قلمــــــي

قلمــــــي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٠ يونيو ٢٠١٥

ينساب من فكري الذي أمتلك، يبكي ويفرح مثلي تماماً، إنه في كثيرٍ من الوقت يضحك ويبتسم، له روحٌ كما روحي، يهوى وتهوى، يرى وترى الجمال والقبح، يسمع ويستمع ما ينطق عقلي عبره، فيكتب، وكأن به يمتلك الأذن وعين العقل والبصر، يدنو ببطء ويكتشف حلو الحياة ومرّ من ظلموا، يتابع من هاموا، كعشاق تناولوا الحبَّ، وبه انشغلوا، يكتب أسرار من علموا، يخفيها ليعلم من فاقوا كذب من كذبوا، وأنملاتي صاغت نبض قلبي، وما سال لولا أن امتلك عينه تأملاً وتفكراً، بينما أنجز معه لغة اقرأ لتجد من خلاله ارتقاءً أو انكساراً، بقاءً أو انتفاءً.
يا نون قلمي، سطّري ما لا يسطرون كلمةً تكتبها، تظهر فيَّ أو تختفي، تبهرني أو تكبلني، تسعفني أو تنهيني، تأخذ بي إلى العلا، أو ترميني، تمزج بين أخيلتي، تستحضر كلَّ ما مرَّ بي من ذكريات، تصور التاريخ أمامي، تدوّنه، ترفض السقوط في منطق التسجيل السافر، تتحرر من إسار الزمن الخطي، ترفض إظهاري رخيصاً على سطور يقرؤها الآخرون، تتابع أحداث الحاضر، تستقرئ المستقبل معي، تنجز تساؤلات عن مصير الهوية والصراع المحزن مع الواقع إليك، تعزز الماضي، تحاور الذاكرة، تتابع النمو للأحداث، تيئس، تفكك من دون أن يستطيع أحد الوصول لشظاياكِ المتناثرة، لكنهم قادرون بسرعة من الوصول إليَّ، لكوني أنا الهدف، وأنتِ الوسيلة.
مهما ابتعدت عنك، فأنت معي، تجاور قلبي هنا على صدري، أطير.. أسير.. أبحر، أُشرّقُ أُغربُ، همومي معي أنت سريرها، فقير أنا من دونك، وغنيٌّ جداً معك، نملأ معاً دنيانا، نغنيها أفكاراً وأحلاماً وعمراناً، رغم أننا معاً، نمتلك في حبرنا العميق حياتنا هموماً كبيرة، نمضي عمرنا، كي نكون أحباراً، هل تذكرنا أيامنا ومحيطنا، أم إننا بعد رحيلنا  نغدو أثراً خبراً، أو لا نصير لتذرونا الرياح، لا ذاكرة حين تغادر الروح مني، إلا إذا دونت عني بعد انتقائي، تكتب كلمة بقائي، أغدو بها هويةً، وأصير مستمراً من جديد، تؤسس لي المصير، تصبح مصدراً للسجال بين الغني والفقير، بين العبد والأمير، بين العالم والجاهل، بين الكبير والصغير، بعد أن أتحول إلى حامل، أكون أنا الوالد، ما أن أحركك على سطور، حتى تنجب من اتحادنا رسماً وفناً ورؤى، وفكراً صعباً أو سهلاً، فيه استنارة أو تخريب وتدمير، تخطّ للحرب حضوراً، وتنهيها ما دمت أنك سالم، وأنا سليم.
قلمي يحادثني، إن لم تقرأ الحاضر والمستقبل، فلا تكتب، وإذا فعلت فاكتب بأن جميع الأمم فتحت تاريخها، ودعت الكلّ للقيام بعملية النقد للواقع والتشريح، لا لتجريح إلا أمتنا العربية. كلّ الأمم رفعت التابو عن تراثها، ناقشت المقدّس المباح والمحرّم، إلا أمتنا العربية. كلّ الأمم تشتغل من أجل المستقبل، تمحو مساوئ ماضيها، إلا أمتنا العربية، متعلقة به، فحتى اللحظة لا ترى مستقبلها، إلا في إعادة ماضيها لحاضرها. كلّ الأمم عشقت علم الجمال وأبوابه السبعة، ولبست ثوب ثقافتها إلا أمتنا العربية. كلّ الأمم أعطت للمرأة الحرية واستقلالها المادي، يكمن فيه حريتها إلا عالمنا العربي. قلمي يكتب عن أمة تحرم الصورة، وتؤمن بقراءة الفنجان، تساوي الله مع الشيطان، وتخاف من الاثنين, تؤسس لثقافة النواح، وتعزز من أمية فهم العلم والدين والأديان. قلمي يكتب أن العقل الحرَّ هو الذي يميل للجلوس مع المختلفين، يتحدث عن عقلية العبودية التي تؤمن بالجلوس مع العقول المتطابقة، يتمسك بها قلمي، يكتب أشياء للدنيا، يكتب في عمق الأرض الأنثى، يكتب إنساناً يظهر من رحم، يكتب لا أدري نتائجه، يأخذ بي إلى الأعلى، إلى الأدنى، إلى الوراء، إلى الأمام، فأنا مسؤول في عقلي عن كلمة، قبل أن تنساب على الورق، أو بين الإنسان أو حتى في الرحم، وبعدها الكل ينتظر، ينظر، يتابع ماذا يجري، وهي تجري، تتدحرج، تنمو، تكبر بين الأفراح، بين الأحزان، تبني، تهدم، قلمي يتبرأ مني، أو يفتخر بي، فهو الأقوى وهو وسيلتي، هو يبقى، تملؤه لحظة أن ينفد حبره، أنا أرحل.
قلمي يحيي ويميت، إعداماً أو إفراجاً،  يجسد رصاصةً تقتل، لا تقتل، يسعى لإصلاح الخطأ، يبني الحياة، يكتب رسالة، يشتغل بين يدي السياسي والكاهن، والشيخ والأديب ينتظر في جيب الخبير اللطيف، والعنيف الخفيف، والقائد والأمين، يكتب في الأخضر والأسود والأحمر، لكن أهم ما يكتبه حين يمتلئ بالحبر الأبيض، يكتب إنساناً يخلقه من قطرة في برهة حبّ أو نزوة، يظهر منه إنسان الخير أو الشرّ، يربي، يصيب هدفه من دون أن يدميه، يستفيد من لا مبالاة الناس، يناشدهم أن يبالوا يوجّههم، كي يسألوا، يخرج من جوهره مكنونه، يكتب وجع القلب، وتشوّقه لحياة كريمة، لا كراهية فيها ولا دور، يتلاعب فيها، كلمات قلمي تنهمر على السطور، كما الدموع المتساقطة لحظة أن تنحني الرؤوس إذلالاً، فلا ينبغي أن ترفع الأقلام، ولا أن تجفّ الصحف، كما أنه من الضروري رفع الرؤوس، كي لا تنهمر الدموع، بل لتبقى في العيون، تمنحها بريق الحياة، والأمل كلماته بسيطة غير معقدة، ورسائله قصيرة، فما يحتاجه الإنسان كلمات تنساب منه مفهومة ودقيقة، ينجز من خلالها الكثير، قلمي يكتب حينما تريدون التطور أو الوصول للأفضل، أو الانتقال من حال إلى حال، عليكم بالتفكير ملياً وجدياً، وأن تعلموا بقوة من أجل الخلاص من العادات والتقاليد والشهوات الدنيئة، التي تسيطر على حركتكم ولغتكم، وعلى طاعتكم العمياء التي سببت لكم العماء، فكّروا أن الإنسان، لا يمكن أن يحيا من دون أخيه الإنسان، ومن دون قلم، تفكّروا بالحبّ الذي ينبذ الخلاف والانقسام، الحبّ الذي يوحد الناس، ويوحد الإنسان مع المكون الكلي.
د. نبيل طعمة