الجين الوظيفي

الجين الوظيفي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢١ فبراير ٢٠١٧

يتمتع بالغريزية المفرطة، ينمو كموروث مستتر بلبوس الدين أو الطائفة أو الأيديولوجيا، غايته الدائمة اصطياد التراكم التاريخي المنطقي، ومنطقه إبقاؤها بحالة تخلف وتشرذم رغم منحه فرصاً للتطور الشكلي أو المظهري، تتناقله الأجيال، مسؤول دائماً عن تخريب الأسر والمجتمعات والدول والأمم. على العكس تماماً من الجين الإبداعي الخلاق والبنَّاء الذي يدرك حركته أولاً، وأنه مسؤول عن بناء حضوره الاستمراري، يحاسب ذاته عند أي تقصير أو إهمال أو خلل، كيف بنا نمايز بين هذين الجينين، وما علاقتهما بالتطور والتخلف، بالتقدم والتراجع، بالظهور والاختفاء، بالإبداع والإبهار، بالانكسار والفشل، ما غايتهما من أنا الفرد ونحن الأسرة والمجتمع والدولة والأمة؟
اخترت عنواني وغايتي أن نصل معاً إلى فهم علاقة الجين بالموروث والمعادلة القائمة في الإنسان التي تأخذ به، إما إلى البناء وإما إلى الهدم، والتي تبدأ من علاقة الأبوين مع الأبناء، وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعضٍ، ومع الشارع والتنوع المتحرك فيه، وعلاقة كل واحد منهم مع المجتمع المكوّن الرئيس لصورة الدولة أيّ دولة، ومعهم نتدارس آلياتها، وعلى ماذا تعتمد أن تكون، دينيةً مفرطةً أم علمانيةً قابلةً لتطوير ثقافتها الدينية وفهم علمانيتها المؤمنة، وهل تعني العلمانية الإلحاد؟ أم إنها نظام عمل مدني، وهل يعني التديُّن التشدد والإرهاب ومستنده الماضي بكل ما فيه؟ أم إنه قابل للتفاعل مع مقتضيات الحاضر وظروف التطور ومواكبة المحيط وحاجاته المتجهة دائماً نحو المستقبل وآثار وجود مفردات التديُّن وبنائه في الفرد وانعكاسه على المجتمع؟ وهل هو استمرار للموروث الذي وجد آباءه عليه ودور الدولة في تعميق هذا الدور، أو الكشف عن مواطن الخلل فيه، وأيضاً الفرق بين الدين والإيمان، وهل الدين حاجة يمكن استخدامها بشكل دائم، أو الاستغناء عنها أو تفعيلها وإخمادها عندما تستدعي الضرورات، والإيمان حقٌّ لا يمكن العبث فيه، وماذا يعني الإيمان بشيء غير معرف أو معرف، والكيفية التي يجب التعامل معها من خلال العلم الكسبي والإبداعي الذي تدعو له حركة التطور، وكذلك إلى امتلاكه والإبداع منه بعد شرح الغايات المراد الوصول إليها؛ أي أن تكون هناك أهداف منطقية وواقعية تدعو إلى امتلاك التخطيط السليم والأهداف الواضحة التي تدعو الظروف ومستجداتها إليها.
الجين الإبداعي عرَّف المكون بعد أن فهم تكوينه، ووضع أفكار الأديان عندما آمن بإنسانية الإنسان كي يضبط الجين الوظيفي المنحصر بترديد ما يقوله الجين الإبداعي معتمداً بشكل دائم على قال وقيل وعن وعنه غايته الحصول على كل شيء من دون الإبداع في أي شيء، ودائماً أؤكد أني أطلق مفردة شيء على ذاك غير المعرف، فإذا تعرف انتقل المرء إلى المعرفة التي يكون بها إمساك البدايات الناجحة، التعلم- العمل- ماهيته- الزواج من أجل إفراغ الشهوة بغاية تحقيق العرف، أو كما يقال: الحلال المسؤول عن الإنجاب اللاإرادي أو الفطري، ولكنه يحمل صفة الشرعية؛ أي من دون فهم عملية التكوين، ومن ثم تأمين مستلزماته وبلوغ الموقع غير المتكافئ معه، بدرجات تعليمه أو من دونها وارتقائه للمراتب وتمسكه بها، لأن لغة أريد وحدها المتضخمة في جوهره من دون وعي، لا يعرف العطاء، أو التضحية، أو الإيثار، أو حتى الصح الدقيق، المهم أن يصل إلى ما يريد بأقل الخسائر، ولكن في النتيجة القاتلة أنه فشل في الوصول إلى الهدف، لأنه جين وظيفي لا يمكن له أن يكون إبداعياً.
وعندما نؤكد أن الجين الإبداعي الخلاق لا يحضر بالمصادفة ولا علاقة له بالموروث، لأنه ينتقيه بأناة، ويصله من خلال السعي الحثيث للمعرفة المقرونة بالعلم الذي يبدأ بالتعلم من كل صغيرة وكبيرة، يبحث فيها، تساعده القوى الخفية الغامضة التي يدين إليها في سره بالاعتراف، وأقصد هنا العقل الكوني الذي وزع على العقول الغاربة المنتثرة في الأرضين المغروس فيها وسائل الإعانة على الحياة؛ أي عقول الجبابرة والمفكرين والعلميين والثوريين، التي ترسم المفكر والمبدع والقائد، ومن يكون سيداً، ومن يكون بنَّاءً، ومن يكون رئيساً بعيداً عن أي مذهب أو طائفة أو دين، إنما هي علاقة الإيمان بالحياة والقدرة النوعية على التعامل معها من خلال الإيمان بالشيء وتحوله إلى معرف. ولذلك نجد أن هذا الجين ينجب القيادات النادرة والقدرات الجمالية التي تتقارب حتى تصل إلى درجة الخلق أمام مصنوعات الخالق وإدارته، بحكم علمه المحيط وعقله الكليِّ، وتبتعد عن الجين الوظيفي من باب استعبادها له، وتمثيله على ظاهرة الوجود وتعلقه فيها، حيث تمنعه من الوصول إلى المعرفة أولاً. وثانياً إلى التعلم الحقيقي، بينما تسمح له بامتلاك بعض من العلم الوظيفي الذي يخدم به نفسه.
ماذا نستخلص من هذا العنوان وأهمية استيعابه؟ الجين الوظيفي قدره الخطيئة بحقه وبحق غيره، وجين الإبداع وإن أخطأ فهو يظهر بحالة نجاح، وأكثر من ذلك إسكانه ضمن إستراتيجية الانتقال نحو الأفضل، لا الانتقام الدائم مما هو موجود وقائم، لأن الإبقاء والعمل على الجين الوظيفي واستمرار العمل فيه يعني أن التخلف هو الهدف المستدام، كما أنه يعني قتل الجين الإبداعي الذي يؤمن بالتطور، فالاحتواء والامتصاص يظهران أن إسفنجة الحكماء متوافرة وبكثرة، وأدعو إلى امتلاك فلسفتها وعلومها بعجالة مع اختيار دقيق للعاملين عليها، لأن الاستمرار في جدلية الماضي والحاضر وعدمية القرار الذي يجب أن يتجه إلى المستقبل يقتل جين الإبداع، ويبقى الجين الوظيفي في وضعية التقدم والتفوق.
لقد أصبح بالإمكان زراعة جين الإبداع المستنبط من جين الذكاء بعد إجراء الفحص بوساطة الروائز الخاصة به، إضافة إلى زراعة جين الذكاء ضمن الجين الوظيفي المسؤول عن البيروقراطية والروتين العاملين بشكل دائم على إنتاج الفوضى. هل نسرع نحن العرب ونبحث في آليات استحضار هذا الجين وزراعته، كي لا نبقى وظيفيين، نجمع، نأكل، نشرب... المال والجنس والعمارات همنا، والحروب والغزو لبعضنا شعاراتنا.
متى نمتلك العلمية والثورية الأخلاقية على التخلف والتشرذم والتبعية والاتجاه لبناء الإنسان على أسس تحدِّثنا إلى حدٍّ ما بواقعية للإسراع بالأخذ بها، كي نشعر حقيقة لا وهماً بانتقالنا من التخلف إلى النمو الحقيقي. من أي جين نحن؟ بمصارحات كبرى وواقعية أرجو أن نجيب، كي ننطلق من جديد.  

د. نبيل طعمة