فرضية الارتياب

فرضية الارتياب

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١١ يونيو ٢٠١٩

تقوم ومن ثم تنتشر بين المجتمعات التي لا تتطور فيها نظرية الإيمان بالمجتمع الذي يبقيها نظرية، معتبراً إياها هامشية، أي لا يأخذ بها إلى البحث في ردّ الفعل، ويدعها تفعل فعلها بين جنباته، وفي هذه الحال نجد أن الأسافين بين أطياف المجتمع تأخذ طريقها بسهولة، ما يصعب العمل على إزالتها من أجل العودة إلى بناء المجتمع، وأكثر من طبيعي أن تدخل الدولة في حالات ارتباك وتردد وقلق حول كيفية التعامل مع النتائج السلبية وكيفية تجاوزها، فالصدمات المعنوية التي تتكشف من جراء وصول الارتياب إلى أعلى درجاته تتطلب وعياً استثنائياً وصنّاع رأي واقعيين، يملكون قدرة التأثير المباشر في أمزجة المجتمع بكل ألوانه مع الاستفادة القصوى من أسباب تدحرج الارتياب، حيث أثبتت التجارب أنه الممهد الرئيس لداء العنف، أياً كان شكله، فردياً أم جماعياً، طائفياً أم إثنياً، وأن احتواءه وعلاجه معاً، أي في وقت متزامن، يؤدي إلى القضاء عليه.

الارتياب ينشئ الخبث والضغينة، ويحوّل الفرد إلى ازدواجية متنافرة، فإذا انتقل إلى المجتمع أحدث فيه التفارق، وأفقد إدارة الدولة إلى حدّ كبير القدرة على إعادة توحيد المجتمع، وأخّر عمليات اجتثاث العنف ودحر الإرهاب. فنحن إذ نتابع مجريات الأحداث العالمية، ونحلل ما نقدر عليه منها، نجد أن الكثير من الإشارات تأخذ بنا للشك والارتباك بأن هناك دولاً عديدة تقوم بعمليات نقل الماضي البغيض، وبشكل خاص ما ساد أيام القرون الوسطى وما قبلها، تلك التي سادتها أفظع العمليات الهمجية من الحروب ومجرياتها، من قطع للرؤوس، وسحل للأجساد، وحرق جماعي، محدثة الكوارث الاجتماعية مع تدمير هائل للبنى التحتية الفوقية في كثير من الدول، ما يشير إلى أن نظرية الفوضى الخلاقة التي طرحتها أمريكا تجري في دول الغرب، أي التغيير من دون حروب في أوروبا وأمريكا والفوضى الهدامة التدميرية في عالم الجنوب، حيث التغيير يكون عبر أقسى أنواع الحروب، أي عبر الإرهاب، وأهم أشكاله إحداث الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، ومن ثم تغذيته بشتى أنواع الأسلحة، وأيضاً محاولات منع الوصول إلى الأفكار التصالحية، أو إيجاد التسامح، وإن حدث نحاول تأخيره من خلال اللعب على الوقت.

دققوا فيما أنحو إليه تجدوا أن الارتياب غزا عقول الجميع، أفراداً ومجتمعات ودولاً، ودخل إلى عقول الساسة والاقتصاديين والمتدينين، فالطروحات تحمل الشك في كل شيء، في المناخ الذي يهدد كوكبنا الحي في الصحة العامة والخاصة، في الأنظمة الغذائية المتبعة ومكوناتها، في الحروب المنتشرة والقادمة على الماء والهواء والغذاء، وفي الهجرات من الأرياف إلى المدن، ومن الجنوب إلى الشمال، في التصارع الزراعي والصناعي والتجاري، وهنا نسأل: من المسؤول عن كل هذا؟ وما الذي يجري على كوكبنا الحي؟ ولماذا ومن أجل ماذا أيضاً نبحث معاً في مسألة الوعي وظهور مؤشرات كبيرة إلى أن الحداثة المعاصرة مأزومة لدرجة كبيرة؟ فأين النضج الفكري والعلمي أمام ما نراه من صراع بين الإنسان والحياة من أجل بقائه عليها، وبلوغ أشكاله ذروة المواجهة والشواهد الكارثية أمامنا؟

ماذا يعني الثراء العالمي المنحصر في أيادٍ خفية تقود دولاً وأمماً؟ حيث يظهر في أعلى درجاته ضمن زمننا المشاهد، هل حقيقة أم وهم ما نراه من عمليات استثمارية كبرى؟ فهي لا تنعكس على المجتمعات، إنما تدخل خزائن الأفراد، ما يشير أيضاً إلى أن تقويض العالم آيل لا محالة، ولذلك لم تعد القيمة السوقية ذات مصداقية، والسبب انتقال الأموال من الاستثمارات الخاصة، وهذه بحدّ ذاتها المسؤولة عن إنشاء الأزمات الاقتصادية التي تقود إلى الأزمات الاجتماعية أولاً، وتضخ الارتياب بين أفرادها، ما يؤدي إلى نشوء الفتن والإرهاب، والتجارب التاريخية الممتلئة بالسوابق والتقاليد التي مرت ثانياً، فيستخدمها الغرب وفي اعتقاده أنها تمنحه القدرة للخروج الآمن من أزماته بأقل الخسائر الممكنة، حيث يجني منها أكبر الفوائد، كما أن السياسات الغربية ممتلئة في إبداع فنون الحروب التي تنقلها إلى عالم الجنوب، ومن ثم تقوم بالمساومة الدقيقة التي تأخذ بالحسبان المصالح المعقدة.

إنّ ضياع الحقيقة وفقدان العدالة يدفعان بالارتياب إلى اختراق الحياة الاجتماعية والإنسانية، هذه الفرضية التي تطورت رويداً رويداً إلى أن أصبحت عامة، بدأها الاستعمار الأوروبي الذي اعتمد نظرية احتواء الأكثرية الملونة بالقوة المفرطة، بكونه أقلية بيضاء، وعلى العكس تماماً من قاعدة الاحتواء التي تقوم على احتواء الأكثرية للأقلية، ما أنشأ ردّات فعل عنيفة دعت الغرب بعد أن انضمت إليه أمريكا بالاستثمار في نظرية احتواء الأقلية للأكثرية التي عممتها، لأن المصالح الاقتصادية أكبر من فكرة الحروب، ولذلك نجدها أبدعت في طرح فلسفة العصا والجزرة، وهنا أؤكد أن المؤرخين سيتوقفون طويلاً عند العوامل التي تقف خلف تطور الإرهاب وعواقبه الكارثية ونظم مكافحته، فبحوثهم أيضاً ستطول إعادة التوازن وإرساء العدالة الدولية بين عالمي الشمال والجنوب، وللحق أقول: إن تشخيص المشكلات أسهل بكثير من معالجتها، لأن أي مشكلة بعد حدوثها يكون خطرها أكبر بكثير قبل حدوثها، وهنا أسأل كما الجميع يبحث عن أجوبة: هل يعترف العالم بأسره عن أسباب تطور مشكلاته؟ أم إن الكل يهرب إلى الأمام؟ فتبقى تلاحقه من دون هوادة، وهذا بحدّ ذاته ما يحدث التخلف وعمليات التطور والتقدم، وبالطبع يتحقق بذلك ما ينشده الغرب برمته، وعلى رأسه أمريكا، لأن جميع أحداث العنف صغيرة كانت أم كبيرة، إثنية أو طائفية أو حتى أيديولوجية، لها منشأ تتجسد شرارته الأولى في وقوع حالة الارتياب، ومن ثم نبحث عن تغذيتها وعمن يقوم بذلك، إذاً، معرفة المهيمنين والعمل على كسر طوق هيمنتهم يؤديان إلى إنهاء هذه الفرضية وفتح فضاءات مهمة لبناء علاقات اجتماعية متنوّرة ومتطوّرة، تواكب ما تهدف إليه.

إن دقّ ناقوس الخطر غدا أكثر من ضرورة، وخاصة ضمن عوالمنا التي لا تمتلك الكثير من وسائل الدفاع عن وجودها، أو ما يهدد اختراقها عبر دسّ المشكلات بالتتابع، فالذي حدث منذ دخولنا الألفية الثالثة وحتى اللحظة خير دليل، فكيف بنا نواجه هذه المشكلات؟ وخاصة أن التكنولوجيا باتت سياسية وعسكرية واقتصادية، وهي تخدم بعضها، وإن وصلتنا فإننا لا نمتلك نواصي أسرارها.

 ألا يرسم كل هذا أشياء مقلقة في حياتنا؟ ألا يدعونا ذلك للاستثمار في الإنسان فكرياً وعلمياً، وتدريبه على التخلص من الريبة وتوجهه للإبداع وابتكار الحلول المفيدة لبناء أسرته والإسهام في تكوين مجتمعه والنهوض به؟ أوَلم يشاهد ما حصل لهذا البلد وذاك بعد أن زرعوا الريبة والتهديد والقتل والتدمير باسم حقوق الإنسان والدعوات إلى الحريات المزيفة واستخدام الغرب وأمريكا للمعايير المزدوجة في تعاملهم؟ وكل ذلك من أجل تأمين مصالحهم على حساب مصالح شعوب الأرض.

فرضية الارتياب تظهر وتتطور نتاج انتشار الجهل والكسل والتواكل، أو عن التعامل مع بيئة غير معلومة بشكل علمي، وهي تختلف عن الشك الذي يتشكل من المشاعر والأحاسيس البشرية، وتختلف أيضاً عن الخوف الذي هو أيضاً شعور يصيب العقل الإنساني، الذي يترقب حدوث أمر سلبي وضرورة الأخذ بالبحث عن ماهية وأسباب انتشارها، ومن ثم معالجتها بالحكمة والعمل الدؤوب، الذي يوصل إلى الارتقاء بشخصية الإنسان، ودفعه للانخراط بالعمليات الحياتية المنتجة، هذه التي تبعد عنه التفكير السلبي، الذي يُعدُّ لا إنسانياً، وبذلك تكون هذه النقطة مهمة جداً وخطوة رئيسة ضمن مسيرة القضاء على الإرهاب.

د. نبيل طعمة