النشوة المفقودة

النشوة المفقودة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٨ أغسطس ٢٠١٨

عندنا نحن العرب في زمننا الحاضر، السبب أننا مازلنا نحيا أساطير الأولين وتائهين بين الحلال والحرام، بين الأخذ بالعلم والتعلق بالدين والعفة التي كانت تخشاها العذارى، اللائي لم يكن يعني لهن فقدان بكارتهن، بقدر ما يخفن أن يقال عنهن إنهن عقيمات، ومن ثمَّ فإن فهم بناء العلاقات يحضر من فلسفة الأخلاق التي لا تكون إلا من خلال تأمين العدالة الاجتماعية، ولو بالحدّ الأدنى، فحيث ترتفع تكاليف الحياة نجد تطوراً للتشدّد والعنف، وتتحول المجتمعات إلى الخطورة على بعضها، ومهما بادرت الأديان حينها لا يمكن أن تسعفها، لأنه وعبر كامل الحقب، وجدنا أن الدين ليس أساس الأخلاق، لكنه عون لها، من باب أن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يسهم في الحفاظ على القيم أكثر من أن يخلق قيماً جديدة، فاستثناء ما وجدت عليه الدنيا والاكتفاء فقط بالدين ومصادره الخوف والتسليم والدهشة وأحلام الآخرة والنفس والمعبود وعدم الاتجاه إلى التأمل والتفكر والإبداع والبناء والحب، يعطي الحياة توازناتها التي وجدت عليها.

وإذا عدنا إلى الإنسان القديم الذي آمن بأنَّ قوة ما يأكل تنتقل إليه، فكان منه أن صنع الآلهة، ومن ثم أكلها، لاعتقاده أنها تمنحه القوة التي يحتاجها، والطبع البشري يمضي باحثاً عن القوة التي من خلالها يحقق النشوة العلمية الإبداعية أو الجنسية أو السياسية، وكذلك الاجتماعية والاقتصادية، فهل يكون الخبز وحده كافياً كي يحيا؟ فهو المدرك أن ليس بالخبز فقط يمكنه الوصول إليها، إنما يعيش كفافاً، ووحده لا يكفي، على الرغم من أنه يشكل إيلاجاً فموياً لإحداث النشوة، والمقدس قال: يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، أي إن تبادل الإيلاج وحده ما يحدث النشوة لكلا الطرفين.

هل صممنا نحن العرب على الاكتفاء بالخبز المصنوع لنا مثل العجلة مدوراً، ما إن يدر حتى تلهث خلفه الناس سعياً لتأمينه، وصولاً إلى النهاية التي تجسّد اعتراف الروح أمام الإله بعد الموت بصدقها أو كذبها.

ما معنى نشوة الألم وهل للحياة معنى من دونها؟

الحياة عبارة عن توازن مثالي بين الفعل والوجود، هذا الذي يتجلى من خلال إنجاز الأشياء وتحويلها إلى معارف علوم منتجات، التي تظهر علاقة البشر كاتحاد وثيق مع الكون الذي يتواصل مع الروح المانحة للقدرة على إكمال المهام التي تجعلنا حاضرين وفاعلين في حياتنا المرتبطة بالآخر، فإذا حدث هذا التوازن تحققت النشوة، وظهرت عناصر الجمال في مفردات البناء.

في زمننا الغارب امتلكنا النشوة التي لم تصل إليها ليليث مع آدم الأول، وهي التي اكتشفت ذكورته، واستعبدته بطلباتها، وصارحته بأنه لم يوصلها إلى نشوتها في مسيرة عمره، على الرغم من إنجابها منه حواء التي حقق معها أسطورة النشوة رغم تأخره، ووصلنا إلى هذه الحياة بفضل (الكنع) الكنعانيين والتي تعني الصباغ الأرجواني المستخرج من صدف الموركس، وعرف الكنع سكان ساحل سورية الشمالي باسم الفينيقيين أو (فونويكي) وهو اللون الأرجواني، وهؤلاء وصلوا إلى أمريكا 1200 قبل الميلاد، وتبادلوا معها التجارة، وآثارهم هناك، حتى اللحظة وقبل ادعاء كريستوف كولومبوس اكتشافها، والكنعانيون مع الأموريين والسومريين سبقوا الفراعنة في خلق أول حضارة مزدهرة في الدورة الحياتية المعيشة، وكل دورة حياتية تقدر إما بسبعة آلاف سنة حسب التكوين، أو تسعة آلاف سنة، وتعني الولادة، وأسسوا قواعد المثل والأخلاق والدين والتراتيل الدينية والمزامير والأساطير والقصص والملاحم، وكانوا بارعين في السياسة والحروب، ووضعوا قواعد علم الاجتماع والفلسفة والقوانين والتشريع، ونظموا سبل الإصلاح الاجتماعي، وانتخبوا أول برلمان وأول كتابة وأول مدرسة، ونادوا بالحرية، وعزفوا أول أنشودة حبٍّ على قيثارتهم.

طبعاً هذا مضى مع ذاك البعيد، ونحن مازلنا متعلقين فقط باستعراضه والتغني فيه، لم ننتبه لحاضرنا، وما نحن عليه لم نحمله كتمثال كي يكون ملهماً لنا في صناعة الأفضل منه، ومن ثم لم نقم بإجراء مقارنة بين ما أنجزناه وما كان في ذاك الزمن من حبٍّ وعشق لكل شيء للحياة والإنجاز فيها، وهذا بحد ذاته مدعاة للتفكير في أن الإقدام الذي تردد بالقيام به يكمن في سرّ الدفاع عن حياتنا ووجودنا، ودفاعنا يكون بالتخطيط العلمي المنطقي لما نريد الإقدام عليه.

مادام الحب مفقوداً فهذا يعني لنا أن النشوة غير متوافرة، وأن جميع أنواع الأداء تظهر لنا الحالات الوظيفية المفرطة في كل المناحي العلمية والاجتماعية ومنظومة الجمال وفنونه السبعة التي من خلالها تظهر لنا معاني النشوة، وتشير إلى المجتمعات بأنها إبداعية متألقة شفافة رقيقة مؤمنة واثقة بذاتها وبأوطانها، بإنسانها وشجرها وحجرها.

إذاً: كيف نحقق النشوة أو نجيد العمل وصولاً إليها؟ هل ببقائنا وقوفاً على الأطلال؟ ننظر إلى الماضي الذي يسكننا، والذي لم نقدر على التخلص حتى اللحظة من بعض منه ومن انعكاساته على بنيتنا البيولوجية والفيزيولوجية وفكرنا البشري اللاإنساني. تفكروا معي في مهنة الدعارة، الداعرة تصنّف زبائنها بين رجل تعشقه، تمنحه حبها ونشوتها، تهبه كل ما تملك، ورجل يبتزّها بتقديمه الحماية لها، ورجل يدفع لها مقابل أن تحقق له اللذة غايته الوحيدة إفراغ شهوته، تتحمل كل تلك الآلام من أجل معيشها.

النشوة التي تنشدها النساء وتطالب الذكورة بإيصالها إليها ممهورة بآلام ممتعة، لا تحدث إلا بعد دمج السادية بالمازوشية، وبناء هالة تفريغ المكان وتوقف حركة الزمان التي تبيح ظهور العهر الجمالي بشتى أشكاله، والغاية إحداث الألم الجميل، يتساوى هذا الفعل مع فعل كسر الهزيمة وتحقيق الانتصار الذي ينهي التعب، ويتجاوز الألم، ويترفع عن الجراح، لأن النصر يحتاج إلى الفعل الدقيق والإحساس الرقيق المرهف والثبات، ومن ثمَّ التقدم الدقيق ينشئ في الذاكرة حفرة، يصنعها العقل بجنان يخشى عليها من ألا تتكرر، هي هكذا النشوة لم يصل إليها سيزيف، الذي استمرّ في حمل الصخرة من أجل تعليم المحاولة، وهكذا هي الذكورة التي تفشل أمام أنثاها من دون أن تدري، فتستعبدها دافعة بها إلى الخيانة والتبعية والخطيئة بكامل أبعادها.

أكاد أجزم أن أي تقدم لا يحدث إلا إذا امتلكنا مبادئ وإرهاصات الوصول لتحقيق النشوة هذه التي تبدأ مع الأنثى، والتي لا تريد أن تتماثل مع ليليث، ولا أن تكون في صورة داعرة؛ بل إنها مستعدة لتقديم كل ما تملك من فنون الحب، وأن تصل قمة العهر شرط تحقيق رعشتها، ومعها يخرج ذكرها منتشياً، يقبل على الحياة بالحب، محصناً بالقوة، حيث يغدو قادراً على تجاوز الانكسار الذي يعلن الانتصار بعد الوصول إلى الأهداف المرتجى إنجازها، وعلى كامل محاور الحياة، لأن أي وصول نوعي إيجابي يعني أن النشوة حصلت، وهي التي تمنح الآخرين حق الطموح وتحويل الأحلام إلى واقع.

فقدنا ما فقدنا من واقعنا نتاج تمسكنا بالماضي، وإهمالنا للتقدم في عناصر الجمال وبناء العلاقات الاجتماعية ومكونها الرئيس الأسرة الجيدة التي لا تحضر إلا من نشوة علاقتها النوعية، فإذا حدث وانتبهنا، فإن الفرصة جدُّ مواتية لفتح بناء الإنسان المكون الأساس للحياة، ويتم ذلك بأن نفتح أبواب النشوة، كي تغدو مفاهيمها معلومة.

د. نبيل طعمة