خطوط حمراء أميركية في سورية: لا للتطبيع... لا لعودة اللاجئين... لا للحلّ الدائم

خطوط حمراء أميركية في سورية: لا للتطبيع... لا لعودة اللاجئين... لا للحلّ الدائم

أخبار سورية

الجمعة، ٣ فبراير ٢٠٢٣

انعقدت، في الخامس والعشرين من الشهر الفائت، جلسة جديدة لمجلس الأمن الدولي حول سوريا، بدا خلالها الحرص الأميركي واضحاً على ترسيم خطوط حمراء أمام الدول المتطلّعة إلى تطبيع علاقاتها مع سوريا أو الانخراط في جهود إيجاد حلّ دائم للأزمة في هذا البلد. خطوطٌ يمكن تلخيصها بالآتي: لا للانفتاح على دمشق، لا لعودة اللاجئين السوريين، ولا للتسوية النهائية والشاملة. وإذ بدا التناغم الأوروبي - الأممي واضحاً مع تلك اللاءات وفق ما أظْهره ملخّص رسمي لمداولات الجلسة اطّلعت عليه «الأخبار»، فقد حرصت روسيا، من جهتها، على إعادة تثبيت وُجهة نظرها القائمة على ضرورة إنهاء العقوبات المفروضة على سوريا، والسماح بعودة اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكّلون، بحسبها، «تهديداً وجودياً» للبلدان المُضيفة لهم، وعلى رأسها لبنان. أمّا المداخلات السورية والتركية، فقد ظهر لافتاً خلوّها من المواقف المشحونة المعتادة، وابتعادها عن التوصيفات العدائية المألوفة، في ما قد يؤشّر إلى حرْص الجانبَين على النأي بمسار التقارب بينهما عن أجواء التوتّر، في انتظار اجتماعها التقني الجديد، والذي أُعلن أمس أنه سيُعقد خلال أيّام
على خطّ موازٍ للتحرّكات السياسية - الميدانية المتواصلة التي تقودها الولايات المتحدة في «مناطق نفوذها» في شرق سوريا وشمالها الشرقي، وفي وقت تُكثّف واشنطن مساعيها لتكون حجر عثرة على طريق تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، تتطوّر بوتيرة لافتة المواقف «الميّالة» إلى الانتقال بالأزمة السورية من «مرحلة الإدارة إلى مرحلة الحلّ». فإلى جانب استمرار موسكو وطهران في دفْع مسار التقارب السوري - التركي، نحو عقْد قمّة على مستوى الرئيسَين في وقت قريب، يلمس العاملون على الملفّ «حرصاً» سورياً - تركياً، بالفعل، على تهيئة الأجواء المناسبة لإنجاح تلك الجهود. وفي المقابل، لا توفّر الإدارة الأميركية فرصة لاستهداف المسار المذكور، من بوّابة حرصها على جعْل سوريا «مستنقعاً لروسيا» على ما صرّح به المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، عام 2020، وقطْع الطريق بين طهران ودمشق عبر بغداد انطلاقاً من التنف في جنوب شرقي سوريا أولاً، ومنْع الاستفادة من موقع سوريا الجغرافي الذي يحقّق مصالح اقتصادية متبادلة مع دول الجوار ثانياً، مع ما يعنيه كلّ هذا من عرقلة «مسار أستانا» الذي بدأته روسيا عام 2017 لحلّ الأزمة السورية، وركّزت فيه على الطُرق الدولية كبوّابة للحل الذي تقع في صُلبه حالياً محاولات الانفتاح السوري - التركي.
في الميدان، تلعب واشنطن بورقة الأكراد وحضورهم في منطقة شرق الفرات، ربطاً بدور أنقرة شمالاً انطلاقاً من منطقة إدلب، فضلاً عن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل، وتأثير ذلك في المشهد السوري العام. أمّا سياسياً، فقد عكست كواليس جلسة مجلس الأمن الأخيرة، المخصّصة للملفّ السياسي والإنساني في سوريا، والتي انعقدت في الخامس والعشرين من الشهر المنصرم، صورة مصغّرة عن «الكباش» الحاصل حول ترتيبات المشهد السوري بين واشنطن ومَن معها من جهة، وموسكو وحلفائها من جهة أخرى. وفق ملخّص رسمي لمداولات الجلسة اطّلعت عليه «الأخبار»، فقد بدت الولايات المتحدة كَمَن يحاول جاهداً تكريس «خطوط حمراء» أمام الدول الفاعلة في الملفّ السوري، تبدأ من التطبيع مع دمشق، ولا تنتهي باستمرار «حَلْب» ورقة اللاجئين السوريين، عبر حثّ تلك الدول على مضاعفة دعْمهم في أماكن تواجدهم، بدل الحديث عن إعادتهم إلى بلادهم، فيما بدا لافتاً إدخال مخيّم الركبان إلى لائحة الأميركيين «الإنسانية»، حيث جرت المطالبة بتقديم المساعدة الماسّة لقاطنيه. وكانت معلومات حصلت عليها «الأخبار» أفادت باجتماعات عقدتْها القوّات الأميركية مع شخصيات وفاعليات في المخيّم الواقع ضمن منطقة خفْض التصعيد جنوب شرقيّ سوريا، في محاولة لاستكشاف إمكانية تأسيس «إدارة ذاتية» على غِرار القائمة في الشمال بقيادة «قوات سوريا الديموقراطية»، وذلك في إطار جهود واشنطن لإبقاء التواصل البرّي مقطوعاً بين سوريا والعراق.
وبالعودة إلى محضر الجلسة، فإن الدول الأوروبية لم تَخرج، بحسب ما يَرد فيه، عن الخطّ الأميركي العام المرسوم بدقّة لسوريا. إذ ربطت هذه الدول دعْمها لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين ورفْع العقوبات، بشروطها المعروفة والمكرَّرة، المتمثّلة في ضرورة تأمين الحكومة السورية الأمن والحقوق بالنسبة للاجئين، والتزامها بـ«عملية سياسية ذات مصداقية وشاملة» بخصوص إعادة الإعمار ورفْع الحصار، في حين بدت لندن أكثر عدائية تجاه دمشق، بتكرارها الحديث عن تورُّط الأخيرة في «إنتاج وتهريب المخدرات»، والمطالبة بمعاقبتها على هذه الخلفيّة. وليس بعيداً من خطوط واشنطن الحمراء أيضاً، أتت مداخلة المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون؛ إذ رهن عودة اللاجئين بالجانب الأمني والخدمة العسكرية، إضافة إلى الوضع المعيشي والخدمات الأساسية، وشدّد على ضرورة اتّخاذ مجموعة واسعة من الإجراءات لإنشاء بيئة آمنة وهادئة ومحايدة لعودة آمنة وطوعية لهم، متحدثاً كذلك عن «تجارة المخدرات»، بالتماهي مع التقارير الإعلامية الغربية المكثّفة التي نشطت في الفترة الأخيرة في البناء على اتّهام الحكومة السورية بإدارة مِثل تلك التجارة، من أجل الدعوة إلى تشديد الحصار عليها.
لكن أكثر ما «استفزّ» الجانب الروسي في حديث بيدرسون، هو قوله إن سوريا «لا تزال مقسَّمة بحُكم الأمر الواقع إلى عدّة أجزاء، مع وجود خمسة جيوش أجنبية، والعديد من الجماعات المسلّحة السورية، والمجموعات الإرهابية المدرَجة على قائمة مجلس الأمن، والتي تنشط جميعها على الأرض». إذ انتقدت موسكو، بشدّة، جَمْع خمسة جيوش أجنبية وجماعات إرهابية في لائحة واحدة على أنها من عوامل العنف في البلاد، من دون التمييز بينها ربطاً باختلاف أدوارها ودواعي وجودها وشكْل هذا الوجود. كذلك، حرصت موسكو على التفريق بين أنواع الوجود العسكري في الميدان السوري، متحدّثة عن الوجود الأجنبي غير الشرعي باعتباره من «التحدّيات الرئيسة» التي تضاف إلى التهديد المستمرّ بعملية عسكرية في الشمال، فضلاً عن زيادة عدد «الهجمات التعسّفية» من قِبَل الطيران الإسرائيلي، والأنشطة الإرهابية في جنوب البلاد. وركّز الموقف الروسي، أيضاً، بحسب محضر الجلسة، على الدور السلبي والتخريبي لواشنطن في سوريا، حيث جرى تهريب 80% من إجمالي النفط السوري المنتَج من البلاد، من قِبَل الأميركيين، في النصف الأوّل من عام 2022. كما تحدّث المندوب الروسي عن أثر العقوبات الأميركية، وخصوصاً قانون «قيصر»، إضافة إلى العقوبات الأوروبية، في عرقلة جهود موسكو في مساعدة دمشق، ومدّها بما يَلزم لدعم القطاع الزراعي. وفي ما خصّ اللاجئين، كان لافتاً التمسّك الروسي بأهمّية عودتهم إلى بلادهم، ليس من أجل المساهمة في إعادة الإعمار فحسب، بل أيضاً من زاوية الأعباء التي يشكّلونها على البلدان المضيفة، وعلى رأسها لبنان، الذي بات فيه ما يقرب من مليونَي نسَمة، 37% منهم من اللاجئين السوريين، بحلول نهاية العام الماضي، في مرحلة أزمة من حيث الأمن الغذائي. وإذ أشار المندوب الروسي إلى أنه «من الواضح أن بيروت غير قادرة على تحمُّل هذا العبء»، فقد نبّه إلى أن «قضية اللاجئين السوريين أصبحت تهديداً وجودياً للبنان»، منتقداً سياسة المانحين القائمة على الدفْع بالسوريين إلى خِيَم المفوضية في الأراضي اللبنانية بدلاً من مساعدتهم على العودة إلى بلادهم.
على ضفّة الدول الساعية إلى التقارب مع سوريا، برز في الجلسة موقف الإمارات التي حثّت على «الانتقال من إدارة الأزمة السورية إلى حلّها»، مُحاوِلةً إفساح مساحة خاصة للجهود العربية في محاولات إيجاد حلّ «يحترم سيادة سوريا ووحدة أراضيها»، مع ما يعنيه ذلك من إشراك لعواصم عربية فاعلة ومؤثّرة في تلك الجهود. وفي حين لم يطرأ أيّ تغيير على أولويات تركيا التي يمكن تلخيصها بالأمن على الحدود، ما يستدعي مكافحة حزب «العمّال الكردستاني» في شمال سوريا باعتباره التهديد الأكبر لأمنها، إضافة إلى القضاء على «كلّ المنظمات الإرهابية» في سوريا، فإن الأدبيات التركية لم تتزحزح، في الجانب السياسي، عن المناداة بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وضمان نجاح العملية السياسية فيها، تمهيداً للتوصّل إلى شروط مؤاتية لعودة اللاجئين. أمّا دمشق التي انتقدت استمرار انعقاد الجلسات الشهرية بخصوص الملفّ السوري نظراً إلى «انتفاء» الحاجة إلى هذا الزخم من الجلسات، التي يمكن استغلالها سياسياً وإعلامياً ضدّها، فقد جاء خطابها حادّاً ضد سياسة «الفوضى الخلّاقة» الأميركية تجاه سوريا. كما دانت سوريا، بالطبع، السرقات الأميركية لمواردها وثرواتها الطبيعية، والتي قالت إن قيمتها تتجاوز الـ100 مليار دولار.
وكان قد سبق جلسةَ مجلس الأمن الأخيرة، تجديدُ آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود، بموجب القرار 2672 الذي تمّ اعتماده من قِبَل المجلس بالإجماع وبسلاسة، على عكْس المطبّات الكثيرة التي اعترضتْه العام الماضي. ولربّما تمثّل هذه «السلاسة» علامة إيجابية يتوقّف عندها المراقبون، خصوصاً في ظلّ «التطوّر المطّرد» الذي يشهده الموقف التركي بخصوص تطبيع العلاقة مع دمشق، واللقاءات التي تمّت أو تلك التي ستنعقد قريباً بوساطة روسية. ولعلّ الأجواء «الإيجابية» المُشار إليها، تجلّت أيضاً في «اللهجتَين» السورية والتركية أثناء الجلسة الأحدث، إذ لم يُسجَّل أيّ هجوم من قِبَل ممثّل أنقرة ضدّ نظيره السوري، كما أنه لم تَستخدم تركيا تعابير لاذعة ضدّ «النظام السوري» كما هي عادتها. وبالمثل، كانت مداخلات المندوب السوري خالية من أيّ انتقادات حادّة ضد أنقرة، وغابت عنها عبارات من قَبيل «الاحتلال التركي»، وحلّت مكانها الدعوة إلى ضرورة «إنهاء الوجود الأجنبي اللاشرعي على الأراضي السورية في شمالها الشرقي وشمالها الغربي وما يرتبط به من تنظيمات إرهابية وميليشيات انفصالية».
على أيّ حال، يبدو واضحاً، من خلال محضر جلسة مجلس الأمن، أن المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة يواصل مساعيه لعرقلة مسار التقارب السوري - التركي الذي تقوده موسكو وتسهّله طهران، فيما تحاول واشنطن استغلال الكثير من الملفّات والقضايا الخلافية التي صنعتْها سنوات الجفاء والعداء بين أنقرة ودمشق، من أجل منْع أيّ تحوّل دراماتيكي قد يضع اللبِنة الأولى على طريق تسوية الأزمة السورية نهائياً.