فكر التطرّف

فكر التطرّف

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٥ يونيو ٢٠١٩

لا يستطيع التطرّف التسليم بأنّ الناس تشترك في الاعتدال القادم من الفكر السليم، وهنا أتجه للفصل بين الأفكار المتناقلة والفكر بمجمل حركته الذي ينعكس على الأفكار، أي عقلية الشخص المفكرة، هذه العقلية الحاملة بين ثناياها العقد الغامضة، التي يعزوها بسطاء الفكر إلى عوامل خارجية، ندخل عليها لندرك إلى حدٍّ ما أنها تعبّر عن ماهية بنيوية، تأسست من ذات مظلمة، صحّرت الفكر، وحوّلت ابتساماته إلى صفراء مريضة ومعرقلة، فأي كائن تحدد حضوره جغرافيته، ومكوناتها ترتسم على وجهه الذي لا يمكن له أن يغيّره مهما حاول تغيير أمكنته.
الحقيقة بيّنة لا لبس فيها، ولا يختلف عليها اثنان، الخطيئة متعددة وحمالة أوجه، والخلط بين الحقيقة والوهم سمة الحاضر، وهذا بعينه ما يسعى إليه فكر التطرف، الذي ينشد إحداث الخلل الفكري في قيمة التحضّر والإسهام الفاعل في بناء الحضارة التي يصنعها إنسان الواقع، فظلال هائلة أرخت بسدولها على جميع الحضارات التاريخية بعد الحربين العالميتين اللتين استشعر العالم  كأن بهما نهايته، ومعهم إنسان الحضارة الإسلامية، والجميع أيقن أن ولادات جديدة حدثت بعد أن كان الجميع يرجعون الأحداث إلى قوانين الطبيعة، أو عودة التاريخ، أو يفسرون الأحداث ميتافيزيقياً نظراً لفقدانهم ماهية الأشياء، المهم أن الكل تطور، وبقي العالم الإسلامي مستسلماً قدرياً ورافضاً أن يشك بأن أزماته فكرية وروحية.
الفكر المتطرف يرفض العلم إذا كان الآخر متفوقاً عليه، ويحتقر المعرفة لأنها تقربه من فهم أسباب وجوده، وأن عليه العمل لها، وليس له فقط، رغم أنه يستخدم أدواتها، ويتعامل معها بدرجة كبيرة، ويبتعد عن الحقائق المقررة منهجياً، وينفي إثبات القوانين العلمية، لأنه امتلك في الأساس لغة التضاد، أي الحرب على كل شيء، من أجل وصوله للتربّع على قمم التحكّم، حتى وإن كانت خرائب.
 إن تنظيم أي مجتمع ينظر إليه من باب نتاجه الحياتي وحركته وانفلاته وخموده وسيطرة الفوضى على مجرياته، كل هذا نجده يتعلق وظيفياً بنظام الفكر وما يطرحه بين أبنائه، لأن الأفكار تعتبر أهم جزء أو أداة في تكوين أو بناء أي مجتمع، وإذا تجرثمت هذه الأفكار فإن العدوى متحققة لا محالة، فكما تنقل الجراثيم العدوى تنتقل الأفكار، وتنتقل معها الأمراض إلى المجتمع، وأكثر من ذلك تتناقلها من جيل لآخر، ما يؤدي إلى هدم بنى المجتمعات أو عرقلة نموها وتطورها.
 لاحظوا معي أن العالم في وقتنا الحاضر أخذ يعلي من شأن الأفكار لدرجة كبيرة، وأخذ يعتبرها قيمة وطنية وقومية ودولية، هذا الاهتمام أعتقد أن بلداننا لم تأخذ به حتى اللحظة، رغم شعور دول العالم الثالث بتخلفها وتململها من عقدة التخلف ومحاولات تقليد المجتمعات المتطورة من دون البحث في أفكار أبنائها، ما يجعلها تفاجأ بين الحين والآخر بأفكار التطرّف، التي لم تقم واحدة منها بالعلاج الموضوعي؛ أي النفسي والعلمي للتخلص منها، فنجدها تائهة بين ما تريد هي وما يراد لها، وأيضاً حينما نتابع نرى أنّ العالم عرف أنه لا يمكن له أن يحل سواد مشكلاته إلا من خلال الأفكار الخلاقة، وأنّ أي مجتمع لا يمتلك أفكاراً تنجز له حضوره، فإنه يفقد فاعليته الاجتماعية، وهنا تتفوق عليه الأفكار الهدامة، تغزوه وتعمل فيه فساداً بكل أنواعه، ففاعلية الأفكار مرهونة بشروط اجتماعية وسياسية، وتتنوع بتنوع الزمان والمكان، وهنا أستطيع أن أؤكد أن فكر التطرف يمكن أن يلبس لبوساً سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً أو اقتصادياً، ويستثمر هذا اللبوس في طيبة البسطاء الذين سرعان ما ينقادون إلى هذا الفكر بعد إغرائهم بأشكال يفتقدونها، وهو يريد إغراقهم ونشر الجهل أكثر فيما بينهم، لأنه لن يحتفظ بهم، إلا بذلك طبعاً، يدعمه في ذلك المخططون له ومديروه الذين يدركون تماماً أثمان ما يجنون نتاج ذلك.
 هؤلاء الذين يجسدون فلسفة الاستعمار القديم الحديث، أو الاستعمار كما ينبغي تسميته شكلاً مباشراً، عندما يُترك الماضي بكل ما فيه يتدحرج إلى الأمام، فيصطدم بهذا ويمسك به ذاك، وإذا لم يكن لديك إمكانية فرزه فمؤكد أن المجتمع ينقسم بين مؤيد ومعارض، أو يتحول إلى حالة سكون وانتظار، وأمام تراكم الأخطاء تبدأ المقارنة، إذا لم تكن هناك أفكار واضحة تساعد المجتمع على الرفض أو القبول لذاك الماضي الممتلئ بالمقتضيات السلبية والإيجابية من تسلط الحضارات على بعضها، وفرض الأديان باللين والقوة، وتحيا البشرية الآن نتائج تلك الحقبة التي تخلى عنها الكثيرون، وبقينا نحن العرب متمسكين بها.
إن أي فعل غير مبرر يخرج عن دائرة القيم والأخلاق والأعراف والقوانين يعدّ متطرفاً، بعد أن يصل في استخداماته إلى وسائل غير مشروعة أو مقبولة من مجتمعه الذي يخالفه نتاج مخالفته لسياساته العامة والخاصة، فالعالم يحيا بشكل جيد إلى أن يظهر التطرف الذي تتزعمه اليوم ثلاث قوى رئيسة، تحاول جاهدةً عكس تطرفها على دولة رابعة هي إيران، من أجل إكمال الضغط على العالمين العربي والإسلامي، لدمجها الفكر الروحي بالإنجاز العلمي، وتصويرها بأنها التطرف بذاته، فكان أولها التطرف الصهيوني اليهودي، وثانيها التطرف الديني الوهابي السعودي، وأخيراً التطرف التركي الإخواني، ويشترك الثلاثة في أن المستند لديهم ديني ماضوي، يسعى للسيطرة دينياً، ليس على المنطقة في الشرق الأوسط، وإنما حلمه حكم العالم.
 هذه الحقيقة الخفية الظاهرة، ناهيكم عن بعض الحركات التي تعتبر متطرفة تحت غايات أيديولوجية منتشرة من الغرب إلى الشرق، تظهر وتزول نتاج صغر حجمها، وللأسف إن الأمة العربية التي انضوت تحت لواء الإسلام، وأبهرت ماضياً في حضورها، تعود إلى جهالتها بعد أن استسلمت للتناحر والغدر ببعضها والتبعية للآخر، وأيضاً نرى عودتها إلى الفرقة والأنانية والحسد حتى بين أفرادها، ما شكّل بيئة خصبة لظهور التطرّف العنيف مباشرة، وسهّل اصطيادهم والاستثمار فيهم من القوى المهيمنة عليهم.
كيف بنا نكافح التطرّف ومستقبل مجتمعاتنا مجهول وممتلئ بالآفات المسكونة بين جنبات أفكاره؟ كيف بنا نهيّئ الشباب والشابات الرجال والنساء ولدينا من العطالة الفكرية المسؤولة عن فقدان الأخلاق والالتزامات الاجتماعية والوطنية؟ ألا يدفعهم ذلك للذهاب إلى التطرّف؟ هل يكفي سدّ حاجاتهم الجسدية فقط؟ أم علينا أن نعيد بناء أفكارهم، وأن نجدّ كي يستعيدوا الثقة بأنفسهم أولاً، وخلق سمة التعاون في حقول البناء والإنتاج والدفاع الحقيقي عن الوطن؟ هل يكفي التديّن أو العلمانية في صناعة الإنسان؟ أليس الجميع متدينين، وسوادهم مبتعد عن الإيمان؟ والحالة الوراثية أو النقلية هي السائدة، ليظهر الطرفان كمتطرّفين.
 كل هذا يشير إلى أننا نحيا أزمات أخلاقية، تتفرع عنها أزمات اجتماعية وسياسية وعروبية وقومية، ما يؤدي إلى ظهور التطرّف ونموّه وانتشاره، وإن لم نسعَ لتحويل الأفكار إلى حلول فلن نستطيع التغلب على جميع الشرور والآفات التي تنخر عظام الشخصية العربية أينما وُجدت. مادام هناك عدم اعتراف بإنسانية الإنسان، وعدم اعتراف الأديان مع طوائفها ومذاهبها ببعضها، واستمرار لغة الإقصاء والتكفير، وأيضاً محاولات لفرض الأيديولوجيات والتعصّب لها، فإنّ فكر التطرّف قائم بكل أشكاله، فالإنسان إنسان مهما اختلف لونه أو عقيدته أو جغرافيته، المشكلة في الفكر، وما يقدم له من فكر، وما يمارسه من دون رقابة، وما يمارس عليه من ضغط، فما يحتاجه الإنسان أكثر من بسيط، يتجلى في حياة آمنة وهادئة، فهل هذا ممكن؟