مبادلاتٌ تجارية تقارب الصفر | الحصار الغربيّ على سوريا: الأوروبيون لا يقصّرون أيضاً

مبادلاتٌ تجارية تقارب الصفر | الحصار الغربيّ على سوريا: الأوروبيون لا يقصّرون أيضاً

أخبار سورية

الخميس، ٢٠ أبريل ٢٠٢٣

ليست العقوبات الأوروبية على سوريا بأقلّ تأثيراً من العقوبات الأميركية، التي تسرق دوماً الأضواء الإعلامية. فإلى جانب القيود التي فُرضت على وجود المصارف السورية ضمن نظام «سويفت» المُدار أوروبياً، فإن البيانات الإحصائية تكشف أنه حتى مستوردات دمشق من الدواء والغذاء، اللذَين يقال إنهما خارج دائرة الاستهداف، تراجعت قيمتها بنسبة كبيرة بين عامَي 2010 و2022
لم تكن العلاقات السورية - الأوروبية دائمة الاستقرار عبر مسيرتها الممتدّة لعقود من الزمن؛ ففي بعض مراحلها شهدت نوعاً من التأزّم السياسي وصل أحياناً إلى حدّ قيام بعض الدول الأوروبية المؤثّرة بسحب سفرائها من دمشق. ومع ذلك، بقيت متمايزة سياسياً واقتصادياً إلى حدّ كبير عن العلاقات السورية - الأميركية، التي طبع العداء والتوتّر كامل مسيرتها، اللّهم باستثناء عقد التسعينيات. التمايز الأوروبي ترجمته مشروعات عديدة للتعاون الاقتصادي والفنّي بين الجانبَين، تُوّجت في عام 2004 بالتوقيع بالأحرف الأولى على «اتفاقية الشراكة»، ومن ثمّ إعلان الدول الأوروبية رغبتها في التوقيع النهائي على الاتفاقية في عام 2009. إلّا أن كلّ ما تَقدّم، تَغيّر مع بداية الأزمة السورية في عام 2011، عندما بادرت دول الاتحاد الأوروبي إلى اتّخاذ جملة إجراءات يمكن تصنيفها ضمن ثلاث خانات: الأولى، توقيف العمل بمشروعات الدعم المالي والاقتصادي والفنّي المقدَّمة لسوريا، والثانية قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دمشق بشكل كامل أو جزئي، والثالثة فرض عقوبات متنوّعة ومتدرّجة طاولت شخصيات ومؤسّسات سورية وجوانبَ اقتصادية عديدة.
 
توقّف شبه كامل
غالباً ما تتّجه الأنظار، أثناء الحديث عن العقوبات الغربية على سوريا، نحو الإجراءات الأميركية فقط، وهو ما قد يكون عائداً إلى القناعة السائدة بأن مصير العقوبات يبقى مرهوناً بتطوّرات الموقف الأميركي. على أن ثمّة أسباباً أخرى لذلك، متعلّقة بالسياق العام لتعاطي الإعلام والفعاليات المجتمعية مع هذا الملفّ. هنا، يمكن التمييز بين مستويَين: الأوّل، أثر العقوبات على العلاقات الاقتصادية الخارجية لسوريا مع مختلف دول العالم، حيث تتبدّى فعالية العقوبات الأميركية أكثر من غيرها، من دون التقليل أيضاً من أثر العقوبات الأوروبية، وتحديداً المصرفية منها، والمتعلّقة بنظام «سويفت» العالمي. أمّا المستوى الثاني، فيتّصل بحجم الأثر المباشر على العلاقات الاقتصادية الثنائية بين سوريا والدول المعاقِبة، وهو أثر يتباين تبعاً لمستوى العلاقات التي كانت قائمة قبل الأزمة، وبالاستناد إلى ما تَقدّم، يتّضح أن العقوبات الأوروبية كانت الأكثر تأثيراً في الجانب المذكور، بدليل ما تُظهره البيانات الإحصائية الرسمية المتعلّقة بقيمة التبادل التجاري بين الجانبَين، ولا سيما أن أوروبا كانت في مرحلة ما الشريك التجاري الأوّل لسوريا. ووفقاً لما تشير إليه البيانات الرسمية، فإن المستوردات السورية من السلع ذات المنشأ الأوروبي، تراجعت قيمتها من حوالي 5.9 مليارات يورو في عام 2010، إلى حوالي 936.8 مليون يورو في عام 2022، أي بنسبة انخفاض قدرها 84%، في حين أن نسبة تراجع قيمة الصادرات السورية خلال الفترة المذكورة وصلت إلى حوالي 98%، بعدما تضاءلت من أكثر من 4 مليارات يورو في عام 2010، إلى حوالي 62.6 مليون يورو في عام 2022.
في ظلّ هذا التراجع الكبير، كان من الطبيعي أن تتأثّر عملية تدفّق السلع والبضائع في الاتّجاهَين، وأن ينعكس ذلك تالياً، سلباً، على تلبية العديد من احتياجات السوريين، على رغم إصرار دول الاتحاد الأوروبي على أن تلك العقوبات تستهدف «النظام ومؤيّديه والقطاعات الاقتصادية التي يحقّق منها أرباحاً، والسلع التي يمكن استخدامها لهذا الغرض». وبحسب ما تشير إليه بعثة المفوضية الأوروبية في سوريا، في تصريح إلى «الأخبار»، فإن تلك العقوبات «لا تمنع تصدير المواد الغذائية أو الأدوية أو المعدّات الطبّية من الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، ولا تستهدف نظام الرعاية الصحية في سوريا. وتشمل العقوبات استثناءً إنسانياً واسع النطاق لضمان استمرار تقديم المساعدة الإنسانية إلى أيّ جزء من أجزاء البلاد». لكن عملياً، العقوبات المشار إليها لم تستثنِ بتأثيراتها أيّاً من القطاعات، بما فيها الغذاء والدواء، إذ يؤكّد أحد مستورِدي الحبوب في دمشق، لـ«الأخبار»، أن «العقوبات الأوروبية المفروضة على قطاعات أساسية كالعمليات المصرفية والمالية وغيرها، تشكّل عائقاً أساسياً أمام توريد معظم المواد الغذائية إلى السوق السورية بشكل مباشر». ويلفت المستورد، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أنه «يضطرّ كغيره إلى تنظيم إجازات استيراد باسم شركات تؤسَّس في دولة ثالثة أو شحن البضائع إلى دول مجاورة ومن ثمّ نقلها إلى سوريا. ومع ذلك، ففي كثير من الأحيان، تقوم بعض البنوك الأوروبية بعملية تتبّع للمقصد النهائي للبضائع، وهذا كلّه يرتّب تكاليف إضافية تتسبّب في النهاية برفع أسعار السلع الغذائية في السوق المحلّية».
ولا تبتعد تفاصيل البيانات الإحصائية لقيم السلع المستورَدة، عمّا قاله تاجر الحبوب، إذ تُظهر البيانات التجارية الرسمية السورية التي حصلت عليها «الأخبار»، أن مستوردات البلاد من الأدوية ذات المنشأ الأوروبي تراجعت من حوالي 118.5 مليون يورو في عام 2010، إلى حوالي 31.5 مليون يورو، أي بنسبة تصل إلى حوالي 73%، على رغم الارتفاع الذي شهدته الأسعار خلال فترة العامَين المُشار إليها. أمّا المواد الغذائية، التي زادت قيمتها خلال الفترة نفسها بنسبة 25%، فإن العامل المرجِّح في الارتفاع المتّصل بها، يتمثّل في أن نصف إجمالي المستوردات السورية من أوروبا في العام الماضي جاءت من روسيا، فضلاً عن سيطرة القمح على النسبة الكبرى من المستوردات الغذائية.
 
حتى مع الزلزال
كما كان الحال مع انتشار فيروس «كوفيد 19»، فإن كارثة الزلزال لم تُغيّر شيئاً في الموقف الأوروبي من العقوبات على سوريا، والذي بقي متناغماً مع الموقف الأميركي، سواء لجهة رفض رفع العقوبات أو تعليق العمل بها، وتالياً الاعتراف بتأثيراتها السلبية المباشرة على حياة السوريين، أو لجهة الاكتفاء، في التعامل مع تداعيات الكارثة، بإقرار تعليق جزئي للعقوبات لمدّة 6 أشهر، بغية «تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية بسرعة». وبحسب تعقيب بعثة المفوّضية الأوروبية لـ«الأخبار»، فإن «الاتحاد الأوروبي أعفى بموجب هذا التعديل المنظّمات الإنسانية من وجوب الحصول على إذن مسبق من السلطات الوطنية المختصّة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من أجل نقل أو توفير السلع والخدمات المخصَّصة للأغراض الإنسانية لصالح الأشخاص والكيانات المدرجة أسماؤهم في القائمة». لكنّ هذا الإعفاء بقيت تأثيراته محدودة جدّاً، بالنظر إلى ضخامة الاحتياجات الإغاثية ومتطلّبات تجاوز تأثيرات الزلزال على المديَين المتوسّط والبعيد، فضلاً عن استمرار سريان عقوبات أخرى كتلك التي تطاول النظام المصرفي السوري.
مع أن البعثة الأوروبية تدافع بأن «الاتحاد الأوروبي لم يُخرج أيّ بنك سوري من نظام "سويفت"»، إلّا أنها في المقابل تقرّ بوجود «بعض القيود المفروضة على القطاع المصرفي، بما في ذلك حظر إقامة علاقة مراسلة جديدة مع أيّ مؤسّسة ائتمانية أو مالية سورية (المادة 25 من قانون المجلس 36/2012)»، مضيفة أن «"سويفت" هيئة مقرّها الاتحاد الأوروبي، ولذا، من حيث المبدأ، لا يمكن تطبيق التدابير (أي "حظر تقديم خدمات الرسائل المالية المتخصّصة") إلّا من قِبل الاتحاد الأوروبي، وهي معمول بها حالياً لبعض البنوك الروسية، وسابقاً للبنوك الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، أُدرجت سوريا من قِبل فرقة العمل المعنيّة بالإجراءات المالية منذ عام 2010، كما أُدرجت في قائمتنا للدول الثالثة العالية المخاطر منذ عام 2016. ونتيجة لذلك، يتعيّن على الكيانات الملزمة في الاتحاد الأوروبي تطبيق العناية الواجبة المعزّزة في ما يتعلّق بالعلاقات التجارية أو المعاملات التي تشمل دولاً ثالثة عالية المخاطر»؛ وهذه تبدو إشارة تحذير كافية إلى جميع الكيانات الاقتصادية الأوروبية مع التعامل الاقتصادي مع سوريا بجوانبه كافة.
بناءً عليه، وفي ضوء تشدّد الموقف الأوروبي، لا يُتوقّع أن تشهد العلاقات السورية - الأوروبية على المدى القريب انفراجات، ولو من الباب الإنساني. فإذا كانت كارثة بحجم زلزال مدمّر فشلت في تحقيق ذلك، فإن الخيار الوحيد المتبقّي يتمثّل في حدوث تطوّر سياسي دراماتيكي، قد يحمل الأطراف الغربية على مراجعة حساباتها.