الكـــم والكيـــــف

الكـــم والكيـــــف

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٤ أكتوبر ٢٠١٥

ضمن أي مجتمع هناك كم وكيف، حتى في الإنسان الذي قام وجوده على التناقض، تسكنه أفكار يتصارع بها ومعها، منه يأخذنا العنوان الذي نخصصه لحال أمتنا العربية، وما آلت إليه بسبب العجز عن تحقيق حتى ولو إبداعاً صغيراً نتاج قبولها الاستسلام للسكون، وعدم قدرتها على الحركة لقرون عديدة، وتعلقها المفرط في النواظم الدينية من دون وعي، وإيمانها بأن الإسلام تسليم كليٌّ للغيبي، وعدم أخذها بذمام التغيير الفكري، الذي يبدأ من واقع الفرد وحال الأسرة المكونين الرئيسين لظهور مجتمعات منطقية علمية وعاقلة، وبها ترسم مكونات أمة أو دولة، بعد أن تكون قد حركت الجمود السياسي، وآمنت بإلغاء التوجهات الاقتصادية الضارة، وامتلكت نواصي المعرفة بأسباب وصول المجتمعات العربية الإسلامية إلى قاع التخلف، والملاحظ أن مجتمعاتنا اقتنعت على ما يبدو، بأنَّ هناك صراعاً قائماً بينها وبين العلم، بينها وبين عالم الشمال والغرب منه بشكل خاص، وفي حقيقة أمرها، إن الصراع قائم بينها وبين وجودها، مسكون في ذاتها بين مفردتي أريد أولا أريد، بين الانتقال إلى فهم الكيف والعمل عليه، والاستسلام للكم القائم على نظرية التكاثر، والاعتقاد بأن به يكون التباهي بين الأمم، أمة تخاف الله، ولا تعمل على محبته، تخيف بعضها، ولا تحب حضورها، فالحب قوة التطور، والتقدم حب كل شيء، بدءاً من محبة الله، وصولاً لمحبة الناس، وهو المولد الأساس للإبداع، أمة تؤمن بتكفير بعضها، ولا تؤمن بالتفكير المطور لها، هي أمة الكم.
هل امتلكنا نحن العرب مبادئ الاستدلال؟ وهل استفدنا حقيقة من تجارب الآخرين وعلوم المشاهدة التي من المفترض أن تحدث  التأمل البصري بالموجود، حيث يؤدي إلى الإبداع، هل اقتنعنا بأن السببية والنسبية، تتعلقان بالسبب والمسبب، والتأثر والتأثير بينهما، وبهما يولد شيء جديد، وأيضاً إن المعرفة والفهم والعلم لولا خضوعها لنظرية السبب، فما كان لها وجود، وبالتالي علينا إخضاع الدين لنظرية الاستدلال الاجتماعي أولاً، لا إلى فرضية الاستسلام بغاية تحقيق معادلة التطور التي يريدها مفهوم وجود الكلي وقدرته في أنه المركز، والعلم يدرس الآن وجوده الذري وقدرته الانشطارية، والتي بها يعمل المحرك الإنساني، بعد أن فهم قيمة الذرة، وقوة ما تنتجه في تكوينه؛ أي فهم حركة الكون بما فيها الإنسان من جوهره، لا في شكله ومظهره، وعدم الاقتناع بلغة المستحيل القائلة بما لا يمكن إثباته، وفي الوقت ذاته يستحيل نفيه، وكذلك القول إن الدين؛ أي دين الإسلام وغيره، غير قابل للخطأ، ومن هنا ظهر التعارض بينه وبين العلم القائم على التجريب والشك، فكان البحث ومازال مستمراً من أجل الإيمان الحقيقي بالنتائج المحسوسة والمشاهدة؛ أي وضعها في الاستثمار، أوَلم تقم الأديان أولاً عن طريق التكاثر الذي أدى إلى انتشارها والسبب النخبوية التي أطلقتها، فكانت الكيف، وعادت بعد انتشارها لضبطها، من باب أنها تحتاج إلى الضبط ، وإلا فالانفلات والضياع.
هل يمكن لنا أن نعود ونفتح بوابة النقاش حول تحديد أسباب وجود الأديان كحقائق أتت من تفاعلات علمية اختصت بالجوهر الإنساني وضرورات شكمه بغاية عدم انفلاته وقمع وحشيته وحيوانيته المكبوتة فيه، ومن ثم انفصلت عنه في المجتمعات الإسلامية على شكل الخصوص، وأخذت بمحاربته؛ أي العلم، وأقنعت ذاتها بأن كل شيء يأتي لاحقاً؛ أي في العالم الآخر، أو ما يطلق عليه البرزخ النهائي، أولم يؤدِ هذا الصراع بين الجوهر والمظهر في عالمنا الإسلامي إلى احتلالات فكرية أولاً، أنجبت التخلف الكمي المسؤول عن انهيار شخصية معتنقي الدين. وثانياً احتلال الجغرافيا العربية والإسلامية المستمر منذ انهيار دولته الكبرى التي انتشرت بحكم شموليته، ومنطق التاريخ الذي لا يؤمن بها، فعاد إلى التشرذم والصراع بين وجوده ومع الآخر، وفي الوقت ذاته تمسكه بالعقيدة الدينية، وعدم محاولته البحث أو قبول البحث العلمي والتجريبي عن الخلق والخالق، لذلك وجدناه؛ أي الإنسان المسلم، والعربي المسلم منه بشكل خاص، قبل الاحتلالات الفكرية، قبل أن يحتل من الآخر، بشكل أو بآخر، تكريس التخلف والجهل، وترهيب الكم يأتي عليهم من خطابة الكم، لا من خطابة الكيف، فكيف بنا نعالج العلاقة بينهما، والسؤال الخطر يسعى لتعزيزهما؛ أي الخطيب والمخطوب فيه، واللذين وحتى اللحظة لم يستطيعا أن يربطا بين مغزى وجود الإله ووجود الحياة بين وجود الكون، ووجود الإنسان الضروري فيه، وأن معنى الكون في ظواهره، وأن الحياة هي الكون، وأن إرادة الخير والشر مسكونتان فيه، ومرتبطتان بمعنى وجوده، وأن معنى وجود الإله يعني معنى وجود الكيف، ووجود الأب ووجود القائد، والعالم والمخترع والناسك والعابد؛ أي وجود معنى للحياة المتكونة من الإنسان والكون المسؤولين الرئيسين عن المدنية، عن التحضر، عن الوصول إلى إبداع حضاري، يطور الكم، لا ينشره، بل يسعى لنقله إلى الكيف، وأضيف: إن مسؤولية الكيف كبيرة في عملية تطوير الكم، إلا إذا كان الكل كماً.
إن أمة الكم هي الأمة العربية الإسلامية، التي لم تسعَ إلى الدخول إلى عوالم البحث الفلسفي والعلمي والاجتماعي والأدبي، فبقيت ناقلة ناقدة  معترضة على كل شيء، إلا على نفسها، ولم تستطع أن تقدم أي فكرة جدية خارج إطار الجنة والنار، والأحاديث والسنن، وعذابات القبور، بينما الآخر يقدم كل يوم جديداً، وها هو رأس الكنيسة العالمية يتحدث بقوة، أن لا جحيم في النهاية، لنجد أن هذه الأمة لم تستطع أن تنجب مجمعاً دينياً واحداً يضمها، ورأساً يقودها، تنضوي تحته أطيافها، ولم تستطع حتى اللحظة، أن تسيطر على نفسها، لنراها في حالات تضخم دائم لأناها، حتى ألقت بها في مجاهل التخلف والتبعية والانسياق وراء معتقداتها الدينية إلى درجة الاستسلام، فنرى بين الفينة والأخرى ما يجري لها وهي راضية.
د. نبيل طعمة