الإفتاء والمُفتون

الإفتاء والمُفتون

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٣ يونيو ٢٠١٥

مع الأوقاف التي تعني أملاك السابقين، والحاضرين، واللاحقين، والتحبيس، والتسبيل؛ أي حبس مال، يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، وفي المغرب العربي، يقولون وزارة الأحباس، فأسباب وجودهم قبولهم الاضطلاع بمهام كبرى جليلة، تتجلى في الإسعاف الدائم للسواد الأكبر من أبناء الأمة العربية الإسلامية، والعربية المسيحية، وشؤون الأديان الأخرى، والمنتمين إليها، والمتعلقين بها، هذه الأمة التي حولت رسالة الإسلام من خلال كتابها المكنون، المنزّل بلغتها المؤكدة في الآية القائلة: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) وبه ظهرت الأمانة الكبرى، التي حملت فقهاءها، ومفتيها، وعلماءها، ودعاتها المبشرين، المستمرين بها، بفضل وجودها وسيطرتها، إلى أمة تابعة، من خلال الأمية الدينية، التي انتشرت بين أبنائها، والمتعلقين تعلق العماء بعلومها، التي لم تصلهم حتى اللحظة، فالمجتمع لايزال يفتقد العلم الحقيقي برسالته، وأعتقد أن الثورة ضمن المجتمع الديني قادمة لا محالة، بسبب لغة التعمية المقصودة، فإذا كانت الرسالة الإسلامية السمحة، التي تدعو إلى العلم والقراءة والتآخي، والذي نشهده تقاصراً، أو تكاسلاً وازدواجية، بين مفهوم العلم، كعلم غايته إفادة إنسانية الإنسان، والاشتغال للحياة بإعمارها، وماضوية دينية، تحصره، وتكبل انطلاقته، لا يتقبلها الواقع العلمي والحياتي الحداثوي، بحكم الانفتاح العالمي السائد، فما معنى أن يغدو العالم قرية صغيرة، ومسطحاً يسير عليه الجميع، يتابعون بعضهم بالرؤية البصرية، والسمعية، والحسية المباشرة، وغير المباشرة، فما  الحال فيما نحن عليه؟ أليس جميعنا ضحايا ما أسكنوه في عقولنا؟
أجل.. نحن في زمن الفتن والادعاء اللامتناهي، والفتاوى المرعبة للقاصي والداني، ومازال جلد الناس مستمراً بالتجريم والتحريم، وعذابات القبور، والوعود بالحور العين، في جنان الخلد، التي تنساب فيها أنهار الخمر، وعلى ضفافها، يطوف الغلمان، والعالم يتطور، يخترع، يبدع، ينجز، يخلق الأفكار، وينتجها، نكفره، ونحن نستخدمها، ومن دونها، ما كان ليكون وجود لنا، بينما يتوالى علينا الفتاوى والمفتون، على أهمية حضورهم التاريخي، وضرورات وجودهم في الحاضر والمستقبل، كضوابط في الشخصية الإنسانية، ومفاهيم لا يُستغنى عنها، بحكم التعلّق الروحي وعلاقته بالمادي.
ألا نتفكر في حجم الإساءة التي أصابت الفكر العربي الإسلامي من تفاسير وفتاوى كهذه، فالأمة الإسلامية غدت أمماً، وعالمها الواحد، أصبح عوالم، وهذا طبيعي، وبناؤها الحضاري في حالة تقهقر؛ بل أكثر من ذلك، يتجه إلى الانهيار، وإنسانها اصطبغ بصبغة الإرهاب، أينما حلّ، وكيفما ارتحل، هنا نسأل: ما دور الإفتاء والمفتين والمجامع الفقهية والشرعية ومدارسها والأوقاف والواقفين، رغم أنّ الشّعب بارك وثيقة الشرف الديني؟ إلا أن السؤال كيف نُسكِنها عقل إنساننا؟ وهل قام فقه الأزمة بشرح مفرداتها وإدخالها لمناهجنا التربوية؟ وكيف سيعمل عليها خطباؤنا المنتشرون على جغرافيتنا، والمنقسمون بين مع وضد وانعكاسها عليهم؟ وهل يتوافق هذا مع باب الاجتهاد، بحكم أن الخلاف لا الاختلاف سيد الموقف؟ هل هي فقط في قضايا الصلاة والصوم، والزنى والنكاح، والزكاة والإرث، والجهاد والكفر والتكفير، والإيمان والإلحاد والإشراك، وتأييد الثورات، أو رفضها؛ أين أولئك المستنيرون، الذين يَدعون للعلم والعمل، وإسهاماتهم في بناء الوطن والمواطن؟ لماذا لم يُدعَوا إلى المشاركة في بناء الفكر الديني؛ أم إننا متدينون بالفطرة فقط؟! أين الاجتهاد المبني من قيمة وقوة الحياة وأعرافها ومصالحها، لتكون دوافع تأخذ بأيادي الجميع، من أهل الكتاب والذمة، والتي ينبغي أن يستفيد منها الناس كافة، من دون استثناء أحد؟ هل فهمنا الرسائل العلمية المسكونة في الكتاب المكنون، حينما يشير إلى السلطان، كوسيلة للعلم والمعرفة والفهم، وأنه لا يجوز فيه تكفير أحد، ولا يحقّ لإنسان أن يكفّر أخاه الإنسان، حتى وإن ألحد، من باب أنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة. ألا يجب الاتجاه لتعزيز اللغة الإنسانية الأسمى، والأرض التي تدفع بالإنسان إلى العمل، وحب الحياة، والإخلاص لها، فيكون بذلك جهاداً حقيقياً، يثاب على المرء من المرء أولاً، ومن ثمّ من الله. أين قيمة وقوة الإفتاء؟ هل منحصرة، وكما أشرت في القضايا الفقهية المالية الأسرية والتبعية، والخلاف والاختلاف مع الأئمة والمفتين المنتشرين في أصقاع العالم العربي والإسلامي فقط؟ أين دراسات الواقع وتقلباته وأحوال الناس، وكيف حال المسلمين والمجتمعات والأمة؟
هل يستطيع عنواننا تجديد الفكر الديني، بحيث يقارب به ما قامت به الأديان الأخرى، من البوذية، والهندوسية، وصولاً للمسيحية، بتحويل مضمون الجوهر المتعلق بالإيمان، بربطه مع الإيمان بالمظهر، الذي يدعو للإعمار في الأرض والإنسان، بعد أن غدا المسلمون منشغلين بتكفير بعضهم، متعلقين بلغة الماضي أكثر من زمن الماضي، الذي ظهر به الإسلام، يحلمون بعودة سيادته، يستندون إلى فتاوى الماضويين، لم يحاولوا حتى اللحظة فتح أبواب الحياة، وهنا يصحّ القول: بأن تغيروا وتدعوا إلى الانفتاح، فتح النوافذ والأبواب، والتطلع علمياً ومعرفياً، كما فعلت الكنيسة، التي اشتغلت باللاهوت، وتعلقت به كثيراً، إلى أن استوعبت، أن تحويله لخدمة البشرية، يمنحها حقيقة وجودها، فإلى متى سنبقى كذلك؟ وإني حقيقة لأدعو المفتين والأئمة لتحويل علوم الفقه والشريعة، لخدمة الإنسان المسلم، والإنسانية بشكل عام، وتوجيه المجتمعات لتطوير ذاتها، بالاشتغال بالعلم والمعرفة، والانطلاق من الحاضر إلى المستقبل، بعيداً عن تشدد الماضي، لا ضير من الاستفادة من لغته المسكونة في الاعتدال والوسطية القابلة لاستيعاب الأفكار الجديدة، وأقصد الإيجابية والمفيدة بغاية مواكبة المجتمعات، لا الابتعاد عنها، والانحصار مرة ثانية وثالثة في أفكار الماضي. ومن باب التذكير، إنه توافق في هذا العام القمري والميلادي، مع احتفائية الصعود والإسراء، وسيتوافق في نهاية الميلاد والمولد؛ فماذا يعني لنا هذا؟ هلا نتفكّر؟!
د. نبيل طعمة