الاصطراع على الشام

الاصطراع على الشام

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ مارس ٢٠١٩

بلاد الشام أو كتلة سورية التاريخية، والباقي منها الآن بمسماها الجمهورية العربية السورية، تمتلك منذ القدم طابعاً خاصاً وتراكماً حضارياً وثقافياً روحياً منه ونوعياً، من باب التنوع الذي أظهر لطف شعبها، واتصافه بحسن التعامل مع الآخر، وإيمانه الشديد بالحياة، ناهيكم عن جودة أرضها الطيبة ومناخها الروحي العذب، وبسبب هذه تقلب عليها الغزاة، وكثر عدد الأقوام التي مرت بها تباعاً، وبعد أن خاض شعبها على أرضه أعتى المعارك، أحاول بهذا الاستذكار أني لا أنكر أنه ارتقاء من القاع، ولكنه أيضاً دعوة من القمة، فلا قيمة لسببية دافعة من الوراء، من دون غائية جاذبة من الأمام، الغاية التي تنبع من الجوهر، هذه الغاية التي لا تتطور إلا إن قمنا بتحقيقها، فالثبات في وطيس المعارك يؤدي إلى الانتصار، فالذين يؤمنون بالانتصار ينبغي أن يتعمق هذا الإيمان في قلوبهم، وتتملكه عقولهم، حينها نراه يسعى بين أيديهم، فالذي يدعي الإيمان لا يمكن أن يؤدي أي رسالة، لأنه حتماً يكون منفصلاً عن الالتحام من حاضره مع مصيره، وهذا يؤدي إلى الانكسار، فكيف بنا وقعنا تحت نير احتلال غاشم لأربعمئة عام؟ وكيف به يعود بأشكال مختلفة مع إسقاط الحرب على شعبنا ووطننا وأمتنا؟ وهنا ينطبق على هذا العثماني الطوراني التركي مثل «عودته أن يأكلك، شعر بالجوع كلما رآك» تاريخ واقعه منطبق تماماً على حاضرة الإسلامية، مدعياً أن غايته إعادة سطوتها وحضورها، لكنه أوقع عليها وعلى وجوده طامةً كبرى، تخلف أكثر وخلّف كل من وصل إليه، لتدب الشيخوخة في أوصال الأمة، ويُعمل الضعف مخالبه المؤلمة في مختلف أركانها.

الذي يدعوني الآن للبحث من جديد في هذه العقول الغائية ذات الطبيعة الغابيّة، وأهمها العقلان التركي والصهيوني، اللذان ينطبق عليهما المثل الذي مررت منه، حيث يُرياننا أسرار الطمع والجشع الدائمة، ولا يقدران في الوقت ذاته أن يريا تطوراً أو تقدماً أو حتى استقراراً، والتاريخان التركي والصهيوني برعا في تزوير وطمس الحقائق، ليس في سورية فقط، ولكنها هي الأهم، لأنها محور جميع القضايا الفكرية والسياسية والدينية، وبوابات للانفتاح الاقتصادي والاجتماعي، والمسألة الأهم أن انحصار الفكر العثماني التركي في السطو فتح المطامع الأوروبية وبعدها الأمريكية، لتتدخل بشكل أو بآخر في هذه الدول التي عمل على تخلفها، بدلاً من أن يسعى للتطور معها.

إن استجلاء ما خفي من هذين العقلين التركي والصهيوني يوضح لنا كيفية المسير إلى الأمام، وكما قلت ينساك لحين، ثم سرعان ما يتفكر في كيفية أكلك، هل سيتكرر ما حدث والتكالب العالمي على سورية في أعتى حالاته؟ فالقوى الكبرى في حالة تصارع على المصالح التي اعترت سورية ومركزها، فهذا يدعم أقلية، وذاك يتلاعب بالأديان، وآخر يريد قطعة جغرافية من هنا أو هناك، فهل ارتقى وعينا إلى ما يجري وما يُحاك؟ أم مازلنا نتمسك بالأفكار والنظريات الاجتماعية والسياسية التي تعود إلى يوم كنا فيه طليعة الأمم؟ أوَلم ندرِ إلى الآن أن الزمن دار دورته؟ حيث غدت الأمم بالطليعة، ونحن في المؤخرة منها، بل أكثر من ذلك انفصلنا عنها، حتى إننا لم نعد نراها، وللنظر إلى من حولنا، ولنسمع هذا يقول: أنا تركي، والآخر أنا إيراني، ومنهم الإسرائيلي والأمريكي والصيني والروسي.

أين نحن الذين تهنا بين أنا عربي، أو أنا عروبي، أو أنا سوري بعيداً، من غريزة أنا التي عززها التركي باستعماره وتدنيسه لضمير شعبنا بالتخلف، بعد أن وجد نفسه على دين عصابة ضخمة، تنتظم تحت طربوش السلطان والباشوات، الذين كان ينصبهم ولاة، وجميعهم يشهدون بالإيمان بالله، ويعتبرون الغزو والانتهاب من طيبات ما أحل الله، إنهم ذاتهم الغزاة الجدد مع الغزاة الكبار الذين نخلع عليهم صفات لا تشبههم، والذين أشبههم بفيض الأنهار التي ينبغي لها أن تروي الأرض، لا أن تخرب الخصيبة الفارعة واليانعة.

الاصطراع على سورية قائم بين قوى إقليمية التركي والسعودي والإسرائيلي، وكل له إيديولوجيته أمام القوة الإيرانية، التي لها أيضاً أجندتها، تستند إليها سورية ضمن تعاون إستراتيجي قديم حديث، إضافة إلى القوى العالمية المتجسدة في الخمس الدائمة العضوية ضمن مجلس الأمن.

السعودي له أهدافه التي يريد من خلالها استعادة زعامته الدينية التي انهارت لدرجة كبيرة بعد انكشاف المشروع الوهابي، الذي يعتبر أن سورية هي العقبة في طريق إنقاذه لهيبته ومكانته في العالمين العربي والإسلامي.

والتركي أيضاً يعتبر سورية عقبة كأداء في طريقه، على الرغم من أنها فتحت له قبل مرحلة ما أطلق عليه الربيع العربي بوابات مهمة، إلا أنه بقي يحلم بمشروع الإسلام السياسي الذي يجسده الإخوان المسلمون، واعتمد في ذلك على القطري وغايته تحويل مشروعه الإخواني إلى سلطاني عثماني، هذا الذي فشل فشلاً ذريعاً، ولم يعرف حتى اللحظة كيفية الخروج منه.

الإسرائيلي الذي استفاد من كل ما يجري، فقد دخل مرحلة التطبيع مع الأنظمة العربية التي انهارت لدرجة كبيرة، وركب على موجة الأمريكي الذي اعترف له بالقدس عاصمة أبدية لكيانه، وها هو يستفيد من الأمريكي الذي أقر بسيطرته على الجولان، وسورية وحدها التي تقف إلى جانبها إيران في رحلة الممانعة لهذه المشاريع، ما جعل الدول الثلاث تتابع مسيرها العنيف في التآمر على سورية، ومع هذا نجد الإسرائيلي يلعب على ورقتي الأمريكي كأساس حامل له، ومع الروسي الذي يعلمه مسبقاً بقصف مواقع سورية، ويوقع معه الآن وثيقة تفاهم وعدم اشتباك فوق الأراضي السورية، معتبراً إياه قوة إقليمية لا يسمح المساس بها، كيف يحدث هذا؟ وأيضاً التركي نراه يخضع للهيمنة الأمريكية الكبيرة عليه رغم علاقته مع الروسي الذي تهمه هذه العلاقة اقتصادياً، السعودي مسيطَر كلياً عليه من الأمريكي، والإيراني لا يثق بأحد إلا بذاته.

الكل لم يقدر حتى اللحظة الخروج من هذه الدائرة، وبقي كل واحد يدعم طرفاً أو طرفين، حتى وإن كانا على طرفي نقيض من كل هذا، نسأل نحن السوريين، أين نحن من كل هذا الاصطراع؟ قدمنا صموداً نادراً وملاحم عسكرية فريدة أمام عصابات مجيّشة، أحرزنا انتصارات مبهرة، لكن التكالب مازال مستمراً، كيف سيخرج الجميع من هذا الاصطراع أمام إصرارنا وتقدمنا إلى الأمام واعتمادنا على ذاتنا، أولاً لأن للجميع مصالحه السياسية والاقتصادية، فصمودنا واستمرارنا على الرغم من الحصار البشع لقيمة وقوة الشام التي لولاها لما كان للجميع حضور، المهم في كل هذا هو نحن كيف نكون؟ لأن إرادتنا نكون أو نكون، لأن إرادتهم ألا نكون، يمارسون ذلك بالحصار الاقتصادي وبث الفرقة في الاجتماعي الملتئم إيجاباً، بحكم تنوعه يتلاعبون في الجنوب مع أهلنا في جبل العرب، وفي الشرق مع أبنائنا من الكرد، وفي الشمال بالضغط التركي عبر النصرة القاعدية إسلامياً.

انتهت لعبة داعش، فهل انتهى التحالف المتكالب على السوريين؟ وانتهى الكذب في الركبان، فإلى أين سيتجهون؟ المهم نحن السوريين في الشام العرب والعروبة، أن نصرَّ على فك الحصار بالاعتماد على الذات في الوحدة والإنتاج والبناء والإعمار والإصرار على دحر هذا الاصطراع المتعدد الأشكال والأنواع، وثقوا بأننا خرجنا إلى الحياة، وعلى الجميع الاتجاه إلى البناء من دون فساد، هذا الذي وحده يأخذ بنا إلى الأمام.

د. نبيل طعمة