إلـــه... آلـــة

إلـــه... آلـــة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٢ يناير ٢٠١٩

التأمل مذهب فكري نوعي تختص به ندرة البشر، ومنه يصلون إلى مراتب الإبداع والإنجاز والإعجاز، بعد أن امتلكوا الجرأة العلمية أو الفلسفية وحتى السياسية، وفي الوقت ذاته ورثوا جيناً فرزهم عن مجتمعاتهم، وألبسهم ثوباً خاصاً أشار إلى نبوغهم في منحى ما. هنا أقول: إن أي إجابة تشير إلى أنها حقيقة مطلقة، مؤكد أنها إجابة غير حقيقية، وعندما نعتمد أعلى درجات الشك نكون وضعنا فكرنا العلمي أو الفلسفي على سبل اليقين، فإذا تفكرنا في الحاجة نجد أن منها تنبع جميع الحاجات، هذه التي تكون أساس سعينا للبقاء على قيد الحياة، وهنا أجد أن في داخل كل إنسان إلهاً دينياً وآلة منتجة، ووجود الله يحتاج إلى إيمان زائد مع نوع من العبادات.

أي تدين ووجود الآلة يحتاج أيضاً إلى إيمان زائد، نتيجته على شكل منتج، والأول بكونه غيبياً  يحتاج إلى دليل مباشر، وحده الإيمان يشير إليه أنه في مكان ما، ولو أراد لكان مطلق الحياة. هنا أسأل المتفكرين: هل «هو» كائن مادي؟ نحن نقر بإيمان نوعي أن لكل مصنوع صانعاً، نقاشنا حول ماهية الصانع وعبر حركة التاريخ ظهر من عقول المفكرين الكثير من الفرضيات التي أثارت العقل البشري كفرضية المصادفة والانفجار الكوني والفتق والرتق الإسلامية.

ما الفرق بين الرسالة والحقيقة؟ المادة حقيقة، الرسالة رموز يتم تحويلها بروية إلى مجموع بشري عبر وسيط معلوم يتحدث عن المرسل من خلالها الذي يحمل سمة الإله المباشر أو الخفي، مؤكد وجود هوات شاسعة في نظم تفكير البشر الذي نحاول أن نثبته هنا الآن، ربما يكون ليس صحيحاً هناك، وهذا لا ينبئ عن خلل فكري، وإنما عن حرية في الفكر الذي يعمل من أجل الوصول إلى الأفضل، واختلافه أكثر من إيجابي ودليل على صحة الحياة التي لا تقبل التماثل إلا في لغة الإنسانية وأخلاقها المطورة للأداء الإنساني.

كوميديا فكرية تستوعب الكثير من الفلسفات، تحمل التمرد والاتزان، تؤمن بالحق، وتعتبره من أهم المثل العليا في الفكر الذي يؤدي في حق الكل بالحياة، وهذا تأكد عبر حركة التاريخ التي لا تتوقف، ومن خلالها تقدم مفكرون متنورون، وتحدثوا عن أن الكون آلة ضخمة جداً، تدور متعشقة مع بعضها بنظم نقل الحركة وبنسبة خطأ طبيعية، ومنهم من قال: إن هذا الكون يدار بالعقل الكوني الهائل القائم على الفيزياء الميكانيكية أو الكلاسيكية التي استندت إلى الأعمال الفيزيائية القديمة، هذه التي سادت قبل اكتشاف الفيزياء الحديثة التي تستخدم النظريات ونتائجها في عصرنا المعيش، وهذا أقرب للمنطق، ومنهم من بسط الأمور من مقارباته، واعتبر الإله رجلاً، أو أطلق عليه الرجل الإله ذا الطبيعتين المادية واللامادية، وطبيعي بل أكثر من ذلك، وكما كتبت سابقاً: إن العقل موجود في أعلى نقطة في الجسد الإنساني، وهو لا مادي يفكر فيحصد الكثير من النتائج، وهذا يدلنا على أن خلف هذا الكون الآلة عقلاً كونياً هائل السعة يحيط به، يدير هذا الكون، وهنا أعكس هذه الجدلية على كوكبنا الحي وأقاربها، حيث قسم عالمنا الحي إلى عالم الشمال وعالم الجنوب، عالم الفكر وعالم الاستهلاك، عالم الإبداع وعالم التقليد، هذا يقودنا إلى سؤال شغل فكر الندرة: هل هذا التقسيم قديم قدم الكون، أم إنه حاصل في زمن قريب؛ أي منذ قرنين أو ثلاثة؟ ولماذا وماذا قدمت الحضارات القديمة الفرعونية والسومرية والبابلية والفينيقية والكنعانية والهندوسية والبوذية وحتى الفارسية مقابل الحضارة الإغريقية والرومانية؟ وحالياً ماذا يقدم عالم الجنوب لعالم الشمال؟ والعكس أيضاً ينطبق من سؤالنا: أولم  تحمل جميعها لغة الصراعات المادية والروحية؟ أولم تكن وتقم من أجل تشكيل الحالات الروحية وإحداث الاستقرار النفسي، ومن ثم استعباد الشعوب وجلدها بالخوف من الإله والآلة؟ أولم يأخذ عالم الشمال الآلة وأدارها بموهبة كي يحصل على منتجها، وترك الإله لعالم الجنوب مع بعض الجوانب الروحية اختياراً لمن يريد من عالم الشمال؟ وهذا يشكل الفعل السياسي للآلة المنتجة، لأنها تحتاج إلى تخلف سواد البشر واستثمارهم بالشكل الأمثل لبقاء هذه الآلة تدور.

ما حجم المتغيرات الحاصلة من أبعد نقطة في الذاكرة حتى اللحظة المعيشة؟ أدوات تكنولوجيا أبدعها الفكر الإنساني، وإلى أين سيصل هذا الإنسان، الآلة المفكرة والآلة المنتجة، كيف بنا نجيب عن أسئلة كهذه؟ وهل حاولنا توفير المعلومات كي نمتلك القدرة على الإجابة المقنعة والمنطقية؟ ما معنى الحياة والفرق بينها وبين الموجود المؤقت للجنس البشري المستمر بالتكاثر والمنتهي بفعل انتهاء صلاحيته كآلة؟

الإله لا تدركه الحواس الإنسانية المادية الخمس، وتناقشه الحواس اللامادية الناطقة والعاقلة مع ذاتها والآخرين من جنسها، فهو "هو" المخفي الخفي، الآلة ظاهرة إنسان زائد أداة تساوي منتجاً، وتعني الاستمرار، الإله يريدنا مؤمنين به، وأعتقد مؤمنين بمنتجه الكوني الذي منه كانت الكائنات، وأهمها الإنسان الذي وعبر كل الحقب الزمنية والأطوار الإنسانية اجتهد لاقتسامه، أو سعى لنسبه إليه وجعله خاصته، وهذا نراه في تعدد الأديان التي عددت الآلهة، غايتها انتظار الرب المخلص خاصتها، فهل يكون لها أو كان ذلك من دون عمل الآلة الفكرية وإنتاجها الذي يقيِّم نجاحها أو فشلها؟ مؤكد أنَّ في نهاية أي صحراء فيافي تبنيها الأشجار الوارفة نتاج توافر الماء أو البحار، وبينها نرى الحياة بأبعادها الجميلة وحتى المتناهية الجمال، حدث هذا التأمل والتفكر الذي أنجب أمة.

لنقرّ أن هناك قوى مسكونة في الجوهر البشري خيره وشريره، تتدعم من خلال ما تنتجه الآلة، ويحكم على أدائها إيجاباً أو سلباً، وأي منجز بشري لا يمكن نسبه إلى فرد، وإنما إلى مجموع التراكمات العلمية أو الفكرية، التي من خلال الإفادة منها يرى فيها نقصاً يعود عليه، يستكمله بصورة فعالة أكثر أو جديدة.

ممَّ تخاف البشرية؟ من الإله أكثر أم من الآلة ومخرجاتها التي ذهبت تحصد البشر؟ إنها تطحنهم بصراعات أوجدتها كي لا تنتهي، إذاً من يغذّيها؟ نقول أيضاً البشر، ومن يعترف بالإله؟ أيضاً البشر، كيف كان مصير الحياة لو لم يكن البشر؟ سؤال منطقي.

التعديل الرئيس في الحياة يكون على العمل، وقل اعملوا؛ أي إن الآلة البشرية مع أدواتها عليها أن تعمل بشكل أكثر من جيد، وبعدها يأتي التقييم من الإله ورسائل الرسل والمراقبين من البشر، لأن النتيجة النهائية تقييم من الإنسان، وهو الذي يحكم على المنتج، بأنه جيد أو سيئ، هذا يقودنا إلى أن الآلة تتعطل وتحتاج إلى إصلاح أو راحة، ومن ثم تتآكل، وتنتهي طبعاً، أقصد هنا الآلة الروحية المتجسدة في الأحياء والأدوات المنتجة من خلالها، وجميعها تولد سؤالاً: لماذا تتوقف حياتها؟ ولماذا تنتهي؟ وتبقى آلة الحياة الكونية الكبرى تعمل من دون توقف.

كيف سيكون مستقبل البشرية برأيكم؟ مع الآلة أم مع الإله؟ ونحن نشهد تقلص الماء والهواء والغذاء والصراع على المادة بكل أشكاله.

لا تستغربوا أعزائي ما سرنا إليه تحت عنواننا الجدلي الذي أردت أن آخذكم إليه داعياً إياكم لمائدته الفكرية والتأملية، اختلفنا أو اتفقنا، الإرادة أن نناقش وجودنا وحياتنا وعيشنا وإيماننا بالإله أو بالآلة، فكلاهما منتج، من أوجد من؟ هذا يعيدنا إلى نظرية البيضة والدجاجة، وإخراج الحيّ من الميت والميت من الحيّ، بعيداً عن أن يكون هناك أي تكفير، لأن التفكير حقّ، والحقّ يعلو ولا يعلى عليه.

د. نبيل طعمة