اختراع الأمان

اختراع الأمان

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٨ مارس ٢٠١٧

طبعاً نفاوض عليه، ونراهن بأن ضرورات الحياة تدعو للوصول إليه، نستمد منه لغة المكون الكلي الذي حاور الشيطان، رماه إلى الإنسان، يعريه ويغويه، المصادر الدقيقة لعملية إحداث الاختلال ضمن الانتظام العام، ونحن نعرف أن الذي يحدث هو عمل مبرمج، حظي بتغطية شعبية وشعبوية إلى حدٍّ ما، نتاج برمجة التجهيل، لكن الحاجة تدعو إلى الإيمان بالمستقبل الذي يدعو الطفولة إليه، كما أنه يستلهم من الحكماء العمل عليه.

الواقعية حمالة أوجه، وتدعو من جوهرها إلى العقلانية التي لا يأخذ بها المنفعلون ضمن اضطرابات الواقع، إنها الصفقة التي تؤدي في حال عدم إنجاحها إلى الكوارث، إلا أنَّ الانتظار مع المحاولات للخروج من أشراكها، يؤدي رغم الخسائر المذهلة إلى نجاح جزئي أو كلي، النسبة والاحتمال يحكمان النتائج، والغاية دائماً تمتلك الأمل للنهوض من الكبوات، والتطلع إلى حياة جديدة غنية بالحظوظ المفيدة والبدايات السعيدة، فبين طرفة عين ورفة جفن كلمة حق تصل إلى الأذن، تحدث الانعطاف الذي يحمل بين طيَّاته عصر إعدام التقاليد الجوفاء والإجهاز على العادات البالية أمام وسائطه الرقمية ذوات العلوم المدهشة، فالتفاوض لا ينبغي له أن ينشئ الفشل الذي لا يحدث إلا عند إنكار الآخر، وتطور سوء النيات الممتلئة بالوساوس التي تفقد الانتظام والتجانس، لنعلم أنَّ الكبرياء يحضر دائماً قبل السقوط عند العارفين.

الصدق ليس مرادفاً دائماً للحقيقة، ربما كثيراً يجانب الخطيئة، أو يلتقي معها، لكن لا ضير في الاستماع إليه واستيعابه، ففي لغة السياسة يتساوى كل شيء؛ الحب والكراهية، الصدق والنفاق، الفشل والإبداع، لذلك لا بد أن يكون تفاوضاً وحواراً بعد انهيار مجاميع من البشر.

تقلبات المواقف والانتقالات بين ضفتي التفاوض، تنمُّ عن عدم الاقتناع في القدرة على الإقناع، جميع المعلومات القادمة من الطرفين الموضوعة على طاولة الحوار تؤدي إلى نتائج خاضعة لعملية القبول أو الرفض، لذلك يتم استخدام عناصر المناورة. المحيط المتفاعل مع الطرفين ينتظر الإنتاج الذي يقومان به ومدى انعكاسه على الواقع، أو إلى أين سيؤدي بهما، وبالتالي بالمنتظرين للنتائج. طبعاً ودائماً الحياة معارك، من ينتصر يجنِ من ركام ورماد وجثث الخاسرين، إنها واجبات الموت القسري التي تخضع لمتطلبات الحياة، متى تدرك البشرية هيكلية بنائها القائمة من التناحر، بدءاً من التفاصيل وانتهاءً بالقيامة التي تعلن دائماً انتهاء عصر مضطرب وبداية حقيقية لظهور الأنوار على مسارات الحياة؟

ليعلم الجميع أن المشكلة الدائمة تقوم بين القادة والرعاع، بين الراعي وضبط الرعية، بين الرسل والمريدين، وبينهما لا بد من أن يكون هناك وسيطٌ، لا يدرك حجم المشكلة فقط، إنما قادر على إيصال الجميع إلى طاولتها، يقدم لها مستلزمات حضور المختلفين، ينافق لهم، يتذاكى عليهم، يؤيد حضورهم، يقارب بين وجهات نظرهم، يصطاد أفقهم، في النتيجة لا بد أن ينتصر الأقوى، ينتصر لأن إرادة الكليِّ تكون معه، وله الحياة.

التفاوض إيمان يعتنقه السوريون لحظة أن يمتلك قيمة وقوة الحق المسكون في جوهرهم بعيداً عن أي إملاء أو إغراء أو إغواء، وغايته التي يتمسكون بها أنهم يؤمنون بالحياة، يحتاجون إليها، كما هي تحتاجهم، من يؤمن بالتوافق؟ وعندما يعلو الصراخ، هل هناك من آذان مصغية؟

لماذا يسقط التفاوض في فخ الأنا؟ حيث يحل اللا اتفاق، ويدخل الجميع مرحلة الرمادية، وبها يتشيطن الجميع، حيث الخطورة ترخي بظلالها، وتختلط أوراق الاقتصادي بالاجتماعي، بالعسكري، ويتحول الجميع إلى شعارات لا تروي عطشاً، ولا تشبع جوعاً، ولا ترضي محتاجاً، لأن السياسي فشل في استثمار عناصر السياسة.

هل التفاوض على وطن، أم من أجل وطن، أم من أجل شعب؟ المنطق العام يتحدث عن أن التفاوض حالة إيجابية، ربما لا تستوعب الشعوب نظمه، بحكم أنَّ الصور المرسومة عنها، هو أن فهمها بطيء، وأن من الضروري السيطرة على عقولها، ومن ثمَّ قيادتها إلى ما تريد، لكن الشعوب على غير ذلك، وأنها دائماً تخترع ما لم يكن بالحسبان، أو غير المخترع، لأن الحاجة تدعو إليه، وهنا أدعو الجميع إلى اختراع الأمان، لأن فقدانه يحمل الإنسان هم إيجاده والبحث عن البقاء بأي طريقة، موجبة أو سالبة، ما دمنا نحيا حالة حرب أسقطت علينا، وحاولت حصارنا وقتل أماننا، محولة إشراقات صباحاتنا إلى أصدائها المقلقة، قصف اجتهد الناس لمعرفة نتائج سقوطه ليل نهار، حار الناس معه بين البقاء والبقاء، الفاعلون المنتظرون القادمون من أين إلى أين؟ مع من ولمن؟ الكل يبحث عن الأمان، الكل يفاوض عليه، ليس نحن فقط، إنما على كواهل المؤمنين بسورية يقع الأمان، لأن مكوناته متوافرة بيننا.

من الضروري أن نمسح القديم، ونستحضر الجديد، وأن يكون همنا الأول العمل على صناعة الأمل بالعمل الجاد، فلا أمل بلا عمل، وإلا فسنبقى تحت مستوى ثقافة المنتظرين، لأن عالماً يملؤه الزيف السياسي، يسود ويعلو كعبه على الحقيقة التي يدوسها، ويسير عليها، من دون رادع، أي إلى إحلال الخوف والرعب من كل شيء، وأهم ما في خوفه هو الأمان والأمل، فمن يحقق ذلك؟

لنعترف أن مجتمعنا فقد الكثير من كل ذلك، لكنه لم يصل إلى اليأس أو الشعور بالفشل، إنه مازال صلباً رغم العبث الإقليمي والعالمي بمكوناته، من خلال الذين سعوا لتدمير حياته وسلبه مستقبله وأمنه وأمانه، لذلك مررت في ما سرت إليه، وقلت إنه عالم زائف الإثارة والافتتان، والتفنن في القتل شعاراته.

اختراع الأمان ضرورة مهمة، لأننا لا نريد اختراع المخترع ومكوناته، فالأمة العربية، ونحن منها، لم تقم باختراع أيَّ شيء، وأزماتنا منبتها تاريخي، لكننا لا نعترف، لأننا تقليديون، نستند إلى التاريخية بكل ما فيها من جهل وفخر فردي وأناني، لم نسعَ دائماً من الحاضر إلى المستقبل، وتعلقنا بثقافات ماضوية، تفكّروا معي أنَّ الجميع لم يقدر أن يخرج من ذاك البعيد، فانحصر الجميع فيه، ولذلك نجد أنها فرصة نادرة بعد أن فرَّت الثقافة الزائفة، وتاه فكر العابثين، تضخمت الأنا أمام عقد سورية الفريد، وفسيفسائها النادر الذي حاولوا اغتياله.

نحن المؤمنين بهذه الجغرافيا، وبما عليها، ندرك ونعي أن السياسة الفريدة هي التي تدير شؤونها بحكمة واقتدار، وعلى الصعد كلها، تؤمن الفرص المريحة للإبداع في عنواننا، وفرده بين المؤمنين بهذا الوطن، الساعين بجد للحفاظ على وحدة ترابه وبنائه وشجره وبشره وحجره.

د. نبيل طعمة