تأرجح نوتردام

تأرجح نوتردام

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢١ مايو ٢٠١٩

يرينا حجم تأرجح الشعوب والأمم، ويشير من تتابع أحداثه التي لا تنفصل عن بعضها، مثل الشبكة العنكبوتية، إلى أنّ الفوضى العالمية مستمرة، تفعل فعلها منذ دخولنا الألفية الثالثة، وتتابعات انهيار برجي نيويورك صباح 9/11/2001، وصولاً إلى الذاكرة الإنسانية الحاملة للتحفة المعمارية النادرة، التي تحمل لقب كاتدرائية نوتردام، وتعني (السيدة العذراء) المتربعة على نهر السين في قلب باريس بعمر ثمانمئة عام بفنها المعماري المجسّد للفن (القوطي)، الذي تفردت به فرنسا، ونافست من خلاله الفن الروماني، ناشرة من خلاله السقوف العالية والواسعة المحمولة من الخارج على أعمدة، مدخلةً حضورها ضمن قائمة التراث الإنساني، التي شهدت أحداثاً كانت أكثر من مهمة، بدأت بالثورة الفرنسية الثانية عام 1830م، ثم الثورة الفرنسية الثالثة عام 1848م، التي ولدت الجمهورية الفرنسية الثانية، ومنها انطلقت حملة الفرنجة الثالثة 1189م، مستهدفةً الشرق العربي، وبشكل خاص مدينة الرسالات السماوية القدس، وفيها توج نابليون بونابرت إمبراطوراً والعديد من ملوك فرنسا، واتهمت هذه الكاتدرائية بمعاداتها للسامية من المنظمات الصهيونية إبان عهد البابا غريغوري التاسع عام 1204م.

هذا المعلم الحضاري الذي نقش على جداره الرئيس في الواجهة (الزمن أعمى والإنسان أحمق)، أدخله الروائي الإبداعي (فيكتور هوغو) الذي وقف ضد الظلم وغياب العدالة، وأنصت لصوت المستضعفين من خلال روايته الرائعة (أحدب نوتردام)، التي قدم فيها جمال الفكر والروح الإنسانية على جمال الشكل أو قباحته، والتي أثار بها مشاعر الناس من خلال شخصية قبيحة تختفي بين نواقيس الكاتدرائية من إنسانية راقية في دفاعها عن الخطيئة الإنسانية ولهفته للتسامح والقتال من أجله، وبها غزا عقول البشرية على اختلاف مذاهبها ومشاربها، بعد أن سادها الإهمال، وكادت تندثر معالمها، ما أدى إلى ظهورها معه من جديد عام 1831م، ذاكرة إنسانية دونت ما مرَّ بهذه الكاتدرائية من أحداث عبر حقبة وجودها كبار قادة فرنسا.

قد تحدثت مروراً من خلالها لتسجيل علاقة فريدة بين الكنيسة الكاثوليكية والنظم السياسية التي تحكم فرنسا من الملكية إلى ماكرون، فهي التي نسج عنها ماكسميليان روبسبير أحد أهم الرموز من الشخصيات المؤثرة في حركة النهضة الفرنسية 1758- 1794م، وتابعه سان جوست بالعبارة الشهيرة «إنها معبد الكائن الأعلى»، حيث أعدم بعدها بطريقة الاغتيال، لتعود بعدها مع الإمبراطور نابليون إلى تألقها، فهي تمثل الشاهد الأكثر حيوية على مجريات أحداث فرنسا ومحطاتها الرئيسة، وصولاً إلى حريقها المفاجئ، وهي محاطة داخلاً وخارجاً بأبراج الصيانة، تابع ذلك العالم بأسره ليلة 15 نيسان الماضي 2019م، ويسأل عن أحجيات تستوقفه في أكثر من مناسبة، خلال تلك الأفلام المنتجة، التي تحدثت عن سقوط البرجين في نيويورك قبل عقد من استهدافهما، وظهور حريق كاتدرائية نوتردام في فيلم كارتون عام 2002م، وها هي فرنسا تحتفل في هذه الأيام ببرج إيفل الذي قدمه الأمريكان لها قبل مئة وثلاثين عاماً، وهي قدمت لهم تمثال الحرية، وثبت في نيويورك، وفي وجهة إلى الشرق برمته هل سنشهد أحداثاً قريبة لهما.

صراخ ودموع وذهول ودعوات وصلوات للتبرع، وتهافت على الادعاء بمعرفة قيمتها وجمال بنائها، وكأن بها فريدة عصرها وأوانها، وباريس يتنازعها حراك أصحاب الستر الصفراء، يطالبون بالعدالة الاجتماعية والإنصاف في الأجور وعدم انجرار الحكومة خلف مصالح طبقة الأثرياء، وهنا أؤكد أن أغلبية الفرنسيين لم يهمهم الحريق، لأن حياتهم  المعيشة غدت أهم من كل شيء، وإيمانهم بأنها سترمم من جديد، وجل العالم أيضاً يسأل عن أمنه وأمانه واستقرار حياته.

لا شك إن اختلفنا أو اتفقنا حول ما يجري عالمياً، وهل هو مبرمج أو نتاج خلل أو إهمال، فإنّ الحريق حدث، وقضى على أجزاء مهمة منها، نجا الكثير من كنوزها، ولكن من حقنا أن نسأل: ما الذي يحدث على كوكبنا الحي؟ ولماذا تأخذ بنا الأحداث للشك والتوقع بأن هناك أصابع خفية تعمل لرمي الفتن وتحريكها في مواقع تعتبر أكثر من مهمة؟ نيويورك، باريس، دمشق، طهران، نيوزيلندا أو سريلانكا، ما إن تهدأ فتنة حتى نشهد فتنة أخرى.

عالم لا يستكين سلامه، حائر بين حضوره وانتفائه، بين الفعل ورد الفعل، بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، مربع الأخبار العالمية ومصادر قلقه ضمن زمن الحداثة وتحميلها أسباب كراهية الشعوب لبعضها، عبر طروحات تقسيم العالم، ومن ثم تدميره، بدلاً من السعي لإنقاذه من بين مخالب المتآمرين عليه، المتحدثين دائماً عن الإرهاب، وأنه أيضاً مصنّع، مرة ثانية من يقف خلف كل ذلك؟ ألا تستحق الشعوب تقديم الأفضل لكي تحيا حياة النضج الإنساني والفكر الإيماني الصريح والواضح بعيداً من الكهن السياسي والاقتصادي والديني؟ أصحاب الأحبار السرية تخطّ ما لا ينبغي أن يعلمه سواد البشرية، نعم تستحق أن تحيا الإدراك الإيجابي والوعي الروحي الواقع بين الفقهي واللاهوتي والاستمتاع بالروحي الجمالي، ما يمنحها طاقات أكثر من نوعية، تجدد بها نهوضها، وتشجّعها على صيانة قيمها وتراثها الإنساني الذي تسمو به ويسمو بها.

الإنسان يبهر الإنسان، بما يختلقه نتاج تفاعل أفكاره بالمادة وإدارته الفكرية المتوافرة في رأسه لبناه التحتية الساكنة بين قدميه وتحتها، فأي حدث مادي أو لا مادي ينساب من فكر إنسان، رجلاً كان أم امرأة، فالتدمير والحرق والقتل فكر إنسان، والبناء والدفاع عنه وحمايته أيضاً فكر إنسان، وكذلك الثورات التي تقوم من أجل القضاء على التخلف والجهل من أجل تحقيق التطور والتقدم وامتلاك العلم تتحرك من فكر إنسان، هي ذاتها تجعل من الدماء الإنسانية جداول بلا ثمن ولا فائدة، أو تقدس الحرية وتعبدها كآلهة، فجميعها تحرك من فكر إنسان.

فكرة كاتدرائية نوتردام ولدت من إنسان، وبناها إنسان، وحرقت نتاج خطأ إنسان، ولنقس الكثير على ذلك، والحافز لإعادة بنائها هو الحافز ذاته لإعادة بناء أهم معلم تاريخي في الشرق، حيث لم نرَ أي دعوة من الغرب لإعادة ترميمها، على الرغم من أن دوافع تدميرها مسكونة في عقل الغرب، الذي يسعى لمسح ذاكرة الشعوب الإنسانية، ناهيكم عن الآبدة تدمر التاريخية، وأموي حلب، وإيبلا وبابل في العراق، مع فارق الخطيئة الإنسانية والإصرار على ارتكاب خطأ التدمير والقتل والاعتداء.

تراث إنساني ممتلئ بالأفكار الخلاقة التي تحولت إلى أوابد، مقابل فكر يسعى حثيثاً لتدمير ما بناه، وأسس له نظيره، فما قيمة الإنسان الخائف من بقائه؟ وما حال لغته إن لم تكن مفيدة ومعبّرة عن إنسانيته وأفعالها؟ كيف بنا نقيس تطور بلد وانفتاح مجتمعه؟ وما معنى الفروق بين الأفراد والمجتمعات والدول، بين الثقافة والحداثة والشكل الديني.

هل يستقي عالم الشمال والغرب مما يحصل العبر؟ أم إنه يؤسّس ويخطّط ويبرمج لعالمي الشرق والجنوب الفتن، ويعمل على استمرارها كما ذكرت، على الرغم من انعكاسها عليه ووقوع بعضها بين جنباته، وأعتقد أنّ هذا يحصل من أجل تحقيق التعاطف واستمرار الإبهار، الذي يتعلق به فقراء الفكر والمادة، ومن كل ذلك ينشأ سؤال: هل هذا القرن الأول في الألفية الثالثة، شعاره الاضطراب العالمي، وطروحاته الفوضى التي عنوانها الخلّاقة؟ فما هي إلا هدّامة للفكر الإنساني والأخلاقي، وتفتيت المجتمعات وتحويلها إلى عبيد، لا تعرف من تعبد، ولا خلف من تسير.

لذلك عنونت مادتي «تأرجح نوتردام»، فهي ترينا أن العالم الحي بلا استثناء، يتأرجح من دون أن يسقط حتى اللحظة، ولكم أن تزيدوا على المشهد، أو تنقصوا منه.

د. نبيل طعمة