تقزّم، هُزال ومرض: «غُول» العقوبات يلاحق أطفال سورية

تقزّم، هُزال ومرض: «غُول» العقوبات يلاحق أطفال سورية

أخبار سورية

الخميس، ٦ أبريل ٢٠٢٣

هُزال، تقزّم، ومرض؛ هي ثُلاثية المخاطر المهدِّدة لحياة ومستقبل آلاف الأطفال السوريين، وذلك بفعل التراكم المستمرّ لأثر العقوبات الاقتصادية الغربية، ولطبيعة السياسات الاقتصادية المحلّية المُطبَّقة. وهذا ليس باستنتاجات عامّة فقط، وإنّما حصيلة مسوح ميدانية - رسمية وأممية -، أشعلت المخاوف من إمكانية تكرار مأساة أطفال العراق خلال سنوات الحصار القاسية
طفلة متفوّقة دراسياً، لم يتجاوز عمرها خمسة عشر ربيعاً، فقدت حياتها أخيراً في أحد مستشفيات العاصمة إثر أزمة صحّية مفاجئة قيل إنها نجمت عن سوء تغذية تَرافق مع إجهاد دراسي. الحادثة التي أثارت حزناً شعبياً، تُشكّل في نظر كثيرين مؤشّراً إلى دخول الوضع التغذوي للأطفال السوريين دائرة الخطر المهدِّد لحياتهم، لا سيما في ظلّ التحذيرات الرسمية والأممية الكثيرة التي أُطلقت خلال سنوات الحرب، والمدعومة بمجموعة واسعة من البيانات والتقديرات الإحصائية المخيفة. لكن لا المجتمع الدولي استجاب لهذه التحذيرات وعلّق عقوباته، ولا الحكومة غيّرت من سياساتها الاقتصادية الداخلية. وبالنتيجة: هزال، تقزّم، ومرض؛ هو أكثر ما ينتظر مستقبل آلاف الأطفال السوريين مع تعمّق ظاهرة الفقر، والتي وصل معدّل انتشارها إلى مرحلة الذروة، هذا فضلاً عن فقدان أكثر من 12.4 مليون شخص أمنهم الغذائي بزيادة قدرها 51% مقارنة بتقديرات عام 2019، وذلك وفقاً لبيانات أممية صدرت أخيراً بناءً على نتائج مسح الأمن الغذائي لعام 2022، والذي جرى بالتعاون مع الحكومة السورية، ولا تزال بياناته قيد الكتمان. وحذّر «برنامج الأغذية العالمي»، في بيانه المنشور أخيراً، من أن 1.9 مليون سوري مهدَّدون بالانزلاق إلى براثن الجوع.
 
ثُلاثيّة المخاطر
مع تسارع انهيار الأوضاع المعيشية في البلاد منذ عام 2020، وما ترتّب على ذلك من اضطرار أكثر من 90% من الأُسر السورية إلى اتّباع إجراءات تأقلم قاسية كتقليل كمّية الطعام المُعدّ للاستهلاك أو تقليل شرائه، فإن الأطفال تعرّضوا لواحدة من أخطر المشكلات التغذويّة والصحّية التي تواجهها الدول. وبحسب ما يشير إليه «برنامج الأغذية العالمي»، فإن «التغذية أصبحت تمثّل مشكلة خطيرة مع تحوّل الوجبات الأساسية إلى رفاهية بالنسبة إلى الملايين. وتُظهر بيانات عام 2021 أن واحداً من كلّ ثمانية أطفال في سوريا يعاني من التقزّم، بينما تُظهر الأمّهات الحوامل والمرضعات مستويات قياسية من الهزال الحادّ». ويحذّر البرنامج من أن «كلتا الحقيقتَين تشيران إلى عواقب صحّية مدمّرة بالنسبة إلى الأجيال القادمة»، فيما تذهب أحدث البيانات الرسمية المتاحة إلى أبعد من ما تَقدّم؛ إذ يكشف مسح أجرته وزارة الصحّة عام 2020، أن سوء التغذية الحادّ العام طال ما يزيد على 1.2% من الأطفال، فيما 4.9% من الأطفال ممّن هم في عمر 6 إلى 59 شهراً، يعانون من نقص الوزن.
اللافت في البيانات الرسمية المشار إليها، معطيان في غاية الخطورة: الأوّل يتمثّل في انتشار ظاهرة التقزّم (نقص التغذية المزمن) بين الأطفال ممّن هم في عمر 6 إلى 59 شهراً، حيث بلغت نسبتها على مستوى البلاد حوالى 12.6%، فيما تباينت بين المحافظات لتسجّل حوالى 5.6% في طرطوس، وحوالى 22% في دير الزور. أمّا الثاني، فهو يتعلّق بنسبة الإصابة بفقر الدم للفئة العمرية المذكورة، والتي تبلغ 27.4%. وبلا شكّ، فإن هذه النسب والأرقام أصبحت أكثر سوءاً مع ما مرّت به البلاد خلال العامَين السابقَين 2021 و2022؛ إذ يكفي القول إن معدّل التضخّم للسلع الغذائية ارتفع بشكل جنوني وغير مسبوق طيلة الفترة الماضية، وهو لا يزال يشهد ارتفاعات تهدّد كثيرين بالموت البطيء، مع وصوله في عام 2020 إلى حوالى 132.9%، وفي عام 2021 إلى حوالى 110.4%، وحوالى 56.7% خلال النصف الأول من عام 2022، وذلك مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
ربّما يكون الأطباء باختصاصاتهم المختلفة، إلى جانب الباحثين العاملين على المسوح الميدانية، هم الأقدر على توصيف الوضع الغذائي الذي يعيشه الأطفال بشكل موضوعي ودقيق، سواءً من خلال عمليات التشخيص اليومية التي يجرونها للمرضى المراجعين للمستشفيات والعيادات العامة والخاصة، أو من خلال نتائج التحاليل الطبية. وبحسب الدكتور ماهر ريا، مدير الشؤون الصحية في محافظة دمشق سابقاً، ورئيس تحرير صحيفة «سالب موجب» الاجتماعية، فإن «نتائج تحاليل الفيتامينات التي يجريها عادة المرضى تُظهر دوماً وجود نقص في فيتامين D». ويضيف ريا، في حديث إلى «الأخبار»، أن انتشار سوء التغذية «سببه غياب مواد رئيسة عن مائدة معظم الأُسر، فضلاً عن طبيعة ونوعية المواد الموجودة في السوق؛ فمثلاً معظم الألبان والأجبان مصنَّعة من حليب البودرة، إضافة إلى وجود مواد مجهولة المصدر وغير مراقَبة». لكن مع عدم تمكّن معظم المرضى من إجراء معايرة للفيتامينات في أجسادهم، نظراً لارتفاع تكاليفها في المستشفيات والمخابر الخاصة وندرة إجرائها في المستشفيات العامة، فإن الكثير من أوضاع الأطفال تبقى رهينة التطورات الصحية اللاحقة. لا بل إن الدكتور ماهر بوظو يؤكد أن «النقص في فيتامين D يكاد يشمل معظم السوريين، الذكور منهم والإناث على حدّ سواء، وهذه نتيجة تعود إلى ما قبل سنوات الحرب، والوسط الطبي لا يعرف إلى اليوم أسباب ذلك». ويتّفق بوظو مع ما ذكره زميله لجهة وجود سوء تغذية نتيجة لأسباب عدّة، لافتاً، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن جميع المعطيات «توحي بأن هناك سوء تغذية، من المواد المتاحة للاستهلاك إلى أسعارها ودخول الأسر، فالتقنين الأُسري الجائر في استهلاك الطعام وعدم وجود تنوّع غذائي مناسب».
خيارات قاسية
يدفع الأطفال السوريون اليوم ثمناً ليس بالقليل جرّاء التراكم الزمني لتأثيرات العقوبات الغربية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية، وأيّاً كانت فئاتهم العمرية. فالأطفال الرضّع وغيرهم يحصلون على غذاء ورعاية أقلّ بكثير ممّا هو مطلوب، بفعل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لأُسرهم وتلك السائدة في البلاد. وقد ظهر ذلك بوضوح خلال الفترة التي أعقبت وقوع الزلزال الأخير، حيث تَبيّن وجود نقص حادّ في مادّة حليب الأطفال إلى درجة أنها تحوّلت إلى السلعة الأهمّ المدرَجة على أولويات الاحتياجات الإغاثية المطلوبة، وحتى عند تَوفّرها فإن أسعارها المرتفعة تحول دون حصول أطفال كثر عليها، وهذا يطرح تساؤلات عن البدائل التي كانت تلجأ إليها الأُسر لتغذية أطفالها عند فقدانها القدرة على توفير الحليب الصحي. في المقابل، ثمّة فئة أخرى يجد أطفالها أنفسهم أمام خيارات قاسية، كاضطرارهم إلى دخول سوق العمل باكراً، أو الزواج المبكر والقسري للفتيات، أو إبعادهنّ عن المدارس. وهذه خيارات تبدو كافية لتعطيل إمكانيات وقدرات أجيال كثيرة، وتحويلها من حامل تنموي إلى عامل مهدِّد للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والتنموي.