الانهيار العربي

الانهيار العربي

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٠ فبراير ٢٠١٦

استطاع الآخر الذي أنجز زراعة عدو حقيقي ضمن البيئة العربية فهمَ الشخصية العربية وواقعها تحليلاً علمياً ونفسياً وروحياً، بعدها نظم اختراقها، وعرف بوابات الدخول الدائم عليها، والأمراض المستشرية فيها، وذهب إلى العمل الدائم والدؤوب عليها، من دون توقف ولا هوادة، لذلك يسأل الشارع العربي لمصلحة مَن استمراره وكيفية إيقافه حيث وصل، وسبل إعادة بنائه، وهل نقدر على ذلك ذاتياً، أم إنه لا بد من وجود داعم فاهم لنظرية بنائنا ومؤثرٍ فيها، وأيضاً دعونا نبحث في نظرية الصمود ومقتضياته والتضامن وأبعاده، وما الفرق بينهما، وأيضاً مفاهيم المقاومة والممانعة، وإلى أي حد يمكن لنا أن نقوم، وما حاجة كل قطر إلى الوحدة الوطنية، وبين من ومع من تقوم وتصنع، هل مطلوبة بين الشعب الواحد المتنوع في انتمائه وعقائده وأديانه وإثنياته وماهية اللغة الجامعة التي تظهره في حالة وحدة نوعية الوطن؛ اللغة- الإنتاج- الثقافة- المصير المشترك، وهذه الوحدة الوطنية إن تحققت، فهل تكتفي بذاتها؟ أم إنَّ عليها أن تكون متحدةً أيضاً بصورة كلية مع قيادتها السياسية التي تؤمن لها حقوقها، وتديرها بحنكة ودراية إيجاباً أم سلباً، والغاية دائماً هي الحفاظ على السلم الأهلي، وسلامة الوطن أمام المعتدي بعد تحديده بدقة، والاتجاه إلى إنشاء قوى داعمة له من أجل إزاحة وإنهاء اعتدائه، ما الحجة التي نحملها ونعمل من خلالها لوقف التدهور؟ ما الذي ينبغي علينا أن نسكت عنه، والذي يجب أن نبيحه؟ ما أسباب مصائبنا؟ أليست جميعها مدونةً في سجلنا التاريخي الحديث منه والقديم؟
طبيعي أن يسأل الشعب العربي بشوارعه الضيقة والعريضة عن حالة الانهيار الهائل للحضور العربي كأمة ومجتمعات وأفراد، وغير الطبيعي هو أن نصل إلى ما وصلنا إليه بعد أن اختلَّ كل شيء؛ المقاييس، الحدود، التشويه الكبير للمبادئ والقيم، اتهامات كبرى وصغرى لأفراده، لمجتمعه، لقيادته على اختلاف مراكزها، الشكوك حلت محل الثقة، التعاملات التجارية والدينية والدنيوية تدل على بنية مجتمعاته، وأنها متمتعة بثقافة واحدة، تتجلى في الأنا، خضوع الأمة العربية برمتها لمرحلة الاستعباد اللا مرئي بعد مرورها بمرحلة الاستعمار المرئي، وذلك نتاج تصدع بنائه وهشاشة أساساته، هل هذه الحقبة التي تمرُّ بها الأمة العربية ضرورية من أجل ولادة جديدة؛ أي خضوعها للضغط، وانحصارها ضمن أسوارها، وهجرة عقولها الخبيرة إلى خارج حدودها وقواها البناءة واستكانة فكرها واستسلامه لمصالحه الضيقة، حيث نجد أن الاهتمام تحول بشكل نوعي من العام إلى الخاص؛ أي من الأمة الكبرى إلى الشعب القطري، ومن القطري إلى المناطقي، أو الطائفي، إلى الفردي الذي أخذ يبحث عن نجاته وبقائه على قيد الحياة بسد الرمق، والبحث عن لقمة العيش التي أرعدته الصدامية التي تنادي بالوحدة، وأفزعته الاشتراكية الغريبة عن طباعه، ورضي أن يكون بلا حرية، لأن الحرية في أسها وأساسها مقيدة دينياً وقانونياً وحدودياً وعالمياً؛ أي إنها وهم يسكن مفردة واسعة وعريضة، وشعار رنان، لأن الإنسان عبد للإله وللحال، وللقضايا الصغيرة والكبيرة، وللخطيئة والمال. نعود للسؤال وأضيف: هل امتلكنا نحن العرب قيماً نوعية؟ هل حافظنا عليها؟ هل مهددة حقيقة بالانهيار؟ هل لدينا أزمات أخلاقية، نشأت بسبب ضعف ووهن العادات والتقاليد والأعراف الجيدة والخصال الحميدة التي تملكتنا إلى حين، بفضل انتشار تعاليم الديانات، إضافة إلى الديانة الإسلامية التي أضفت على العقلية العربية الكثير من الإيجابيات، إضافة إلى ما كانت عليه هذه الشخصية، وهل الشخصية العربية منحصرة أساساً في الكتلة التاريخية السورية التي بلغت حدودها ما يقرب من ستمئة ألف كم2، ومنها انسابت وتعممت إلى كامل الجغرافية التي أطلق عليها فيما بعد العالم الإسلامي، ومنه كانت الأمة العربية؟ دعونا نسأل: لماذا ابتعدنا عن قيمنا الروحية والإنسانية والاجتماعية والإنتاجية والإبداعية؟ دعونا نخضْ غمار مسألة أسباب الانهيار بمصارحات علمية تقنية.
يستمر الانهيار للعروبة نتاج ضعف الشخصية الثقافية العربية واختباء فكرها وبقائه في جوهرها، من دون القدرة على إسعاف حالات الانهيار، أو وقفها على أقل تقدير وصراعها في الوقت ذاته مع الرؤى الدينية المنتشرة، وخلافها الدائم مع مجموعة العقائد المنتشرة الماركسية البعثية القومية الاشتراكية الوجودية، وتمسك الشارع العربي بالأصولية الإسلامية وسلفياته التاريخية والمستحدثة، ما أنشأ ومن ثمَّ قاد إلى حدوث جدليات تبحث بشكل دائم عن حلول، من دون القدرة على إنتاج الحلول، وساعد على ذلك كثيراً الفرقة الهائلة القائمة ضمن النظام العربي، وقيام كل فريق يعتلي سياسة دولة تبني فكرة مختلفة عن الآخر، ومحاولة فرضها، أو نشرها بالخبث، أو بالدهاء، لا من خلال نشر الفكرة وإيضاح أهدافها وغاياتها، وأيضاً فشل جميع مشاريع الوحدة، وصولاً إلى فرط عقد التضامن، وانتهاءً بالتفكير في الانقضاض على بعضهم، والكل واقع في هذه المطبات المرعبة، ما يؤدي إلى خضوع الجميع إلى هيمنة الأجنبي، أو الاستعانة به من أجل بقائه.
لا أغالي إن أصررت على أنَّ دمشق وحدها تشكل العمود الفقري الحامل الدائم للعروبة والإسلام، لأنَّ العروبة تمثل شخصية التنوع والتعدد للإنسان العربي، وتؤمن به، وفي الوقت ذاته الانتشار الإسلامي وثباته وقوته، ما كان ليكون لولا دمشق، حيث منها انطلق إلى الشمال الإفريقي ومحيطه الآسيوي، ولولا ذلك لبقي منحصراً، وعندما أطلق عليها القادة العرب بأنها قلب العروبة النابض، نطقوا الحقيقة التاريخية والحداثوية؛ فهل ما يجري اليوم على الساحة العربية، يجري من أجل تدمير فكرة العروبة؛ أي يشكل السعي الحثيث لتدمير دمشق، أو السعي لانهيارها، حيث إن حدث ذلك، اتجهت العروبة إلى الشخصية الدينية الشمولية، ومؤكد انهيارها؛ فهل ندرك ما يجري، وبأنه محاولة لتدمير الأمة برمتها؟.
د.نبيل طعمة