سرمدية الكون

سرمدية الكون

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٤ مايو ٢٠١٦

تتسابق ضمن حركة الفكر الدؤوبة، تتلاعب بأمواجه الساكنة والمنفعلة، آونة داكنة، وأخرى خلاقة ملتمعة، تنقبض النفس هنا، وتنفلت هناك، التكاثر مستمر، ويمتد من عالم الحرية إلى عالم الحتمية، تتوالد الضرورات الحياتية ظواهر الوجود ومناسيبه، درجاته وطبقاته لم تتبلور حتى اللحظة، ولم تقدر البشرية على وضع حدود ناضجة لها، الكائنات مستمرة في وجودها، هي هي لم تتبدل، ولم تتطور في شكلها، في أسمائها، وكذلك كان الليل والنهار، والشمس والقمر، الفارق الوحيد الإنسان المتعلق بالحياة، حيث أمسه لا يشبه غده، إلا حين استسلامه، وهذا وحده لا يعاني إلا من عدم التغيير واستدامة الحال، فما سرُّ هذا الوجود؟ ماذا يحول بيننا وبينه، أيان مبتدؤه، ومتى يكون خبره.
يقف جميعنا مبهوتين أمام ظلماته وقليلاً من أنواره، ما ماهية ناموس الموت والبقاء والفناء؟ وما معنى الثانوي والأخير والآخرة؟ أيهما يتقدم على الآخر؟ هل تصلنا همسات الموت ونحن نحيا، وإن أصداءه قادمة من أين إلى جوهرنا، فنعلم أنه غدا قريباً منا، وبعدها نسرح في دنيانا المظلمة، ونستكين إلى باطن الأرض الحنون، ننسى معه الحب والكره والحنان والخشوع والعبادة، تصمت شفاهنا، يرنم القلب نفحات الموت، ما معني أن تتحول قوانا في غفلة منا إلى اللا وعي، وكأن بعقولنا تختطف من قبل ذلك العقل السامي الهائل المدير لكامل عقول الحياة، ألا يتمجد الارتقاء في بحر من الدموع، عندما تبنى السبل ويجنى الزرع بعد تقديم كامل العناية للأرض المنجبة لكل شيء، هل انتهت الثقافات بعد أن اضطهدتها الأديان، وتغلغل مشاريعها في العقل الإبداعي، ليصرعها منهياً من جوهرها تلك المشاريع الفكرية الخلاقة، كيف بنا نتابع سواد التخبط الحاصل تحت مسمى العدالة الإلهية أو الوضعية، حيث نجد أنها لا تجرؤ على تنفيذ أحكامها، وتحيلها إلى فلسفة الانتظار عبر المخلص الذي لن يحضر، أو من خلال تدوير الزوايا في الأماكن المظلمة.
سرمدي الكون خاطب أحياءه، أن تمتعوا بحياتكم، فهي لكم، والنهاية لي، ولكن انتبهوا من شهواتكم المحمومة، لأنها تأخذ بكم للسير خلف شياطينكم، وحينها لن تكونوا معي، لأنكم كائنون مع الخطيئة، تسكنون الكأس، وتدخلون جسد المرأة، فتتيهون فيه، تتعلقون بالمسير، وبعدها لن تستطيعوا الخروج من حياة اللهو والصخب والمتعة الحمراء؛ أي تدخلون حوتكم الأسود، وتنتهون فيه، لأنه عالمكم السفلي، إن العبقرية حالة مثالية مجهولة، فمهما فعلتم في حياتكم، فستعودون لي، إلى ترانيمي الأمينة التي تطمئن لها قلوبكم، وبها ترتاح عقولكم الصغيرة التي سرعان ما تكتشف جحودكم أمام إنجازاتي التي لا تضاهى، ومثلي الذي أدعوكم إليه، وأطالبكم بأن تستخرجوا ملحي من الماء الصامت، أو من مدافن الصخور التي تمنحكم إياه، أين أنتم من هذا التطاحن المعيب والتواطؤ الحقير على إنسانيتكم النادرة، وعلى الحياة التي أوجدتكم فيها من أجل التمتع بجمال تلوينها، كيف بكم لا تتألمون، وتبكون، وتثورون على قتل بعضكم بعضاً، أنا لم أزرع في عقولكم الشر، يخاطب السرمدي منجزه، إنما أنتم من أوجدتموه، ارتضيتم أن تغفلوا وتخنعوا وتساوموا بعضكم، وأن تتآمروا على بعضكم من أجل إملاء وإشباع بطونكم التي غدت كالنار، تسألها هل اكتفيت؟ تجيبك هل من مزيد، لتعلموا جيداً أن الطهارة لا تتألم، المدنسون يتألمون مما يجمعون، ويحصون ارتكاباتهم من الخطايا.
متى ندرك مفهوم السرمدية، ونحول مفرداتها إلى آداب وسلوك وأعراف وتقاليد تنجز التقارب الإنساني، بعد أن عرفنا أن العالم أصبح ضيقاً على البشرية ومحدود المساحة وحدوده الأفق، ومراقبة ما يدور حوله من شمس وقمر ونجوم كعوالم تؤدي له أعمالاً مضافة لفلسفة وجوده، ليظهر كوكبنا الحي كجزء صغير من كون لا نهاية له، كما هي الحال مع بدايته الافتراضية التي أوجدها الإنسان مضطراً من باب أن لكل شيء معرف أو غير معرف بداية، متى سنقدم إلى بعضنا رسائل المغفرة والتوبة عما نفعله بحق الحياة والإله والإنسانية، لماذا لا نمجد فضائل جنسنا، ونعمل جاهدين من أجل التخلص من مثلث الشهوات؛ شهوة العين، وشهوة الجسد، وغرور الحياة، متى نتخلص من هذا التفسخ الاجتماعي الذي عزز وجود الجبن الفكري والانصياع الشهواني للحياة، بدلاً من الإبداع والإنتاج الأخلاقي الذي يؤدي إلى ظهور النهضة الإنسانية من جديد، كيف يؤدي ارتباك الروح في الجوهر البشري للتشويش على الحياة، ما يسبب انعدام الرؤية البصرية، ويبقى في حالة هيام عن الوجود وسرمديته غير القابلة للتحديد.
سرمدية الكون صورة الحق، تتحد بها الطبيعتان المادية واللا مادية، فالحق أصيل مما مضى مروراً بالواقع، وذهاباً لما سيأتي من الزمن، فيكون بهما تجسيداً وتحديداً، يعبران في وجودهما عن الإنسان والإنسانية، الإنسان الذي تتعلق روحه بالغادين والرائحين الذين يطلبون دائماً من دون أن يعطوا، الذين ينشدون صلاحهم، لأنهم يرتكبون الخطيئة صباح مساء، الذين يحاولون فرض صلاحهم وتقواهم على السرمدي فرضاً، أين تكون مكانة الأخيار الواقعيين الذين يرشدوننا إلى الحياة وكيفية سيرنا فيها، وضرورات تمسكنا بها، لماذا تحملت البشرية عبء الجزع وثقل الخوف، أين يقظة الضمير التي تجعل الإنسان يشعر بحق أخيه الإنسان في العمل والرفاهية والتعليم بالحياة؟ أليس هذا حقاً للجميع؟ ألا يدعونا كل ذلك إلى الصعود إلى أعلى والتحديق في تناسق الأرض وفضاءاتها المحيطة بها والانتباه إلى هذا البهاء المثير لإعادة صياغة المفاهيم في زمن علت فيه الرذيلة على الفضيلة، وتفوق الشر على الخير بأشواط عديدة.
سرمدية فكرة هائلة واقعية وحقيقة، كما هي حال الروح الكلية الموزعة في أجساد الأحياء البشرية وغيرها؛ فهل نتفكر فيما نسير إليه؟.
د.نبيل طعمة