الكنه الإلهي

الكنه الإلهي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٠ يناير ٢٠١٧

مسكون في الشرق الذي تفرد به ضمن رحلة إنسانية جسدته في المبتدأ، قاتل معها وقاتلت تحت لوائه، اختلفت معه، وتصارعت فيما بينها وبينه، صادقته وفارقته، ومن ثمَّ في مرحلة ثانية صلبته وحمَّلته آلامها، واعترفت بذلك إلى أن وصلت به إلى إخفائه، فرفعته ونزهته، ورسمت عنه في عقلها سكنه في جنان الخلد، وبيده يمسك بها، يقدمها كثواب، وصورت إلى جانبها جحيماً مرعباً يؤدي فيه البشر العقاب، شرق روحي عاطفي ملأته أساطير النخوة والشهامة والعزة بالنفس والغيرية والحميمية وتقديس الطوطم وإبداعه للآلهة المتطورة، بداخله روح القتال، ونزعات الغزو، وحب الدفاع عن إلهه ودينه وطائفته ومذهبه وملكه من زوجات ومال وعزٍّ وجاه وكراسي القبيلة والعشيرة والإمارة والملك وصولاً للرئاسة.
آلاف السنين مرت، ومازالت شعوب الشرق تستطيب الصراع والنزاع والسبي والتدمير، وهاجسها الرئيس الانتصار وتحقيقه بأي طريقة أو أسلوب، وأهمها القتال، القتال تحت شعارات الانتصار للإله وللدين وللطائفة والمذهب، وما هي إلا تجسيد لتلك الرغبات الجامحة القادمة للشهوة من تملك الأنا التي صورت الإله ضعيفاً منذ تلك الوثنية التي حضنت الإله بعد أن صنعته، أو اشترته في منازلها، فإذا خسرت كسرته، وإذا جاعت أكلته، وإذا فرحت عبدته، نحن في الشرق من صنع الإله، وتعلقنا بكنهه، وقلنا إنه ربُّ المشرقين والمغربين، واعترفنا بعد ذلك بأنه ربُّ المشارق والمغارب، وعدنا إلى توحيده، وقلنا: إنه ربُّ المشرق والمغرب، نعم نحن الشرق القديم؛ أي إنه من مشرقنا ظهر الإله، وخرجت معه  العلوم ومعاني الحب السامية والجمال الراقي وأدبيات الأخلاق والأديان، ذهب كل ذلك إلى الغرب، وبقينا نحن وحدنا مع الإله، من دون علم، من دون حب، من دون جمال، بقينا مع تاريخنا القديم وتجار أديانه ومعابده لأجله ومن خلاله فقط يحمل السلاح، واتجهنا نحميه بعد أن أحطناه وقلنا له لك الفداء، وضعناه في أوساطنا، نوقظه صباحاً، نحمله معنا في كل حركاتنا وسكناتنا، نحتاجه في مشاريعنا، نقسم به صدقاً وكذباً، هاتان المفردتان اللتان لا يمكن أن تشكلا معادلة بحكم التنافر، وعندما نعود إلى فراشنا نطمئن عليه، بأنه نام قبلنا، آمنا بالثواب والعقاب، وبالقيامة والجنة والنار، وأنه هناك في الدرك الأسفل من النار عذاب صقر، وفي الجنان حور عين وغلمان وخمر ولبن وعسل، من دون أن نتفكر في المعاني، أو نتأمل ماهية الرموز التي تحملها، ووصفنا أسوأ ما يوجد في القبور عذابات وضغوط وأنكر ونكير، أولم ندرك أننا من أوجد كل ذلك، ومن أجل ماذا كانت لنا الحياة، عبدناه خوفاً، وصورناه منذ نعومة الأظفار بأنه جلادٌ وحارقٌ ومعذبٌ،  شربنا صوره من خلال تربية الخوف، من دون أن نمتلك ثقافة الحب وحب الحياة والإنسان تحت سماء شرقنا، نبيت.. نستذكر العذابات.. القيامة والقبر والجنة والنار.. من دون وعي أو إدراك أنَّ في هذا الشرق فقط أسقط عليه التوراة والإنجيل والقرآن، وقبلها الزبور والأفيستا لزرادشت، وصولاً إلى تعاليم بوذا التي استقاها من معلمه كونفوشيوس، حينما نتحدث عن الكنه الإلهي الذي لا يحتاج إلى العبادات على الرغم من أهميته ورمزية وجودها، إنما يحتاج إلى التعاملات بين الجنس الإنساني، حيث تشير إلى استمرار الحياة  الأخلاقية، وتمتلك غاية واحدة ألا وهي تطوير الوعي حول مفهومها من خلال عنواننا، وأنه طاقة الحياة ونورها وعلمها، أي إنه طاقتنا التي تحركنا في الجوهر والنور الذي يتحرك بين انتشارنا، نريد أن نتعلق بيقين العقول وإيمان القلوب اللذين يلغيان أديان القشور وجلاديها وجهابذتها، ما المسافة بين الشرق والغرب؟ خيط أبيض وخيط أسود يحددان الإشراق والإغراب، الكنه الإلهي يقف عليهما، ويمسك بهما، يوزع الأدوار فيما بينهما، نبحث فلا نجد أي كراهية لهذا الاسم الإلهي الله والكل يحبه، ويعود إليه مبكراً أو متأخراً، ويلوذ به، وبشكل خاص عند المرض، أو الانكسار، أو الانكشاف، أو وقوع الجريمة، اختلفت معه  الندرة، واتفقت معه الكثرة، النتيجة أن الكل في المطلق يقر على أنه كنه الحياة وفكرتها المقدسة، لأن فعالية الإنسان ومهما بلغت من قوى فلن تنتصر على هذا الكنه، ربما تقدر من خلال الأفكار أن تتعداها إلى أحوال الغير، فإذا كان الكنه الإلهي فكرةً، والفكرة في حد ذاتها حركة، والحركة تنم عن الحيوية، سلبيةً كانت أم ايجابية، فإما أن تنقذ الإنسان، أو تدمره، منهية إياه بعد أن يخوض معه خلاصة فلسفة التمجيد لهذا الكنه الذي يشقى به، أو يشقيه تحت مظلة وجوده، أو يفرحه بعد تحقيق إنجازات ما، أو يلهيه في معابده المسكونة بالعبيد غير الفاهمين ماهيته.
الكنه الإلهي موجود في أعلى الجسد الإنساني، محمي بطريقة بنائه النادر، يخفق الفؤاد بنظام عمل علمي دقيق يدعونا للسؤال عن الكيفية التي يعمل بها أي جسد حي بعيداً عن الحالة الروحية؛ أي دراسة التفاعلات الكيميائية والفيزيائية، وعن الكيفية التي يتحول بها الطعام والشراب إلى طاقة محركة، هل يمتلك الإنسان في جوهره فرناً ذرياً ثنائي التغذية؛ أي إنه يعمل بوساطة الوقود الصلب والسائل معاً، لأن نظام المفاعلات يتم إما بتخصيب اليورانيوم، وإما بالماء الثقيل المطور من خلال تطوير الهيدروجين، وهذا يشير إلى أن الإنسان يعمل بالقوة الذاتية التي يديرها الكنه الإلهي، لا شك أن هناك كنهاً إلهياً قام بترتيب كل ذلك، هلَّا تفكرتم معي بهذا؟ وما معنى أن يكون هذا الكنه في عالم الشمال والغرب، ممنوعاً على عالم الجنوب والشرق، وضرورات بقائه دون ذلك، واعتناقه لفلسفة العبودية له التي لم يسعوا إلى فهمها وتعلم ماهيتها.
حولوا كل شيء إلى تاريخ ديني، ثم عادوا ليستقوا منه معارفهم من خلال وسطاء يجلدونهم صباح مساء، رسموا لغة التحريم على كل شيء، ولا حلال إلا من خلالهم، قد أكون قسوت، ولكن هي الحقيقة البسيطة التي يمكن لها أن تتطور إن أردنا التطور، أما الكذب الذي نقتاته فلا يمكن له أن يتطور، لأنه كذب قائم من خداع ومكر ونفاق، مازال يتدحرج بيننا، كيف بكم لا تبحثون عن الحقيقة؟ فقط ارفضوا هذا الكذب التاريخي وستجدونها.
 
 د. نبيل طعمة