تجسير الهوّة

تجسير الهوّة

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٣٠ سبتمبر ٢٠١٥

بين الماضي والمستقبل، هذه المسكونة في الحاضر الممتلئ بالآلام رغم حصول التطور العلمي الكبير، إلا أن الضرورة تدعونا للتوقف والبحث عن الحلول بغاية استدراك الحاصل في الحاضر والتأمل فيه، والعمل حثيثاً لتلافي الخطيئة الكبرى التي تتفاعل يوماً بعد يوم، هذه الضرورة التي أصبحت حقاً علينا وحاجة تدعونا إليها مع أهمية التفريق بينهما، من باب أن الحاجة تباع وتشترى، بينما الحق ملك طبيعي منحته الحياة ومديرها الكلي للإنسان بشكل خاص، هذا الذي فقد الكثير من حقوقه بفعل لهاثه خلفها، بينما هي بينه، فتحول الحق إلى حاجة لها أثمان، كما هو الحال في الماء والتراب، ولم يبق إلا الهواء، هذا المثلث الذي يمثل وجوده المادي ناهيك عن حقوقه في الحرية والكرامة والتجوال.
عالم منفلت تاريخياً بفعل بشريته، على الرغم من ظاهرية الانضباط مبهراً وباهراً وعديماً، وفي الوقت ذاته معدماً لا حلول وسط فيه، الحرب دائماً شغله الشاغل، سلامه قليل وضئيل، حربه الواسعة والعريضة لا تقف عند فلسفة الرصاص، إنما ممتلئة بالمؤامرات والمكائد والأشراك، تبدأ مع إشراقة كل صباح، بعد أن تجهز في أسرار العتمة والظلمات، مكوناتها الشعوب، بسيطة كانت أم غنية، الكل يتآمر على  الحقوق، وضرورة تحويلها إلى حاجات صراعات مستمرة من أجل السيطرة بين أدوار الذكورة، وقيمة الأنثى التي جسدت الآلهة قبل ظهور المقدس، وتحطيم أبرام الأصنام بغاية إظهار الإله الواحد وتوحيده، وكذلك فعل السيد المسيح الذي هدم الهيكل المادي بثلاثة أيام، وأعاد بناءه بالروح بالمدة ذاتها، ومن بعده الرسول العربي الذي حطم أيضاً الأوثان الأنثوية اللات والعزة وهبل ومناة، ففهم الناس أن الله ذكر، فكانت الهوة الكبرى بين مفهومي الذكر والأنثى، بعد أن عبد الناس الأنثى نتاج سيطرتها وحكمتها أتى دور الذكورة، وربما كانت فكرة السيد المسيح خرقاً لهذه الهوة، من أجل خلق فكرة التوازن أو التنبيه لإعادة النظر في النظم الموروثة، إلا أنها بعد ذلك وقعت في الهوة ذاتها، فما ماهية الذكورة الآن؟ وما الذي تمتلكه الأنثى حتى يكون بينهما تلك الهوة؟ ففي الماضي كان ينادى على المرء باسم أمه، وفي المستقبل سيكون كذلك فهل الذكورة حالة مؤقتة؟
لنتفكر ملياً، ولنتبصر مديداً في تلك الانتقالات السريعة، التي غالباً ما تكون عنيفة، بغاية إبقاء الهوَّات، وأكثر من ذلك نجدها تعمل على اتساعها وتعميقها، لتئد كل ما هو جيد وجميل، تأخذ الفكر على حدود الهاوية، لا ترميه، بل تريه نهاياته المحتومة، مخيرة إياه بين الماضي والمستقبل، وفي الوقت ذاته  تقول له: أنت الحاضر كيف بك تخرج مما أنت فيه؟
صراعات مستمرة بين الغرب والشرق، بين عالم الشمال والجنوب، بين الظلمة والنور، بين الغني والفقير، بين الكثرة التي تمثل التكاثر والتخلف والندرة التي تجسد النوع والتقدم، إنه صراع الكم والكيف، هوَّات هائلة، فروق شاسعة وواسعة، مؤكد أن الإنسان هو المسؤول الأول والأخير، الإله يبتسم من هذه الأفعال في علاه يقول: لا دخل لي بكم، أعطيتكم العقل، لتكونوا به ميزة عن الأجناس الأخرى  التي تنظرون إليها على أنها غير عاقلة، والعكس هو الصحيح، إنما هي خطيئة مضافة يرتكبها الإنسان، ليس فقط بحقه، وإنما بحق الحيوان والنبات والجماد، وكلما تراكمت الثروة ظهر العنف والفسق والجريمة، لتشكل مع العلم أو الجهل صناعة القوة الغاشمة، فالقوة قوة، ولا يمكن إطلاقاً نعتها بالخيرة، لأنها في النهاية تستخدم ضد الآخر، وأياً كان شكلها في الدفاع أو الهجوم، تجسد نظرية الصراع بين الحرب والسلام، وما التسابق لامتلاك القوة إلا من أجل الاستعداد إلى شيء ما، أي شيء؛ إنسان، حجر، شجر، ماء، سماء.
تجسير الهوة بين الأفكار الماضوية القديمة والحديثة والمستحدثة، غدا من الأهمية بمكان رغم صعوبة الإفلات من الماضي، أو حتى من بعضه، وإننا لنجد كثيراً من الصعوبات لحظة إرادتنا حذف بعض منه المسكون في الذاكرة، كي نستطيع استقبال قادم جديد، أو حديث، أو حتى العمل على تطوير الأفكار، بحكم أن الموروث أكبر من المستقبل، والتعامل معه يحتاج إلى عمليات جد دقيقة، تمتلك الصدق والصدمة في آن، الشعارات ملأت الحياة حرية، ديمقراطية، ليبرالية، روتيناً، بيروقراطية، ديكتاتوريات شاملة بلبوسات مغرية، مباشرة وغير مباشرة، تعقيدات الحياة جميعها تعزز الحذر والحيطة والحرص من أجل التمسك بها، وفلسفات الانتظار مع تطور الإنجازات وعدم القدرة على إيقاف الموت الخاطف طبيعياً أو اصطناعياً بفعل فاعل، البحث مستمر عن المساواة التي لا يمكن لها أن تحضر إلا بعد جسر الهوة والعدالة المنشودة حلم الإنسانية الذي لا يمكن له أن يتحقق بناء القيم والمبادئ واستعادة الكرامة، بعد توسيع مساحات العقل القابلة لحصول ذلك، خيارات الحياة موجودة، الإشكالية قائمة ضمن توزيع الأدوار، ازدواجية المعايير الأخلاقية والدينية، البحث عن المرونة، بعد أن علت الصلابة جباه الجميع، الأغنياء يحتاجون إلى المنتجين، ففي إنتاجهم  تكمن ثروتهم، إلا أن تكاثر الفقراء غدا عبئاً ثقيلاً على الندرة، وانتشار الجهل في الحقوق من حيث ضياع تراتبية المطالب وفقدان الثقة بين الكل، ليعود المكر سيد المواقف، يسعى دائماً لتحقيق الهوَّات، وأكثر من ذلك يعمل بكل قواه لحمايتها.
الفرضية والنظرية ورغم اختلافهما تتحدان وتتحدثان عن أن البقاء للأقوى، كما هو عالم الحيوان والنبات تماماً، إلا أن الفوارق بينهما وبين عالمنا الإنساني يكمن في ميزة النسيان، الإنسان لا ينسى بل يتناسى الفشل، الهزيمة، القهر، حتى الموت، وسواده الأعظم لا يؤتمن على الأسرار الحياتية، لذلك نجده ينهب بعضه، بينما عند الأجناس الأخرى مفقود، فلا مستودع السرّ ذائعٌ، ولا الجاني بما جرَّ يخذلُ، إلا أن التساوي يحصل بين الجميع في شعور واحد، ألا وهو  البقاء الذي يتحدث عن الأقوى المستخدم لأفعال المغامرة، تحتاجه الحياة الآن، لأنه قادر على جسر الهوة بين الجميع، فهل يتم استخدامها والحاجة ماسة لهيمنتها رغم الإحساس الوارد من  الجميع بالانهزام أمام مشاهد التدمير المادي واللامادي، إذاً فلتكن من أجل الخروج من أجوائها التي تغرينا أكثر بالسقوط إليها، فهل نفعلها، كي نعود إلى الحياة ومغرياتها، وبعدها نناقش إنسانيتنا التي نهبناها، ونفكر في استعادة بقاياها، نطورها، نخرج من الحاضر، نهدم معه الماضي، فيكون لنا استحقاق في المستقبل.
د.نبيل طعمة