المنطق

المنطق

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٣٠ مارس ٢٠١٦

على الرغم من أنَّ الإنسان مخلوق عقلي حُـمِّلَ العقل من أجل التفكر والتفكير والنطق القادم من الحاسة الناطقة الموجودة ضمن الحواس السبع، الخمس المادية يضاف إليها الحاسة العاقلة، والحاسة الناطقة، وللعلم إنَّ الحاسة السادسة هي حاسة القدرات الخاصة، ولا علاقة لها بالحواس السبع، لا الإحساس فقط، كما تفعل بقية المخلوقات، وبحيث إنه امتلك تلك الميزات، فإنه احتاج للمنطق الذي يجسد النطق السليم للتعبير عن الفكرة الصحيحة، والتي لا تتأتى إلا من خلال الأسلوب والصورة التي يجب أن تمتلك المحتوى والمادة، فيحتاج بذلك لمعرفة قواعد النطق وقوانينه، وإلا فلن يمتلك آليات التعبير عن التفكير والفكرة.
فهو في مبتدئه سلامة النطق الصادر عن فهم الإنسان، لما يريد أن يوصله في رحلة الوعي الإنجابي والتطويري، تلتقطه الآذان، فيحدث الفهم، وهو أيضاً الفن المرسوم في الحِكَم المعلومة في الحركة والسكون، فالمنطق من نطق، وتمنطق فنطق، قال كلمة، فإذا دخلت عليها الميم، وهي ميم الميزان وُزِنَتْ وأصبحت في موقعها منطقاً يمكن أن يكون جميلاً مفيداً، ويمكن أن يكون سلبياً، وإذا دخلت التاء قبل الميم، تصبح تمنطقاً وهو التحزّم، بمعنى امتلاك المعنى الصحيح والكلمة الصحيحة التي تأتي في موقعها، فيعرف جمال الكلمة وصحتها وقوتها من خلال نطق منطق متمنطق؛ أي متسلح بسلاح الحكمة والمعرفة العلمية الدقيقة، وإنه ليُسعِدُ المتبادل معه الحوار والمعرفة في المسالك والمعارج والممالك، فتستكين له النفوس، وتتفكر به العقول، وهو هدوء العارفين، ونجاة الغارقين، وحجة المتعلمين والطالبين الوصول إلى كل الفصول باختيار أفضل السبل وإيجاد طرق للحلول.
إنَّ امتلاك الثوابت والحفاظ على الأوابد والاجتهاد لتمييز الفوائد والاستغناء عن النواقص وتصحيحها بتعزيز البصر من البصيرة إلى نظر ثاقب والإحساس وتطويره إلى حدس صائب وتكوين المخزون العلمي المعرفي، ليخرج الكلام المهذّب الذي يحمل المعاني المشذَّبة تصل للغاية والهدف، وتحقق المرام فيما يدل من الكلام، فيه العبارات الموجزة والحوارات الرقيقة القوية المشذَّبة المتلونة بألوان الجذب، فيها قوة الإثبات، وتحضُّ على التحاور والإقدام واصلةً إلى ما يتمناه المتبادل معه بكفاية وافية من دون الشروع في الحوارات العقيمة التي تؤدي إلى مسارات مغلقة مظلمة.
والمنطق الذي هو في الأساس حاسة عقلية مضبوطة ومحكومة بقواعد العلوم الآلية وقوانين النطق والمنطق، يتحرك بأوامر مضبوطة، لها قياساتها، لا تظهر إلا من خلال امتلاك جملة المعارف والعلوم والفهم الناتج عن الاحتكاك والمحاكمة، لتشكل في مجملها الخبرة العلمية والاجتماعية النظرية والعملية، فتنعكس على الشخصية، لنقول: إن هذا الإنسان منطقي، أي إن له القدرة على الإقناع وتقديم الحجة بشكل احترافي وواعٍ، مبتعداً عن العصبية والتشنج، معتداً بنفسه، آليته الهدوء الكلامي والحركة الواعية، فإذا ما تحدث أو تحرك، نقول إنه يمتلك حاسة ناطقة، والكل يعلم أن الحواس سبعٌ، لا خمس، فبالإضافة إلى حواس الشم والذوق واللمس والسمع والنظر هناك الحاسة العاقلة والحاسة الناطقة.
فالمنطق الذي يتشكل من كامل خواص الإنسان بعد امتلاكه للخبرة من خلال التجمّع الفكري الذي يؤدي مع الموهبة إلى النطق السليم، يعطينا مدلولاً نسميه المنطق، الظاهر منه علم بالشيء، فهل هو علم أيضاً؟ أم هو آلية قانونية تضبط الفكر؟ بعد أن عرفنا حاسة النطق، وهل هو عكس الجهل، والجهل المركب، فيكون اليقين الذي يجمع الحزم، والجزم والمطابقة للمعلومة أو القرار والثبات في لحظات الحوار، فيكون بذلك المطابق الثابت عكس الجهل والجهل المركب، حيث إن الجهل يمتلك الظن والضغط على اليقين من خلال إثبات غير المثبت، والتمسك بغير المطابق وبعصبية الإثبات التنافري.
فمن كونه يأتي من خواص العلم وخلاصة المعرفة، ويأخذ بنا انتقالاً وارتقاءً لزيادة التبحر والتعمق في العلوم الموجودة التي تنتقل إلى الذهن، لينهل المنطق منها، ويكون نتاجها، ويتقدم ليصبح نتاج المحاكاة العقلية، وتولد سرعة البديهة، كأن نقول: واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهي النتيجة المنطقية لعلم مستحصل، وبالمعنى الحقيقي يكون حديث القياسات البرهانية في الحدود التامة، فإذا عرف كل إنسان حدوده ووفق للوقوف عندها، كان له المنطق ووصف به، فالعلم بحدود العقل البشري وعدم تجاوزها من خلال تفهمه وفهمه لأسرار ما يملك، والذي يؤدي به لقياس زلاته والابتعاد قدر الإمكان عن الخطأ في تصرفاته، والعودة لاستدراك معلوماته ومقارنتها، حيث لا يكون منطقه ضبابياً، أو يكتنفه الغموض، فهناك من يستخدم هذا المنطق الإرباكي الذي أوجد المنطق الذكي لمقاومة المنطق الضبابي أو منطق الغموض.
فالمنطق إذاً: علم تنظيم الكلام، ولا يدخل في نطاق الفلسفة، بكونه فلسفة في جوهره ووسيلة مضافة لغيره، فيكون شكله لغاية التوضيح بالمختصر السهل لفهم الأصعب وإيصال الإفهام بسرعة واختصار.
وهو من العلوم الآلية، لا العلوم الذاتية، فهو خدماتي، ولا يستطيع أي إنسان أن ينجز فكراً إلا بعد مراعاة قوانين المنطق والانتباه لقواعده بدقة، فشكله الميزان الذي يزن به المعلومات المنطوقة ويقيم نتائج التفكير.
فالمنطق ضرورة لكل عاقل متفكر ذي علاقة تواصلية إنجابية إنتاجية اجتماعية، بكونه يبرمج ويرتب المعلومات الذهنية المسبقة، ولقد كان المنطق حاضراً في التعاليم الإلهية، فخاطب الرسول العربي بأن قال له: لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك؛ أي لو لم يمتلك منطق الحوار ولطفه لما ارتقى بالأمة، ولذلك كانت حقيقة فعله وأفعاله نتائج مبهرة، أنجبت حضوراً وتوافقاً عالياً، فارتقت الأمة، وأنشئت الحضارة التي نعيش اليوم على أمجادها.
ونحن كأمة مفكرة قدمت للتاريخ أياماً مشرقة، يجب أن تستنهض الفكر الاجتهادي والإنجابي، وأن تفطر بعد هذا الصوم الطويل، وتطور المنطق من خلال تطوير أساليب التفكير الذي يؤدي إلى اختصار الزمن وارتقاء العلاقات والوصول إلى الأهداف بغاية استعادة شخصية الأمة وإيهابها الوطني والحضاري.
د.نبيل طعمة