انتصار الدولة

انتصار الدولة

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٣ فبراير ٢٠١٦

ثباتها حنكة حكمة تصرفها رغم ارتفاع مستوى العنف إلى درجات مذهلة، ووقوع ضحايا بأرقام مرعبة بين شهداء وجرحى وقتلى، وحدوث دمار قدم صوراً عن كوارث لا تشبهها كوارث، إلا أنَّ النتائج في مجموعها وعبر خمس سنوات، كشفت عن كامل الادعاءات، بأن هناك ثورة تقودها معارضة، سقطت الثورة، لأنها لم تمتلك أدبية واحدة من أدبيات الثورة، وسقطت المعارضة أيضاً والسبب عدم امتلاكها أي مفردة وطنية من أسس الوطنية والانتماء، والسبب أنهم أرادوا أن يسقطوا الدولة والنظام، وكانت شعاراتهم المبرمجة تدور حول ذلك واستغلال الشعب الطيب والبسيط، وصحيح أنه كان هناك قوة أحدثتها تلك القنبلة الديمغرافية، وأدى انفجارها إلى حالات خلخلت الواقع السوري الذي كان منتظماً إلى حد كبير، وجرى ضمنه انقسام وانشقاق حول فرضيتي المؤامرة والثورة، واندماج الكلمتين تحت غطاء الهدف الخليجي التركي أداتي مشروع الربيع العربي، وجوهره إسقاط الدولة العربية القومية ومركزها دمشق، وإن لعبة الدومينو التي بدأت من بغداد 2003 وتقسيم السودان 2010 إلى تونس ومصر وليبيا واليمن، كل ذلك تمَّ مرحلياً لمصلحة الدولة الدينية، وصراعها بين الوهابية والإخوانية السياسية؛ أي بين الخليج بزعامة السعودية وتركيا العثمانيين الجدد، وتراوحت رياح التغيير بين نجاح وفشل ذريع لمنظومة تلك الدول الذي مرَّ عليها، حيث لم يفلح بها، بعد أن أسقط من أسقط، وقتل وأعدم زعماء وقيادات، فالذي نشهده فيها اليوم بقاء الدولة وانتصار مناهجها، أي إنه لم يحقق فيها إلا الدمار والخراب ونجاح أفكار الدولة العربية القومية وعودتها لقيادة دولها بقوة وإرادة شعوبها، والفضل في كل هذا لمن؟، لثبات سورية ونجاح إداراتها وقياداتها السياسية، على الرغم من الصعوبات الجمة التي عصفت بها وباقتصادها.
نعم هزم المشروع الإخواني في مصر وتونس، وتشرذمت ليبيا، والحرب في اليمن أظهرت العجز الخليجي بكامل قواه، وظهرت داعش في سورية والعراق، وتمددت في العالم أجمع، إلا أنها آيلة إلى زوال، وجميع هذه الدول تستعيد حضور دولتها العربية التي استقلت عليها، وأسست لقيامتها رغم هدم الكثير من جسور العودة إلى ما كان سائداً قبل الأزمة الكبرى، وما أطلق عليها، ما احتاج إلى التدخلات الخارجية الحاملة لأجنداتها وفرضها على الجميع، وبشكل خاص على من سمّوا أنفسهم معارضات مسلحة وغيرها، وأظهروها بصيغ إسلامية، والتي سرعان ما ركبتها القاعدة وفروعها النصرة، والمستحدث منها داعش، ودخل إلى مركزها الإخوان، وتعلق عليها الحالمون بالعودة على دبابات الغرب وركوب طائراته.
الدولة السورية تنتصر لمصلحتها أولاً، وتصنعه بذاتها رغم وجود دعم الأصدقاء وأهميته، وهذا ما تقوم به من حيث إنه همها الأول، وفي انتصارها مصلحة كبرى للعرب المنكسرين الذين انهاروا مع بداية رياح التغيير، حيث تعود لتمنحهم قيمة وقوة الانتصار بثباتها وأملاً هائلاً بأنَّ قلب العروبة النابض يعيد لهم الوهج والبريق، على الرغم مما يمر بهم من آلام مركبة ومزعجة، تجتاحهم لكون الجميع دخل مرحلة الاستعصاء والانحصار في عنق الزجاجة، فليس الذي وقع في أتون حروب الربيع الدموي قادراً بمفرده على الخروج منه، ولا الذي جيش وحفز ودعم وتورط بقادر أيضاً على الخروج مما انخرط فيه، والحل يكمن في مراجعة الذات العربية، وفرد العقلية القيادية لهذه الأمة المجزأة بدولها وخوض مصارحات مهمة حول مصير شعوبها، وما آلت إليه، لأن شعور العربي السائد الآن من محيطه إلى خليجه، بأنَّ قياداته إما تابعة مباشرة، وإما مقادة بشكل أو بآخر، حيث من مصلحته استمرار عملية الاستنزاف لكامل القوى والوسائط البشرية والاقتصادية وحتى السياسية.
لا شك أن ما حدث ويحدث منذ عام 2010 تحت شعار التغيير، كشف الكثير عن هشاشة البناء العربي، وأن له أهمية رغم المخاطر الجمى التي سادته وانتهاز البعض، وكما أسلفت لحالات الفوضى العارمة التي سادته واختلاف الآراء حول حضوره، أنجب رؤى جديدة على جميعنا الاستفادة منها، من حيث إنها يفترض أن تطوى صفحات الماضي، ليس في السنوات الخمس الأخيرة، وإنما الماضي الحداثوي برمته، باعتباره مخاضاً مركباً، ومن الصعب الخروج منه، ينبغي أن نكون بفضل الدولة السورية وثباتها وبقاء قيادتها متماسكة، بفضل رئيس استثنائي، راهن الكثير عليه، إلا أن سواد القيادات العربية ذهب، واستمر كأقوى وأفضل رئيس لاعب في المنطقة، ومدير يديرها بخبرة عالية وحنكة دولية، فاق فيها الكثير من القيادات العالمية.
العالم برمته يجمع على ضبط قوميته وحركته من خلال حركة الدولة السورية التي قدمت الابتكار العملياتي لقيادات الدول والأمم، وفندت الفكر الإشكالي الذي يتمتعون به، كما أنها فرطت عقد اللغة السياسية التي راوحت في مكانها لعقود من الزمن، فالدولة السورية كانت محور صراعات الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ هذا المحور الذي شكل لهم إحدى أهم القضايا المؤرقة، ليس لعقود من الزمن، وإنما لقرون، حيث كان العامل الرئيس لكثير من الصراعات بكل أشكالها، وأيضاً كان عرضة للمؤامرات والتحالفات ضده، ومن ثمَّ مع العالم العربي ودوله التي تناقضت فيها مفاهيم الهوية العربية القديمة مع الهوية العربية الحداثوية، والتي لم تستطع حتى اللحظة استنباط الحضور النهائي لها، ولذلك نجدها تضطرب بين الحين والآخر، تصارع ذاتها، لا تدري هل تقودها ثورة، أم انفعال يهدم السدود والحدود، وينشئ الصدود، فلا إيمان بالحوار، بل لغة الأنا والضحية الدائمة هي الشعوب.
الدولة السورية ليس أمامها إلا الانتصار، وتاريخ الشخصية خاصتها، لم يسجل أي حالة انهزام أو خروج تحت الضغط أو الانكسار، هذا هو الإيهاب السوري الذي يعلم العالم بأسره قيمة وقوة هذه الشخصية التي تثبت، ومن ثم تتقدم وتشمخ، فإيمانها بالحياة لا يضاهيه إيمان، لذلك نجدها تمتلك هذه الصفات التي قل وندر أن نجدها عند الآخر، ومنه نجد أن صبرنا وأناتنا وتحملنا للآلام والصعاب والخسائر بأنواعها، منحنا قوة الحضور وتعليم الآخرين نظم البناء الاستراتيجي، حتى وإن حدثت هنا أو هناك أخطاء تكتيكية، إلا أنَّ الهدف النهائي هو الأسمى.
د.نبيل طعمة