“العوايني” مهنة خفيّة كسرت ظهر قطاعنا العام..

“العوايني” مهنة خفيّة كسرت ظهر قطاعنا العام..

أخبار سورية

الثلاثاء، ٥ نوفمبر ٢٠١٩

مخبر مراقب
 
 
لو قدّر لنا الحصول على جهاز لكشف (العملاء المزدوجين) في شركاتنا العامة لوضعنا يدنا على مجموعة كبيرة ممن يمكن وصفهم بـ “الجواسيس” -وعذراً للمصطلح- الذين يعملون داخل هذه الشركات لمصلحة شركات أخرى من القطاع الخاص متعارضة في المصالح مع الأولى، ويتمركز أغلبهم مقصورة القرار للاطلاع على أسرار الجهة الحكومية متخفين بثياب الموظف المتفاني سراً أو علانية يقتات على رشوة “بفرصة عمل” تؤمنها الشركة الخاصة.
 
تبادل مصالح
 
فتقاطع المصلحة ينشأ بين كثير من موظفي قطاعات معينة وشركات خاصة بأعمال خارج نطاق الوظيفة العامة أو إقامة علاقات مع المقاولين أو الموردين في الخفاء، أو ملكيتهم لأسهم في تلك الشركات عندها يصبح ولاء هذا الموظف إلى من يقدم له “الثمن الأكبر” لا إلى مؤسسته التي يعمل فيها، ووصل إليها كيفما اتفق، ويعمل بعيداً عن النزاهة والأخلاق لخدمة مصالحه الشخصية، وأحياناً يتعدى ذلك إلى استلام مناصب إدارية غير تنفيذية في الشركة الخاصة المتعارضة المصالح مع شركته الأساسية العامة ،أو يصبح شريكاً صامتاً فيها كهدية وثمن لأتعابه كـ”قارئ لطالعها” في الصفقات أو العقود التي ترتبط مع الشركة العامة فيها، وأحياناً تصل “الجسارة” بهؤلاء إلى درجة استعمال معدات المؤسسة العامة لإنجاز وتسيير أعمال وظيفته المخفية على اعتبار أن المساءلة متراخية وأن المال العام له الحق أن يغرف منه وجلُّ ما يفعله يعتبره “شطارة”، بما يتضمن ذلك من سيارات هذه الجهة ووقودها أو معدات تكنولوجية أو غيرها. وليس خافياً إرسال بعض آليات القطاع العام للعمل في الخاص لحساب بعض متنفذي الدوائر الحكومية واستغلالها لمصلحتهم الشخصية والتي تكلف الدولة المليارات، في ضرب من ضروب الفساد والإثراء غير المشروع مع أن قرارات حكومية – احترازية – صدرت في العام 2007 منعت استخدام الآليات العامة وسيارات الخدمة إلا بداعي العمل والوظيفة، ووفقاً لمتطلبات المصلحة العامة وبناء على أمر مهمة موقع من آمر الصرف أو عاقد النفقة حسب الحال، وهنا يمكن أن نستنتج من يستخدم هذه الآليات وأي فئة من الموظفين وكم يستنزف من أموال الخزينة وخاصة لجهة الصيانة.
 
تواطؤ
 
مع انكماش موازنات القطاع العام – على خلفيات الأزمة – يزداد التطلع إلى القطاع الخاص ليوفر لها السلع والخدمات التي يتم الحصول عليها عادة عن طريق المناقصات العامة المتضمنة إبرام عقود مع موردين من القطاع الخاص، وتتطلب درجة عالية من التفاعل بين الموردين والموظفين العموميين فتزداد فرص ودوافع الفساد، والسطو على أموال الدولة عبر تقديم عروض فنية غير متوافقة أو رفع الأسعار دون مراعاة المواصفات وأحياناً تطرح المناقصات بشكل مبهم ولا يدري بها وبوضوحها سوى قلّة قليلة ممن أريد لهم ذلك لتنحصر المنافسة بينهم وترسو على الأقوى أو بالتراضي، بعد أن تلجأ هذه الجهات إلى ممارسة الفساد ومنح الرشاوى لنقاط ارتباط لها داخل مؤسسات الدولة لتمرير هذه الصفقات “ذات الرائحة” التي تدفع ثمنها الدولة والمواطن.
 
 فإحدى الدراسات الرسمية – قبل الحرب – قدرت حصة المناقصات بـ 40% من حجم الفساد الكلي الذي يصل إلى 900 مليار ليرة سورية أي 30 % كمتوسط من الناتج المحلي لسورية البالغ 2700 مليار ليرة وفي حد أدنى يصل فساد المناقصات إلى 20 % وفي حده الأعلى إلى 40 % من الفساد الكلي، وفساد المناقصات هذا يتركز أساساً في المناقصات الخارجية ذات المبالغ الضخمة وخاصة في مشروعات البنى التحتية أو في النفط، وفي “الكومسيونات” التي تتخلل هذه المناقصات، ثم المناقصات الداخلية بدءاً من المناقصات ذات التمويل الصغير وصولاً إلى المشاريع الداخلية الكبيرة مروراً بتنفيذ المشروعات الاستثمارية في مؤسسات الدولة التي تصل قيمتها إلى المليارات، ما يعني هدر وضياع أموال طائلة على الخزينة العامة، وفي بعض المؤسسات كثيراً ما يثبت تواطؤ أكبر متنفذيها وبعده الصف الثاني والثالث على غفلة من الباقين الذين.
 
انتشار هذه الظاهرة وما تجره من خراب وهدر للأموال العامة دفع حكومة عادل سفر لتحصين هذه العقود من مدّ اليد إليها حيث بقرار اعتبرت كل اتفاقية توقع مع الحكومة لتنفيذ مشروع ما أو صفقة لمصلحة جهة عامة باطلة عندما يثبت وجود تواطؤ في طلبات العروض أو المناقصات أو المزايدات التي تكون الغاية منها منع المنافسة وإحلال الفساد مكانها، أكثر من ذلك جرى التوجّه نحو إمكانية فض العروض للمناقصات التي تكون قيمتها فوق حد معين على الهواء مباشرة عبر إحدى المحطات التلفزيونية الموجودة.
 
ومن المؤكد أن هيئة المنافسة ومنع الاحتكار مع القضاء المختص لو أرادت البحث عما اعترى المناقصات على مدى سنوات لوجدت لها عملاً وقضايا كثيرة تشغلها سنوات قادمة.
 
سرقة
 
على اعتبار أن الضرائب والرسوم الجمركية أهم إيرادات الدولة، نجد أن للتواطؤ الكبير فيها نصيباً، ففي إحدى سنوات ما قبل الأزمة،  كانت مساهمة الفساد الجمركي تصل إلى 150 مليار ليرة سورية من مواد مسجلة وأخرى مهربة من حجم الفساد الإجمالي في العام الواحد، ومن المؤكد أن نسبة كبيرة من هذا الفساد لا يتحملها المستوردون فقط وإنما يتقاسمون “الغنائم” مع مجموعة من المنتفعين في جهاز الجمارك، وفي أحيان كثيرة يمنح لعناصر من الجمارك وفي الخفاء “وظائف” كرشوة في مكاتب تخليص جمركي لاستثمار صداقاتهم “وعلاقاتهم العامة” في تسهيل إدخال البضائع دون رسوم تذكر.
 
في العام 2009 مثلاً – ليس لدينا إحصاءات جديدة – وصلت قيمة مستورداتنا إلى 714 مليار ليرة سورية بينما لم تتعدَّ قيمة الرسوم الجمركية المحصلة عليها في العام نفسه 49 مليار ليرة، وهذا الفارق يصل إلى 7% وبما أن وسطي نسبة الرسوم الجمركية في سورية كما تقدرها أرقام الجمارك العامة تصل إلى 13 % أي إن التحصيل الجمركي يجب أن يصل إلى ما يزيد على 100 مليار ليرة سنوياً, فأين ذهبت الـ 51 مليار الباقية.. وماذا عن أرقام التهرب الضريبي وتواطؤ بعض المحاسبين والمستشارين القانونيين الذي يصل إلى مئات مليارات الليرات السورية كيفما أجمعت التقديرات.
 
تهجير
 
“شبكات الفساد” لا تكتفي بالأموال “الكاش” وإنما تتعداها إلى أساليب أخرى مفعمة بالفساد والبعد عن الأخلاقية المهنية وعدم الالتزام “بميثاق شرف المهنة” وخاصة بعد أن تهجّر الكفاءات أو بعض موظفي قطاعنا العام الذي صرف عليها المليارات دون التطرق لأسباب هجرتها, وتقصيره في استقطاب الكفاءات الحقيقية وخروجها للعمل في شركات خاصة تتعارض مصالحها مع المؤسسة التي عمل فيها، حاملاً معه أسرار الأخيرة ليستفيد منها في عمليات المناورة وكسب الأرباح والدخول في مناقصات مستغلاً ثغرات قانونية خبر دهاليزها، ليبقى القطاع العام متخبطاً بمشكلاته الأكثر من أن تُعدَّ بعد أن صرف على تأهيل وتدريب موظفيه الكثير حيث تخصص نسبة 3% من الموازنة العامة لتدريب وتأهيل الكوادر البشرية في القطاع العام يذهب معظمها سدى، ويأتي القطاع الخاص على الباقي عبر استقطاب خبرات وكفاءات المؤسسات العامة في ظاهرة هجرة واضحة، تساعد على نموه وتوسعه على حساب العام حتى إن الأخير يعود للاستعانة بخبرات الخاص في معظم الأحيان وبعقود قانونية، وأحياناً كثيرة لا يتم استقطاب الخبرات بمعيار الكفاءة من الخاص بل يتم انتقاؤها لمعرفتها بعقود ومناقصات الشركة العامة ويكون الشخص الذي وقع عليه الاختيار في موقع يرتبط بمصلحتها.
 
إذا كانت مكونات الفساد وعناصره عديدة ولها أوجه كثيرة فيكفي أن نمسك بتلابيب أكبرها من خلال كشف “العملاء المزدوجين” وتعرية أفعالهم وألا نكتفي بنقلهم أو بعقوبة حسم ونترك الأمر للأخلاقيات وشرف المهنة لأن الحسابات لا تعرف الضمير الحي عند المكاسب.
 
الواقع أننا نعاني من ثغرات في قوانيننا أو ثغرات في التطبيق..فلم نسمع عن “عميل قام بتسريب معلومات من داخل مؤسسة عامة” قد عوقب بالسجن أو أحيل إلى المحاكمة وصدر بحقه حكم من شأنه ردع سواه..كما لم نسمع عن عقوبة السجن لمن يضبط كمتهرّب من دفع الضرائب، رغم أن مثل هذا الارتكاب كفيل برفع الحصانة عن ” أصحاب الحصانات” في كل دول العالم، لإتاحة المجال أمام القضاء لمحاسبتهم.
 
ربما نحتاج إلى تشريعات جديدة – إن كان ثمة ثغرات في بنيتنا القانونية – أو نفض الغبار عنها إن كانت موجودة ومعطّلة، لمحاسبة اللاعبين في المساحات المظلمة في أروقة مؤسساتنا العامة..المهم ألّا نترك هذه الحيثيّة الصغيرة تفسد كل أعمال مؤسساتنا العامة، وتفتح “خواصرها” على نزيف مستمر أرهقها و شتت قواها.
 
 
المصدر:  موقع الخبير السوري