الأيادي التي في النّار

الأيادي التي في النّار

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ١٩ أغسطس ٢٠١٥

ليست كتلك التي يدغدغها الماء، نحن من يكتوي ونتحرّق ونحترق، نحن الذين امتلأت قلوبهم بالأحزان، وعيونهم بالدموع الخفية والظاهرة، الباردة والحارة، نتجه إلى جميعنا، نسأل تكويننا الذي نسجنا منه، كم بقي من الأبواب، النوافذ، الشوارع، الأرياف والمدن؟ بشكل أدق الوطن برمته، وما يحتويه من حياة تشهد، ووطن يشهد حجماً مذهلاً من المعاناة، يجتمع عليه القاصي والداني، يتشابه في التفاعل مع محنته الصديق مع العدو، فكلاهما يجلس على المدرجات، يراقب اللعبة، يتحكم من خلال أجهزة تحكم عن بعد باللاعبين على الأرض، كرّ وفرّ، تقدّم هنا، وتراجع هناك، مصالحات غير ناجحة في حقيقة أمرها، هدنة بين المتقاتلين، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الخير والخير، وبين الشر والشر، الكلُّ متأزم ومأزوم ومرتبك وقلق، تشرّد تشرذم، لجوء إلى المخيمات القريبة والبعيدة، هجرات عبر كل الوسائل، يتنوع الموت بين البحر والبر، يتطور الجهل ضد وطن، يدفع الآباء بأبنائهم إلى المجهول، من خلال استشعارهم لمجريات الأحداث، فقاعدة الحروب تتحدث أن الأبناء في السلم، يدفنون الآباء، أما في الحرب، فالآباء يدفنون الأبناء تحت ضغط هول المأساة التي لا تعرف الرحمة أو الشفقة متمسكين بنظرية الدفاع الوطني.
أستشرف الواقع وما تسمعه الجدران من أحاديث تجري خلفها، وروايات المكاتب والكراسي والحافلات والأرصفة، وما تسجله، والتي تغرق بين مسؤول وموظف وعامل، حتى إن أسِرَّة الأزواج بدأت تتحدث عن هول الأزمة، ما دعاني كي أدفع بما يجول في خواطركم، أينما كنتم، وحيثما بقيتم، أو ارتحلتم، لأنه يجول في خاطري بذات عينه، من مبدأ أنَّ الهمَّ واحدٌ، وآلام الفكر واحدة، والوطن واحد، وما يجري عليه يصيب كلّ واحد منا، فالحديث بهمس، أو ضمن أسرارنا، تنشره الرياح الفكرية، فيظهر جميعنا، يفكر كما يفكر الجميع بالخلاص، يبحث هائماً، ليلتقي الجميع في الهيام بحثاً عن وجودنا، وهنا أخاطب الأصدقاء قبل الأعداء، إلى أين تدفعون بنا؟ فنحن من يتشرد، ومن يستشهد، ومن يُجرح، نحن في النتيجة من يحفر القبور، ويردمها، نحن من دفع ويدفع الثمن، ليس القليل، إنما الغالي والنفيس، نحن من تسيل دماؤه إلى جانب دموعه بحرقة،  وإن تكاذبنا لحظة أن نحاول رسم البسمات البسيطة على وجوه بعضنا إلا أن الجوهر حزين، لم يعد للضحكات آهات الفرح، إنما نستشعرها خِفية، نحللها، نرى كمية الآلام المسكونة في جوهرنا، أيها الأصدقاء الذين أناشدكم، أسألكم عن الحلِّ أو الحلول، وأقول إلى متى؟ وإلى الأعداء الذين كانوا بالأمس إخوة وأصدقاء، أقول: كفى، وإلى الأعداء الحقيقيين المشغّلين الرئيسين القابعين خلف أولئك المندفعين للقتال، أقول: إننا شعب لا ينسى، وإنّ لكل زمان دولة ورجالاً، فجنيننا القادم قبل وليدنا، يحملان ذاكرة من أساء إلى هذا الوطن، ولأبنائه، وإن كان هناك من ضريبة، كان علينا أن ندفعها، فلقد دفعنا الضريبة مئات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الجرحى، وملايين من النازحين والمشردين والهاربين، وغدا لدينا ملايين من الفقراء، غزانا الجهل والتخلف من جديد، انظروا وتفكّروا، كم نحتاج لإعادة بناء الإنسان، ملايين من أنواع الحيوان فقدناها، ملايين الأطنان من الحبوب والأقماح سرقت، أو أبدناها، ملايين الأشجار حرقت، أو قطعت، أو حرقناها، آلاف المعامل دمرت، أو دمرناها، مخالفات مرعبة تحتاج إلى مصارحات، نجريها أمام بعضنا، كي نتخلص من مشروع ركب علينا، اسمه مشروع التكاذب، كان له غاية واحدة، تكمن في إنشاء الفواصل والنقاط، ضمن الجسد الكبير، فنجحوا إلى حدٍّ رهيب، نتاج تقبلنا لمجرياته، انتهى وقت لو، وكان بالإمكان، ورمي اللوم بين هذا أو ذاك، لذلك أجد الاعتراف بأنّ أيادي الجميع في النار، وإن كان هناك من أصدقاء حقيقيين، أطالبهم بالوقوف الحقيقي معنا، وبأن يكفوا أذى الغير عنا بجرأة وصراحة، لا أن تكون مصالحهم التي نقدر حقهم في استثمارها، إلا أنَّ عليهم أن يعلموا، أننا لسنا ساحة للتجارب، كما أنَّ نقل حروبهم الداخلية والخارجية إلى ساحاتنا، تتضمن ألاعيب خطرة، فالعدو معرَّف، وممتلئ بالعداوة، ظاهراً وباطناً، وقد خضنا الكثير من المعارك والتجارب، ونقول للجميع: كفى، حتى لنا، نحن السوريين، ينبغي أن نقول لبعضنا: كفى، للآخر دعنا وشأننا، فإما أن تكون جهاراً نهاراً صاحب وقفة حقيقية معنا، وإما فلتبتعد عنا.
أيها السوريون، هل تحولنا إلى مصاصي دماء، أو قاتلين مأجورين، عن أيِّ انتماء نبحث, وانتماؤنا المسكون في أعماقنا موجود؟ إلى أين ذاهبون أوَلمْ يكفِ كلّ هذا؟! ألا ينبغي أن نقول بقوة كفى، وأن نستعجل الاستفاقة سريعاً، ونتأملها بواقعية  بصيرتنا، لا ببصرنا فقط كي ندرك حجم الكارثة التي حلت بنا، وحجم مصالح الآخر، مهما كان قريباً أو بعيداً، استمرار اللعبة واستثمار مصالحه، ما أثار فكري، ودعاني لأن أخرج صورة منه، وقوف شقيق كان معنا بالأمس، أخرج عداوته المطلقة أمام صديق اليوم على منبر واحد، ويخرج الطرفان؛ الأول مصرٌّ على الاستمرار في العداوة، والثاني يتحدث عن وجود نقاط اختلاف حول الأزمة السورية. مبعوثون أمميون ومحافل دولية، وفود مغادرة وقادمة، ملأنا الأرض بمجريات ما يحدث بيننا، أربع سنوات ونصف السنة، وأيادي جميعنا تحترق، كيف بنا ننظر إلى الأنامل، تلتهمها النيران، أشعلها الغريب عنا، وصباح مساء يزيد في تأجيجها، ولا نطفئها؟ هل من شجاعة صادقة، أو جرأة نادرة، أو صرخة تملأ مسامع جميعنا، تُحدث التقاء واقعياً، تلغي الحواجز، تخرج المختبئين تحت الأرض، وخلف الأنقاض بالظهور، وبناء ثقة جديدة على أسس من الحوار، وإعطاء الثقة لمن يريد أن يعود بكبرياء، إن لم يكن من أجلنا، فمن أجل سورية الوطن الأرض والإنسان، الماضي والحاضر والمستقبل، هذا الاسم العظيم الذي يجب أن يبقى شامخاً وخالداً أبد الدهر؟
د.نبيل طعمة