مملكة الحب

مملكة الحب

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٩ يناير ٢٠١٩

تدعوكم لمتابعة وجهة نظر تأخذ بنا لفتح رسائل خطتها البشرية عن الحب والكراهية، التمرد والانحناء، الانتظام والانفلات.اسمحوا لي أن أفترض أنه بإمكاني تفسير نظراتكم الحالمة، وأن أجعل سكوتكم يتحدث بفصاحة، وبإمكاني أن أبرر أعمالكم مثلما أريد، لأني نظرت إليكم، استشعرت أن أنفسكم تخاطب نفسي..فلتبق على الأقل هكذا، وإياكم ألا تفعلوا مثلي، وأنا لن أفتش في عقلي عن العبارات التي أبدي فيها شكوكي ومخاوفي حول إلى أين نحن ذاهبون؟

أريد أن أبقى على جهلي في هذا المنحى، هل عرفتم لماذا؟ لأنني أخشى الخيبة لحظة أن تبدؤوا بالتبرير، اصنع ما شئت مع الحب مادمت تحب، اذهب وعد أو لا تعد أبداً، فقلب ممتلئ بالحب يمنحك هذا الاختيار، من دون أن تؤذيك الرغبات واللذات، تلك التي يتخيلها العشاق، تلك التي تطغى فيها الشهوات المحمومة، فتدعهم يجرون وراء الشيطان إلى أن ينتبهوا، ليجدوا أنفسهم تائهة بين الخطيئة والحقيقة، بين الإسراف الفاضح والندم والحزن الثائر، بين الفجر والظلام.

عالم آخر لا يصله إلا الساهرون على الحياة التي ينجزون خلالها الدمار والبناء والفجور مع المغامرة والخصام والجدل، ومن خلال كل ذلك نرى تقدماً عظيماً لزمنه، بضع خطوات فيتبعه مريدو الظلمة، ويصفق له المتعلقون بالنور، ما معنى التوبة عن الحب؟ وهل يقدر من يملأ الأرض صخباً أن يتوب من دون أن يودع ملاذه قبل أن يقصد الآفاق المجهولة؟ وهل يهجس بالاستغفار ممن ولمن، مادامت لياليه باقيةً بمجونها وضجيجها؟ إنها الحياة التي تعني الحب المتحرك بين الحزن والفرح، بين المأساة والملهاة، والذي يدركهما يصل إلى العبقرية، لأنه يعي مفاهيمها المركبة وألاعيب وجوده فيها وعليها.

نحن بلاد الحب الحقيقي والعمل والأمل، نحن مهد الديانات ومهد الحضارات، هنا حضرت الآلهة وأكرمت شعوبنا، وهنا وُلدت وظهرت وتجولت، وهنا تجسد الإله، وهنا حاول الشيطان التمرد عليه ووعده بإغواء المؤمنين به، وهنا استيقظ الحس، أخذ يتحسس المحسوس، ينهزم الصوت المتردد في الصدى، يتطلع إلى مجرى العواصف، ويدرك مذهبها، إلا أنه يعلم أن منها الأعنف الساكنة في صدور البشرية، لا مذهب ولا مستقر لها، فخليطها في الداخل البشري، هو ذاته خليط الأمم المختلفة، تمتلك روح التسامح إلى جانب أرواح القتل والسطو، وجميعها نجدها متأرجحة وناشطة في آن.

أيها المارون من الآلهة والرسل والنذالة والكبرياء المنساقون لقوة الشر وخطورتها، متى ستنهضون وتذهبون لدك أبواب الضغائن؟ متى ستثورون على الحرب وصانعيها؟ متى تصلون إلى طعم الخبز والخمر وروائح الفصول الأربعة؟ فالصلاة لكم وغايتها تطهير جوهركم، متى ستميزون بين الألوان، وتتعلقون بالأنوار الصباحية، وتتذوقون طعم الليالي وأسرارها، وتحبون جمال الأنوثة، وتؤمنون بقيمتها؟ فالحب حالة عظيمة تؤدي إلى الترقق والعظمة في كل شيء، هل وصلنا إلى أن مكامن الجمال ذاتية، وليست موضوعية، لأن الإدراك بصيرة، وبه ترى روح المشهد لا شكله؟

لنتفق أن من يفقد الحب إما أن يذهب إلى التدين، وإما إلى الشطح والمجون، والحب يدخل المعابد والقصور، يعمر العقول والقلوب، يخترق الفقير والغني، يدغدغ الشعوب عامة، وعندما يصمت يتوج على الفكر، ليستحضره من جديد من أجل عالم بدأ يتلاشى.

هنا أكتب بتصرف.. قالت سميراميس الملكة ذات الجمال الساحر على آشور وبابل لوصيفتها: لن تفهمي ما دمت تفكرين كما تفكر سائر النساء! تعرفين ما الذي يربط بيني وبين شعبي؟ إنه الحب: نوع فريد من الحب، إن كل رجل من رعيتي، وكل جندي في جيشي، يعتبرني مليكته وقائدته وحبيبته! وأجابتها الوصيفة: لا شك يا مولاتي، أنك معبودة الشعب والجنود، وتجيبها: أجل.. لكأني أدفع إلى الحرب جيشاً من العشاق والمغرمين، إن ظهوري بينهم على صهوة جوادي يثير حماستهم، فيندفعون إلى القتال، وهم يهتفون باسمي بين صليل السيوف وصهيل الخيول. تعهدت سميراميس ببناء أعظم معبد في بابل، إضافة إلى أهم برج يخلدانها.أتعلمين يا وصيفتي سر قوتي؟ دخلتُ بعد انتهاء إحدى المعارك ميدان القتال، فسمعت أنين جندي يحتضر، وما إن رآني حتى أضاءت أساريره، وأمسك يدي وضمها إلى شفتيه، فانحنيت عليه، وقبلته لتلتمع عيناه بوميض غريب، أسلم روحه بعدها، وكان إلى جانبه جندي جريح آخر، شاهد الذي حصل فطعن قلبه وهو ينادي بأنه يحتاج هذه القبلة التي ترسم نجاح العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، بين القائد والجنود.

سمعت الملكة ضوضاء كبيرة، تقترب من القصر، قالت اذهبي واسألي قائد الحرس، عادت الوصيفة قائلة: إن هناك محتجين على فقد منازلهم نتاج أوامر الملكة بهدمها بغاية إنشاء المعبد والبرج مكانها، حضر رئيس الحرس وقال: إن المحتجين يحاولون اقتحام أسوار القصر، ويستأذنها في أن يطلق السهام، صاحت الملكة وأمرت بأن تفتح الأبواب لهم، واندفعت إليهم مواجهة إياهم وهي بثياب عادية من دون زينة، وما أن وقعت أبصارهم عليها حتى انطفأت ثورتهم، وأخذتهم روعة مفاجئة، فسجدوا لها مبهورين، بني المعبد وشيّد البرج، وخاضت مع جيشها وشعبها مئات المعارك بالحب الذي بنته فيما بينهم.

الحب ثورة تتلخص بكونها دعوة كونية إلى التعاون الإنساني على أسس من احترام الإنسان للإنسان وللحياة، لأنهما من الكائنات الأزلية التي تتطور بانتظام مؤثر في بعضها من بوابة الأفعال والمنجزات، وهو أي الحب يقف ضد الكراهية التي تنهب الطمأنينة، وتحرك أجواء القلق، تهدد القصور بالأطماع، وتهدم الأكواخ بالمخاوف، وتنهب الثروات بالاحتكار، تهدد الحريات بالظلم، وتشتت النظم السياسية بالفوضى.

أولم يحاولوا ضرب الحب بين القائد والشعب، واجتهدوا للوصول إلى ذلك؟ من هم؟ هل عرفناهم؟ هل هم من الداخل؛ أي من بين الشعب، أم من المحيط السياسي المتحرك بين جنبات السلطات؟ مؤكد أنه حلم المحيط والخارج نتاج نجاحات مبهرة، كان سببها الرئيس الحب، السؤال المهم: هل نجحوا في ضرب علاقة الحب بين القائد والشعب؟ ربما قليلاً، إلا أن قوته أخذت على عاتقها الدفاع عنهما، وها هي ثمارها عادت للنضوج، وسيتذوقها حتى أعداؤه.

أن يتحوّل الحب بين العاشقين إلى رابطة يعني أن حياتهم ناجحة، وأن يظهر الحب بين شعب وقائد، ويتحول إلى علاقة متينة، يؤكد أن إنجازاتهم عظيمة وقوية وذات عمر مديد، لذلك نجد أن مآسي البشرية ناتجة عن الكراهية، وسقوطها في مطبات الخطيئة يكون نتاج تقلص الحب، وحينما ندقق في مجريات أمورها نجدها ممتلئة بالغرابة، وانفعالاتها أكثر تطرفاً، أين الفتنة الإنسانية المحببة؟ لقد ضلت البشرية حكمة الحب، وهامت في خلاء وظلام صنعته أنفسها، وراحت تبحث عنها بلا انقطاع.

هل وصلت مجتمعاتنا إلى فهم الحب؟ أقول في أقصى حالتها، توقفتُ عند الجنس، وكتبتُ كثيراً عن مفاهيمه المرتبطة بالشهوة والرغبة والتملك عبر الاغتصاب والسطو والقنص، لأن الحياة الوحشية جنس، والحياة الإنتاجية والإبداعية حب، هل لنا أن ننتج، وأن نبني، وأن نترك أثراً، أي أن نخلو بلا حب؟ لماذا لا نعترف أننا في حالة توقف ذهني مرعبة؟ ولماذا لم ندخل إلى عوالم الحب؟ هذا الذي فعلته سميراميس ملكة الحب في زمنها. مسؤولية من توقف مجتمعاتنا عن الحياة ولهاثها خلف العيش، جنس ورغيف خبز وخدمات بسيطة، هل من أجل هذا وجدنا؟ وإذا بقينا على هذا الحال، فما مصيرنا من صيرورة الحياة؟.

د. نبيل طعمة