النوم والمنام

النوم والمنام

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٨ مايو ٢٠١٩

يقال: إنَّ العمر منامٌ يستيقظ منه الإنسان، ليجد نفسه كهلاً أو يافعاً، غنياً أو فقيراً، فرحاً أو بائساً، صحيحاً أو مريضاً، فهل العمر ليل طويل أم نهار دائم ننام ونصحو فيه؟ لنجد أنفسنا وهي تستعرض مجريات حضورها فيه، فهما ليسا ظاهرة، ولا أنهما حاجة، بل بند رئيس من بنود الحياة، لا ينفصلان عن بعضهما، فهما منسوجان بدقة وبشكل خاص، نأخذ منه النوم لأنه الحامل الذي من دونه لا منام،  ندخل إلى عالم الإنسان منه الذي يستمتع به جسدياً وفكرياً وبيولوجياً، إلا أنه آثر أن ينشئ فيه، أي في داخل الإنسان، بيئات معقدة، ملأها بمشكلاته التي انخرط فيها، وإرادته أن يخلص منها، وتناسى إلى حدٍّ كبير أنه سبب رئيس في ظهور ضغوطها عليه، حيث دعته للتعلم والبحث والتقصي من أجل أن يوائم فيما بينها، بعد أن يقوم بجردها، وهذا ما يشكل له التعب والإرهاق، اللذين يأخذان به إلى التأرّق، ورغم كل ذلك إلى النوم، باختياره أو قسراً.

منطقياً يجب أن يقضي الإنسان ثلث عمره في النوم في الحدّ الأدنى، لأنه وحده أي النوم شفيق رحيم على أجسادنا وعقولنا التي تحتاج إلى إيقاف العمل بهما لحين، ومساعدتهما على نسيان ما لا ينفع، وتجاهل ما لا نرغب في أن يكون معنا أو علينا، ونواعد أنفسنا بأن نكون في الغد حاذقين وماهرين أو مخادعين ومنافقين، وهذا ما يبقيه لنا النوم في الذاكرة.إذا أقررنا أن النوم يجددنا، ويعيد منحنا إطلالات مهمة على الحياة، فعلينا اعتباره أهم جزء نحافظ به على حضورنا، أصحاب الفكر والمعرفة والساسة الحقيقيون تنام عيونهم فقط، وأصحاب المال وحاملو الأحقاد والحسد لا ينامون خوفاً على فقده وتفكيراً في زيادته ومراكمته، المؤمنون لا ينامون في الجوهر، لأنهم متصلون ببارئهم، أما الجوعى من الفقراء فلا يعرفون النوم، لأنّ تقلصات معداتهم تنبههم بشكل دائم لما يسدون به رمقهم.

إنه الدافعة الرئيسة والمؤهلة لاتخاذ القرارات المجدية والصحيحة، لذلك يكون النوم عملية مهمة جداً للخلق والتخلق والإبداع، وليس انتقاصاً من العملية العمرية، ولا زيادة فيها، فهو حاجة وحق للجسد والعقل بعد إنجازهما للأعمال المرهقة جسدياً أو عقلياً، والتفكير بالحاجة إلى الراحة والخلود إلى النوم يعني أن النشاط متحفّز لما بعده، لأن المشكلات عند الإنسان حصراً لا تنتهي، فهو بذاته أوجدها نتيجة لتصارع عواطفه ورغباته مع الحكمة والأخلاق المسكونة في الفعل وردّ الفعل، ولأن الإنسان يجري وراء ما يريد، أو يهرب مما يخاف، وتجعل منه متحفزاً دائماً للحب والخوف والحب والعداء، فإنه يحتاج لاستراحة المحارب التي يجدها في النوم، ليسدل الأستار عليها وعلى جميع الذكريات المتنافرة؛ أي إنها لا تنتهي، لكنه ينام من أجل متابعتها في اليوم التالي، كمن ينام على سر أو على خطيئة، أو على فعل خيّر، يريد القيام به أو على وعدٍ وموعد ينفذه، أو على قرار يتخذه لاحقاً، ليبقى النوم رغم كل أشكاله ضرورياً، والتأمل في وجود الليل يمنحنا الدليل الكافي والمقنع على ضرورته.

لنتخيل أنّ هذا النظام نظامنا الحياتي لا نوم فيه، وهو الذي يمنحنا فترة استراحة للجسد والعقل المحرك له، يعطي الأوامر بضرورة النوم، كيف حالنا، رغم أن لا أحد ينام ذاك النوم المبهج، من باب أن كل إنسان أياً كان موقعه أو مكانته لديه مشكلة يهدس فيها، ويسعى لحلها، رغم أنه توقف قسري جريء لنشاطنا العقلي والجسدي، وجميع الأحياء وأهمهم الإنسان، يدركون هذه الحقيقة، رغم أن هناك من ينام على سرّ أو على ضغينة أو على وعد قطع على نفسه أن ينفذه، وهناك من يريد أن يحلم بجاه أو سلطان أو إبداع علمي فكري أو فني، وأعتقد أن الكثرة يمر منها النوم مرور الكرام، ولا تدرك أن حاجتنا إليه أكثر من ضرورة، وبشكل خاص يحدث لنا الصمت الذي لا غنى عنه، والتوقف عن الحركة والخلود إليه يعني الاستسلام، من دون أن يدري الكائن ماذا سيحدث، وهذا يعني أن هناك لا نتحكم فيها، تعمل على إجبارنا على إيقاف كل شيء حتى ننام، على الرغم من محاولات المكابرة.

إنَّ التفكّر قليلاً في وجود الليل والنهار يمنحنا إشارات مهمة عن مفهوم الليل وفلسفته، التي تشير إلى النوم والمساكنة المقدسة أو غيرهما، نسأل لماذا صمّم الليل والنهار، الضوء والظلمة، النور والعتمة؟ هل يفوز أهل النوم المديد، وبماذا يفوزون؟

ما معنى النوم في العسل؟ كيف نعالج النوم على الضيم والأذى الذي ألحق بشعوبنا؟ وهل أمتنا العربية نائمة على أذنها، ولم تستفق حتى اللحظة على كل ما يجري؟ هل يدرك الإنسان ما الذي يحصل في نومه؟ وهل هناك من يكتشف أسراره كما هو الحال عند التنويم المغناطيسي، رغم أن النوم يوقف أكثر القدرات لدى الإنسان، ويتركه يتقلب ويتنفس وينبض بهدوء؟

هل نستطيع أن ننام نوم أهل الكهف؟ وما الحكمة من النوم لأكثر من ثلاثة قرون؟ وهل تنام الحضارات حقباً، نعتقد من خلالها أنها انهارت وسرعان ما تنهض من جديد؟ وهل الموت نوم لحين يستيقظ بعدها الإنسان بذاته أو في لبوس جديد؟

وهنا لا أتحدث عن المرضى أو المتأرّقين أو عن شواذ قواعد النوم، لأنهم في النتيجة لابدّ لهم أن يناموا، إنما أتحدث عن المجمعات المنتجة التي تنتظر انبلاج فجر يوم جديد، كي تتابع عملها والعمل الذي يمثل لها قيمة وقوة الحياة، هذه التي تعتبر أن النوم استراحة، وتتشابه تماماً مع المحارب الموكل إليه إنجاز مهامه، حيث لا يوقفه إلا الظلام الحامل للنوم، وبه ينام ولا ينام، لأن نومه يعني نهايته، ويقظته تمنحه الحياة، فإذا امتلأ اليوم بالعمل فلابدَّ أن يكون الغد أفضل، بعد أن يحقق الإنسان فعل النوم الذي إن لم يقم به فغده هزيل متهالك، ومنتجه يفقد الجودة، فهل يدرك الإنسان قيمة النوم وفضائله؟

هناك مسافة واسعة بين النوم واليقظة، يرى عليها الحالمون والعاشقون والمارقون المؤرقون مستقبلهم، فمنهم من يخطط للنجاح، ومنهم من يبحث عليها كيفية النجاة، أما المتألمون والباحثون والساسة والعلماء فنومهم سلس، لأنهم يعلمون ما يريدون من الحياة وما تريده منهم، وهنا نسأل ثانية: هل يؤسس النوم لورود المنام والحلم؟ وهل يعلم الإنسان بجزأيه الذكر والأنثى بولوجه الحياة الحقيقية عبر الحلم الجنسي الذي يحلمه بعد استيقاظه عن حضور جاهزيته عبر بلوغه أو بلوغها، والأحلام التاريخية الكبرى التي أنبأت الرسول يوسف الصدّيق من خلال منامه، والخلاف حول الإسراء والمعراج ليلاً، وهل هو حلم أم عرج عبر السموات في النوم، أم في اليقظة؟ وهل نزل الوحي على الرسول العربي محمد عليه السلام وهو في الفراش، حيث تبادل معه الإمام عليّ المكرّم من العلي القدير الحماية من غدر أعراب قريش ومن معهم؟

هل يكفي خفقان القلب ليعلن أن صاحبه حيٌّ؟ أليس النوم متشابهاً مع الموت مع فارق وجود النبض في الأول وانتقائه في الثاني؟ ما حال العقل وبشكل خاص العقل العربي الغافي منذ أمد بعيد عن كل ما يحصل؟ وهل يعتقد أنه إذا التزم بالتبعية تكفيه كي يعلن أنه حيٌّ؟

أين النهضة العربية؟ أين الإبداع والتطور؟ فسبات العقل إن استمرّ يقتل كل شيء، ويحيل وجود الإنسان إلى وهم وظلٍّ تابعٍ.

د. نبيل طعمة