القبول والرفض

القبول والرفض

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٧ فبراير ٢٠١٦

السماء والأرض، الليل والنهار، الأسود والأبيض، ولدنا على هذه الأرض، كي يكون لنا الحق في الاختيار، وفي الوقت ذاته، المنطق يتحدث بأن ليس لنا الحق على الآخر في منعه مما يريد أن يختار، وهو يسير في حياته، فإذا حدث غير ذلك، وكانت هناك حلول للإكراه، كانت الشرارة الأولى لحدوث النزاعات الصامتة أو الناطقة، المثيرة والمقنعة، الصارخة والمأزومة، تتعالى وتتنامى لحظة حضور الحقّ والحاجة واستئثار الآخر بكليهما، وعدم قدرته على التفريط حتى بجزء يسير منها، العنف يتجلى دائماً عندما يصل السجال إلى العقم، أو ينحصر في عنق الزجاجة، فتعود الأسئلة البدائية، لتعوم على سطح الفكر الفقير للفكر، هل يتعارض العلم مع الدين؟ هذه العلاقة خضعت لجدل هائل عبر كل العصور، وفي اعتقادي أنه يستمر إلى ما سيأتي من الزمن، وبشكل خاص ضمن المجتمعات الروحية التي تعتبر العلم نقيضها، على حين أنَّ الدخول إلى جوهر العلم يؤدي إلى كشف الكثير من حجب الغيبي والإيمان النهائي بالكليِّ الأزلي صاحب الكون، من باب أنَّ لكل شيء معرف صاحباً، فالعلم يؤدي إلى زيادة الثقة بالذات، وبما نريد الوصول إليه، لتمنحك اليقين، بأنك قادر على الوصول إلى اللا مرئي، ومنه يكون أنَّ الإيمان الحقيقي هو إحساس عميق للقبول بشيء، أو رفضه، وفي كلتا الحالتين، أنت مؤمن، والبراهين عند العاقل كافية لإثبات الثوابت التاريخية، ونفي ما ينبغي نفيه، والمتحركات الجمالية والتأمل يأخذ بنا إلى إدراكها بسرعة فائقة، هل يعقل أن نؤمن بأنَّ كل من ليس معي فهو ضدي؟ وإذا حدث هذا، أفلا نكون مجسدين للعنصرية والعنصرة والتعنصر على الآخر الذي كوَّن رأياً، ومنه يتولد لدينا سؤال يتلوه وجوده فيما بيننا، ما معنى اليقين والمبادئ، والخير والشر، والعدالة والحرية، والمساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة بين البشر، وتخفيف وطأة الفقر والمعاناة من القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني، بأديانه ومفاصله وتشعباته، وما معنى أنَّ القائمين عليها مذَّاك الموغل في القدم، تخصَّصوا فقط في مقتضياته، ولم يعملوا قط في مجالات البحث العلمي ومحاوره الفيزيائية والكيميائية والرياضية والفلسفية والهندسية، فكانوا على طرفي نقيض مما أوجدوه سابقاً، وتعلقوا به ضمن مسيرتهم، وغايتهم الحفاظ والانحصار من دون تطوير فيه فقط، وكما صاغه الأولون، لأنهم ليسوا بقادرين كعلماء أديان، أن يخوضوا تجربة ذرية ضمن مفاعل نووي، وكذلك هم علماء الذرة، ليس بإمكانهم القيام بتجاربهم ضمن معبد، أو كنيس، أو كنيسة، أو مسجد، فهذه التخصصات أوجدت الفواصل وإشارات الاستفهام حول الإثبات والنفي، الوجود وعدمه، الرفض والقبول للمسلمات والبحث فيها، حيث وصل الجميع من الآخر إلى الاقتناع بأنَّ العلم والدين نظريتان، لا يمكن لأحدهما أن يثبت الآخر، ولديهما حقوق نقض بعضهما بعضاً، ولا ضير في ذلك، فراح كل واحد يعمل منهما بنفس الآخر، من دون رفض؛ بل بحث عن تكامل أخلاقي.
كم صعب بعد هذا الكمِّ الهائل من التطور العودة إلى الوراء، كأن نقوم بعملية إثبات كروية الأرض ودورانها، وأن يكون هناك من يدعو لحرق أو سحل مكتشفيها، أو التصور بأننا مضطرون لإثبات الأفكار من أجل تحريرها، وصحيح أنَّ حدوث عدم التطابق في الاستنتاجات من أجل نجاح عملية التمايز ووجود الصح والخطأ في العلم، كما في المقدس، يغني عمليات الاستمرار والإبداع التي تحضر من سواقي الينابيع النقية، وحتى إن لم تنجح في بلوغ أهدافها، إلا أنَّ فوائدها مؤكدة في مسيرة حضورها، من خلال ضفتيها اللتين تستفيدان من مرور مياهها كثيراً، فأينما وجد الماء وجدت الحياة، بديهية أليس كذلك؟ فهل نعلم أن مياهنا تنفد؟ أجل نحن العرب مهددون بالزوال، إن بقينا هكذا عاملين على تهديد بعضنا بعضاً ضمن أزمات أخلاقية مرعبة، فها نحن منقسمون أكثر من أيّ وقت مررنا به؛ طوائف، مذاهب، عقائد، حتى في أحلك الظروف الماضية، لم نصل إلى ما نحن عليه، لا قيم ولا أفكار جديدة، تبني أو تهيئ لبناء قيم وأسس، يكون للقبول فيها حضور، ولا يكون للرفض اللا عاقل وجود، فإذا كنا حتى اللحظة، لم نستطع إيجاد برهان علمي على مناقشة وجود الله بشكل مادي، أو لا مادي، وطرح مفهوم الجنان بلغة فلسفية، وأنَّ الجحيم يصنعه الإنسان بنفسه ولنفسه، وكذلك الإيمان الذي لا يحتاج أن يكون له أساس عاطفي لمعتقداتنا، لأنه يشكل الأحاسيس والمشاعر التي تمايز بين القبول والرفض، بين المقنع والساذج، كيف بنا حتى اللحظة نخوض غمار البحث في كل ذلك، ولا نبحث في أسس بنائنا العربي فكرياً، ودراسة هشاشته وبشاعة مشهده، وتحول إنسانه إلى إرهابي مكفّر للعالم أجمع، ناسياً أنه كفّر نفسه أولاً، وكفّر مجتمعه، وغدا مرفوضاً عالمياً، كيف بنا مرة ثانية لا نقوم بتشكيل طاولة نجلس إليها، نناقش ما نحن عليه بمصارحات وواقعية بعيداً عن الطوباوية والأنانية، بغاية الاستثمار أولاً، والاشتغال عليه كي يخرج إلى الحياة بقواه الفكرية التي تصنع له القوى المادية.
هل لدينا قيم؟ نقول نعم، فلا يوجد مجتمع ليس لديه قيم، إلا أنَّ السؤال الذي يفرض حضوره، كم بقي لنا منها، وهل نحن مهددون فعلاً في وجودنا، أم إن قيمنا مهددة بالزوال نتاج تشتت أفكارنا، واتجاه جميعنا إلى الاقتتال، أو التصارع عليها، ومازلنا نبحث في إثبات من الأفضل، نحمل شعارات من دون فهم معانيها، أو آليات بنائها، إلا أننا مستعدون للانقضاض مباشرة على بعضنا بعضاً، وفي أي لحظة يهدم كل شيء، وتكون العودة إلى نقطة الصفر لدينا في ذلك، حيث لا قيمة للوقت ضمن الزمن المتطور.
القبول والرفض متلازمتان تسكنان فلسفة الحياة المنطقية، حيث يكون القبول خاضعاً لعلم المنطق وأدبيات الحياة، والرفض اللا عاقل يسكن سكون العقل، وعدم قدرته على التطور والانتقال نحو تحقيق الوجود.
د.نبيل طعمة