان الإرادة المتطورة للمؤمنين، وتقدمان تحديدات ومعاني نوعية لمفردات العصرنة مثل الحرية والمساواة والوطنية، وإذا قدرنا على استيعاب ذلك تمتعت عروبتنا الحاضنة للأديان وطوائفها ومذاهبها والقوميات والإثنيات بالصحة والعافية والقوة، وتهيأ للجميع محاولات للتفكير والتعبير المنطقي والأخلاقي، ومنها يظهر الإنجاز والإبداع المعززان للغة الحضور الدائم بين الحضور.

 إلى ماذا نهدف من كل هذا؟ مؤكد إلى أن نكون مواطنين متجذّرين لا رعايا مقلّدين، ولا مريدين للعادات والطقوس، لا مشبوهين متكوّنين تائهين بين المعرفة والثقافة والعلم، أو بين السياسة والدين، ولنذهب للاستثمار في عقولنا، ولا ضير في أن نخطئ ونزيغ لحين، شريطة أن نعكس ذلك على ما ننتمي إليه، وأن نسرع إلى الإصلاح فيه.

الخطأ الذي يثمره تحرير العقل من الخوف خطأ فاضل وأكثر من جيد، لأنه سيتجه للمشاركة الوجدانية التي تضبط حرية الفكر وحرية ما ينتجه، شريطة أن يكون متقبلاً من الآخر، وهذا ليس بعيد المنال أو غير قابل للتحقق، شرط أن نتعلم متى نتحدث، وبأن الواجب الأول هو كيف نسمع، وأن ندخل لنخشى، وقبل أن يقول كل واحد منا أنا، يجب أن يقول نحن، وإذا كان هناك من أنا، فيجب أن تكون أنا المستنيرة الفاضلة، التي تحفّز على إدراك ما نريد وما نحن عليه، تلك التي تتشبّث بالحقوق، وتؤدي إلى النهوض بالواجبات الأخلاقية تجاه العلم والعمل، قبل التحدث بالدين وبالطقوس والآخرة وما فيها.

هنا نصل لنسأل عن المهم في عنواننا، كيف بنا نحل معضلة العلاقة بين الإسلام والحداثة، التي ينبغي أن تكون أكثر من توافقية ومتطورة في طرفيها، والوصول إلى ذلك يدعونا لكسر التشدّد وجسر الهوات التي يتمترس خلفها مريد كل طرف، فسورية تاريخياً رفضت قبل ومع ميلاد السيد المسيح الفكر الروماني الغربي، وقاومت غزواته، كما رفضت فكر الشرق، وامتنعت عن الأخذ بأفكاره، لكنها قبلت الإسلام القادم من الجنوب، وتفاعلت معه، وقدمته إلى العالم أجمع، بتلك اللغة السمحة الراقية الممتلئة بالإيمان، بالحياة وإنسانها وخالقها متجانسة معهم، وتألقت بهذا التفاعل الذي أنجب فيها التنوّع، وآثرت في نفسها الحفاظ عليه، لأنها وجدت فيه استمرارها، أي في هذا التنوع الذي أعطى الجميع الحريات الدينية، وبهذا قاومت كل أنواع الاضطهاد الديني، الذي يعتبر المسؤول عن ظهور العنصرية الدينية والحداثوية وتعزيز إيمانها بما تملك، والأخذ بيدها لتحقيق الانتصارات المتتالية، حيث من المؤكد أنها ستوصلها إلى ما تريد صعوداً، بينما يتساقط الآخرون من المعتدين عليها، فالحداثة تعني تقدمها إلى الأمام بما تملك مع الحفاظ على مكوناتها.

د. نبيل طعمة