الحاضر لا يحدّه زمن

الحاضر لا يحدّه زمن

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٢ أغسطس ٢٠١٥

اليوم حاضر غداً مستقبل يصبح حاضراً بالنسبة لبعد غد الزمن ثابت لا يتغير، نحن نتحرك، نتغير، نكبر، ننتهي بشكل أو بحالة ما، أو تحت ضغط ظرف معين، نتفكر، نجد أنَّ المستقبل بعيد جداً، من ينتظره فسيفنى قبل أن يصل إليه. فما جدوى بقائنا في الحاضر، ما دامت الأزمة مستمرّة؟ كيف ومتى ستنتهي فيه برأيكم؟ أم إنها ستستمرّ، تتنقل فيما بيننا، تنتظر النهاية أو الذهاب إلى المستقبل، أم هي حالةٌ كانت ضرورية وتجربة قوية غنية وثريّة، لكونها ممتلئة بالآلام والأحزان والدمار والكراهية، تربّعت على عرش الرفاهية والاستقرار الأمني. وكي لا يتكرر كل هذا على البشرية جمعاء، دولاً ومجتمعات وأفراداً، وأن تستفيد قدر ما استطاعت مما نحن عليه ويمرّ بنا. واستمرار التجربة وتكرارها في الحاضر أفضل بكثير من أن تعود في المستقبل، وطبيعي أن يصيب أي تجربة فشل جزئي أو كليّ، فتحاول من جديد. هكذا فعل العلماء إلى أن وصلوا إلى النتائج التي نحيا عليها الآن؛ أي امتدّ حاضرهم كثيراً حتى وصل إلى المستقبل، تألموا بقوة كأفراد، كإنسان، كبشر، فكانت الإنسانية أكبر منهم، والبشرية أبقى من البشر. وكذلك الألم الفردي يستدعي الآخر من جنسه، من أجل تخفيف الألم الفردي الاجتماعي الجماعي. من يتحرّك من أجل تخفيف آلام مجتمع أو دولة؟ ألا يستوقفنا عنواننا لنناقش جميعنا لكيلا يتكرّر، أي لا تتكرّر الأزمة التجربة حاملة الآلام.
المراقب لمجريات الحاضر الذي بدأ منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى حروب الشرق الأوسط إلينا، يعلم جيداً أنه ما زال مستمراً، ولم يشهد العالم أحداثاً منذ تلك الحرب، مؤلمة ومرعبة، كما تشهده منطقتنا العربية الممتلئة بالمصائب والأحقاد والمكائد والأشراك وروائح الكراهية، حيث أخذ الجميع في البحث والتقصي عن حلول كي لا تنتقل إلى هناك؛ أي إلى المحيط القريب والبعيد بنا ومنّا، ولنتأمل أن الحاضر امتدّ من الحرب العالمية الأولى، حتى حدثت الحرب العالمية الثانية، هل كل ذلك يجري من أجل الوصول إلى المستقبل؟ وهل هكذا يكون حال الحاضر الذي نعتاشه، والذي يبدو أنه لا حدود له، إلى أن تصل التجارب جميعها إلى نهايتها. فالعنف المسكون والممتلئ فيه لم ينته بعد، وما زالت شياطينه تتلاعب بمفاصله عاملة ليل نهار، من أجل تدميره إلى أقصى مدى. اللاعنف يقف متفرّجاً لا حول له ولا قوّة. المؤمنون الحقيقيون المدركون بمجريات الواقع مرفوضون فيه، ممنوعون حتى من الشهادة عليه، ولطالما أشاروا وسجّلوا علامات استفهام كثيرة، حاروا معها بحثاً عن كيفيّة إخراجها من العنف. فالعنيفون مستفيدون جداً من الهمجية والوحشية السائدة، ولهم مآرب كبرى يجهدون ليل نهار لتحقيقها، ولذلك نراهم في دائرة اللهاث وراء اتّساع الحاضر، من باب أنَّ ما يجنون متوافر، طبعاً غايتهم السيطرة على كامل مقدّرات الحياة. وفي اعتقادهم أنه بعد انتهاء كل شيء، يبدأ تصنيع المستقبل بإرادتهم. يتمّ ذلك بعد أن يكون المسح قد أدّى غايته، أي الحاجة إلى البدء من جديد، ليظهر المستقبل واقعياً، يقبل به الجميع. هل تصدّقون أن هناك مستقبلاً؟ أقول ربّما، لكنّها تبقى لعبة ذكاء الحاضر الذي يغري العقل البشري، يدفع بنا للإنجاز من أجل ماذا؟ من أجل إعادة تدميره! فهل يكون المستقبل الأمان، أم إنه يمتلك انتظارنا، والهدف إعادة التجربة، وإلا فلن تستمر الحياة، لأن الاستقرار حالة مؤقتة، والأمان غير متوافر، حتى في جوهر البشر، لأن البشر ابن الخطيئة، والخطيئة تؤرق وتؤلم وتشاغل، فهي الحاضر والحاضر يستثمرها.
اليوم لا نحتاج إلى الثقافة، بل تعالوا إلى المعرفة، من أجل فهم ما يجري، وكشف أسرار لعبة الحاضر، التي يمارسها العقل البشري أمام إنسانية الإنسان، هذا العقل الذي أخرج محتوياته القديمة، يفعلها بين الفينة والأخرى، حتى وصل به إلى جوهر الفرد البشري، واستطاع إحلال الصراع بداخله، وبدهيّ ألا يكون نورٌ بلا ظلام، ولا جمالٌ بلا قبح، ولا ليلٌ من دون نهار، حيث الكلّي الأزلي أوجد له صورتين، أخذتا شكلي إلهين، الشر والخير، يستثمرهما كغطاء، يعمل بينهما، فيعملان تحت مظلّته بقوّة، كما هو حال الحاضر العنيف الفاعل تحت مظلّة المستقبل، مستخدماً إياه كوعد قادم بأنه قادم، وهو كما تحدّثت بالسياق، يجهد كي لا يحدث أو يقترب.
الآن لماذا؟. لأن لعبة الكبار مع الصغار آخذة في التمدّد، لقد تكاثر الصغار لدرجة مرعبة، وتراجع عدد الكبار بسرعة مذهلة، إلا أنَّ القوّة ما زالت هي الندرة، تتحكّم بشكل أقوى، مديرةً الصغار برمي العنف بينهم، والغاية كسر الإيمان الحقيقي والعنفوان، أي سحق الكرامة الإنسانية، كي لا يحدث السعي للحصول على مقعد في الأمام، حتى وإن كان الأمام في المؤخرة.
المستقبل في متناولنا على يميننا أو يسارنا، ونحن نسير مؤكّد إلى الأمام، نحصل عليه، حين ينتهي العنف، ونمتلك الأفكار والقيم الحقّة، الموجودة في جوهر اللاعنف. وكل ما نحتاج إليه هو في متناول فكرنا، إلا أنه يبدو أننا مصرّون على البقاء في الحاضر، الذي لم يعد يمتلك أي أمل، ولم ندرك بعد أنه غير صالح التعامل معه نتاج احتكاكنا المباشر؛ أي تزاحمنا على كل شيء، والتصاقنا ببعضنا نتاج التكاثر الهائل، ما أدى لاحتكاك البشر بالبشر، وهذا يعني أن الصدامات واقعة لا محالة، فعلى جميعنا التنبّه من الحاضر الجائع، والنهم الساعي لالتهام كل شيء، حجر وبشر وطير وشجر، والخلاص مؤكّد لم يعد هيّناً، إن لم ندرك الإخلاص، ونستخلصه منه، فخلاصنا يعني وصولنا إلى حدود المستقبل، وإن لم نتفهم، ونفهم هذه المعادلة، فلن نلتقي، ونبقى نلهث بلا نتائج في مساحات الحاضر.
د.نبيل طعمة