المدنية التقليدية

المدنية التقليدية

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ يوليو ٢٠١٩

تعتبر من أهم أسباب تخلف الأمة العربية التي عايشت الآلام طويلاً، وهي في الوقت ذاته لا تزال لم تستفد إلا مما ندر من كل التطورات العلمية والتقنية رغم ما حُبيت هذه الأمة بموارد متعددة وذات مخازين هائلة، مثل النفط والغاز والفوسفات واليورانيوم، ومحاصيل غذائية وفيرة كالقمح والشعير والقطن، وجميع الوقائع تثبت وتشير إلى أن قياس آثار التقدم والتطور والارتقاء يكون في الإنتاج العملي الفعلي، لا الاعتماد على الاستخراج والتصدير، فالتقدم العلمي يمنح الثقة بين أفراد المجتمع، ويلغي الكثير من المخاوف حول الغد أو الحياة المقبلة.
لا يزال المجتمع العربي يجد صعوبات فائقة، لأنه يحيا مقارنة وهو يستشرف العناصر لإحداث التوازن أو الوصول إليه، ولو في الحجم الأدنى، والسبب أنه لم يدخل في أفكار تحليل الوقائع، ولم يمتلك أسرار غموض أسس وجودها.
في الدول التقليدية لا يؤخذ بعامل الوقت والجودة الاستثنائية كمعيار في عمليات قياس الإنتاج والإبداع، لأن ثقافته قامت على عاملي الانتظار وعدم تعلم الدقة، وممكن جداً تلف المنتج، ومن ثم إعادة إنتاجه، أي من دون فهم لفلسفة التكرار السائدة التي تجهلها مجتمعاتنا، وفي البلاد الأخرى تؤدي إلى ظهور الإبداع والتطور، ولننظر في عمليات التكوين المثالي لكوكبنا الحي، الطبيعة إضافة إلى الكائنات الحية بما فيها الإنسان، هذه الطبيعة التي منحت الحياة، الأوكسجين والماء والتربة، وهذا منذ مليارات السنين، من أجل ماذا؟ لإتمام العمل الضروري الذي يظهر في الاحتياجات المتجسدة في المنتج، كل هذا الذي أوجده الفكر العملي للإنسان، إلا أنه مازال الكثير منه غير واضح المعالم، وإنه لم يسعَ لإيجاد ملامح تخصّه.
مئات الأبحاث تجري حول عالمنا العربي، وإذا تابعناها نجد فيها الغث والسمين، وأيضاً المغرض والنزيه، فهل وصلنا إلى فهم الإشكال الذي نحن فيه؟ أم إننا أمام واقع يحيط به الغموض، وتكتنفه الأسرار؟ فنحن لم نصل إلى التفاعل والأخذ بالصفات العلمية الموضوعية التي نستخلص منها فهم وجودنا، وعلينا أن ننتج لأن الحياة بلا إنتاج تعني البقاء في التخلف، حتى وإن بنينا المدن والطرقات، ولبسنا أحدث الماركات، لأن المدنية الحقيقية تحضّر واتزان وقوة وإنتاج، ومازالت أمتنا تعتقد أنها انتقلت إلى المدنية، من دون قدرتها على إنهاء تخلفها، أي نقله معها لتبقى تحت مسمى المدنية البدائية أو المدنية التقليدية، التي تقلد فيها كل شيء من دون تَمْدِين الجوهر، فالفلاح مازال يتعامل مع أدوات بدائية، ولذلك اسمه فلاح، ويتباهى بذلك، لم يستطع الانتقال إلى عمليات المزارعة، ويصرّ على أنه فلاح ابن فلاح، ويتم التباهي بها أيضاً أمام مدعي المدنية أو أبناء المدن، بدلاً من استخدام مسمى المزارع، الذي غدا يستخدم كل وسائل التكنولوجيا الحديثة، فترى شكله وجوهره مدنياً متحضراً. وأيضاً العامل الذي لم يصل إلى مفهوم العمل، وقبل مسمى الكادح وشكله المقهور المتعب اللاهث خلف لقمة العيش والمنحصر فيها شكلاً ومضموناً.حتى التاجر لم تصله فكرة التجارة الحقيقية، لأنه لا يحلم إلا بالمال الذي به يقدر أن يشتري زوجة جميلة وسيارة فارهة، ويلبس الماركات العالمية، من دون وصوله إلى فهم حقيقة المدنية.ولنقس على ذلك الموظف والمسؤول الذي يفعل الأفاعيل، ومن ثم يعود لينتمي إلى منبته الطبقي أو القبلي أو العشائري أو الديني أو المناطقي.
إذاً، أين المشكلة؟ ومن يتحمل بقاء مجتمعاتنا فيها؟ هل نرمي ذلك على إستراتيجيات الدول الاستعمارية التي لا تفيد إلا بقدر ما تستفيد، هذا إن أفادت؟ سواء على الحكومات التي لا تكشف عن الدوافع الحقيقية لبقاء الشعوب ضمن دائرة تخلفها، أم على المجتمعات التي تقول لها الحكومات التطور أمامكم فكيف بكم لا تأخذون به؟ كما أن الاستعانة بالمطوّرين الخارجين عنه والبعيدين كل البعد عن فهم مشكلاته ومعاناته من الداخل تبقي تلك الهوة المفزعة فيما بينهم.
أسأل أيضاً: إلى متى ستبقى مجتمعاتنا تجلد ذاتها وتبحث عنها؟ وهنا أتجه للقول: إننا لم نذهب إلى حالات التأمل العقلي، هذه التي تؤهلنا لإدراك مواطن الخلل والوصول سريعاً إلى الحلول.
لنعترف أن أفكار فهم المدنية الحضارية لدينا غير متناسبة، أما أن نقول عن الوقائع بأنها غير مفهومة، فهنا أوجه إلى الحذر من أن الافتراضات الكثيرة والأفكار التقليدية تبعدنا كثيراً عن الواقع وعن التقدم، وهنا أيضاً نجد أنفسنا تائهة بين المشاريع الدينية والأفكار العلمانية، حيث لم يقدر طرفا الأفكار الوصول إلى الواقعية المنطقية، فهذا تاريخي يريد الإبقاء على موروثه، وذاك مستورد بكل ما فيه من تناقضات، ويريد تعميمه، ما أبقى المجتمع في حالة اللا تطوّر ضمن التطور، وإصراره على تمسكه بالمدنية التقليدية، على الرغم من مناداة تيار ثالث بمفهوم المجتمع المدني، ومحاولة تشكيله لتجمعات أعتقد أنها آلت إلى الفشل، والسبب أن ما يبنى على الخطأ تكون نتائجه خطأ، وفهمنا للوضوح المدني يصبح بدهياً، بعد أن وصل العالم إلى عهود جديدة، اختلف فيه كثيراً عن سابقاته الروحية والمهنية ومازلنا تائهين.
كيف بنا نخرج من بين أنقاض المدنية والتقليدية التي لم تأخذ في الحسبان مستوى الحياة، وأن الحياة برمّتها قضية اقتصادية، وكل ما ينشأ عنها من فساد وحروب وجرائم ودعارة دوافعها اقتصادية؟ هذه التي نعتبرها معضلات تضاف إلى معضلات سياسية، إدارتها التي تنتفع من وجودها بشكل أو بآخر، رغم مطالبتها بإصلاحها أو القضاء عليها.
إن الوعي الاجتماعي وبلورته ضمن الظروف السائدة وفرد الصائب والمخطئ منه وتقديمه بشكل مفيد ينهي كثيراً من حالات الغموض التي تحياها مجتمعاتنا، وكي لا نجد أنفسنا عاجزين عن الخروج من الأشكال القديمة تحت ادعاءات التحضر والمدنية علينا دفع البناء التربوي والعلمي بقوة مع الدعم الثقافي للتخلص من فرضية الأزمات المتلاحقة التي تسكن لحين، ثم تنفجر، والأسباب أكثر من ظاهرة، فهل نستطيع أن ننجز فكرة أو مذهباً يجمعنا ولا يفرقنا؟ ويكون لنا بمنزلة عقيدة واضحة مدنية حقيقية لا نقلية ولا تقليدية، وليعيد الإنسان ما يريد، لنستوحيها من رؤانا وقيمنا وأفكارنا، ونستلهمها من قيمنا الجيدة، ونقول هذه هي شخصيتنا، مدنية تحمل رسالة حضارية إنسانية علمية متدفقة يراها العالم ويؤيدها.
إن عالمية المدنية تمتلك ميزتي العلم والتعلم، وأقصد العلوم الطبيعية والعلوم التجريبية، التي نشاهد منها نتائج نستفيد منها ونواكبها نحن العرب، من دون أن نجتهد للإضافة إليها، فالعلم لا يولد هكذا كما نولد نحن البشر، إنما بالتفكير الوطني الحر من أجل خلق أجزاء من الحضارة، تلتحم بعد مواكبتها بالركب الحضاري العالمي، ولنعترف بأن شعبنا العربي مازال يحيا حيوات متباينة كما أسلفت، تخلفه أكبر من تقدمه، فهناك من سبق زمنه، وهناك من يحيا في الماضي البعيد وعلى الأطلال، وهناك الموجود في الواقع من دون أن يدري إلى أين؟ إلى الوراء أم إلى الأمام؟
ضمن ما مرّ معنا عبر ثماني سنوات وبضعة شهور، شهدنا فيها ظهور أصوات، منها من دعا إلى القومية السورية، ومنها إلى القومية الانفصالية، وكذلك ظهرت تشكيلات تراوحت من المناداة بسورية المدنية أو سورية العلمانية، وشعارها فصل الدين عن الدولة، والعودة إلى التشريع الديني عبر لغة الشباب الديني، وكثير من المسميات التي تدلنا في مجملها على أننا مازلنا ضمن المدنية التقليدية وجوهرها البدائي، فهل يستدعي الأمر من كل هؤلاء حاملي الأفكار، أن يجدوا مخرجاً تحت مظلة الدولة التي أرى فيها القدرة على النهوض النهائي من سواد الكبوات وتصحيح الانحرافات؟

د. نبيل طعمة