«مـداد» يبحث في اختلالات سوق العمل.. القطاع العام خسر في 6 سنوات من الحرب نحو 179 ألف عاملٍ لديه أي ما نسـبته (16%) من العاملين

«مـداد» يبحث في اختلالات سوق العمل.. القطاع العام خسر في 6 سنوات من الحرب نحو 179 ألف عاملٍ لديه أي ما نسـبته (16%) من العاملين

أخبار سورية

الثلاثاء، ٨ أكتوبر ٢٠١٩

يواجه سوق العمل في الاقتصاد السوري مجموعة كبيرة من المشكلات التي تسبّب نشوء اختلالات في سوق العمل أو تعمّق منها أكثر عبر الزمن، ويمكن النظر إلى هذه المشكلات على أنها مشكلات تراكمية، تراكمت عبر سنوات طويلة.
يضيف الباحث الدكتور أيهم أسد في بحث قدمه «لمداد» مركز دمشق للدراسات والابحاث أن من بين المشكلات المزمنة «ضعف التنسيق بين مؤسسات وبرامج سوق العمل، وعدم وجود استراتيجية أو سياسة لتنظيم سوق العمل بمكوناته كلها، والاعتقاد السائد بأن القطاع العام هو أفضل مكان للعمل من القطاع الخاص، تحديداً للخريجين والنساء، صعوبات البدء بمشروع وبخاصّة الوصول إلى التمويل؛ لأنَّ نحو (55%) من الإقراض يتم للمشاريع التجارية، في حين يتم تقديم (6%) من القروض للاستثمار الصناعي، وغياب برامج تستهدف الخريجين، ومثال ذلك أنه تم تأمين (29.500) فرصة عمل للخريجين في الأمد الواقع بين (2001/2007) في حين إنه تخرج في الأمد نفسه (48.600) طالب، أي إن السوق استوعب (60%) من الخريجين فقط.
ويشير تحليل البيانات الإحصائية طوال الأمد الواقع بين (2001/2017) إلى أن هناك مجموعة من الاختلالات التي عاناها سوق العمل والتي لم تجد لها حلاً حتى الآن بصورة جذرية، تترافق تلك الاختلالات مع تأخر في تطور المؤسسات والسياسات الهادفة إلى تصحيح تلك الاختلالات، أو إلى غياب التنسيق فيما بينها وهو ما ستكشف عنه هذه الدراسة بتحليل البيانات، وانطلاقاً من ذلك التحليل ستقوم الدراسة بتقديم مجموعة من المقترحات التي من الممكن أن تسهم في تصحيح اختلالات سوق العمل في سورية على المديين المتوسط والطويل.
 
أنواع الاختلالات
يحدد د. أسد 4 اختلالات في سوق العمل: البنيويّ ، القطاعي، الجندري، والأجري في سوق العمل، فعند القراءة في الاختلالات البنيوية يعرض د, أسد الواقع طوال سنوات الحرب ويبين أن معدلات البطالة قفزت بشكل كبير جداً إلى مستويات لم يلحظها الاقتصاد السوري من قبل، فطوال الأمد الواقع بين (2013/2017) وصلت معدلات البطالة وبشكل وسطي إلى نحو (37%) من قوة العمل، بفعل نتائج الحرب الاقتصادية والاجتماعية وما أفرزته من تدمير البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية كلها، وتراجع قيمة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة وسطية تقدر بنحو (60%) عما كان عليه عام 2010، وكان أعلى معدل للبطالة في عام 2015، إذ قاربت تلك النسبة نحو (48%) من قوة العمل، فقد أدت الحرب إلى تراجع أعداد المشتغلين في الاقتصاد من نحو (5) ملايين مشتغل عام 2010 إلى نحو (2.6) مليون مشتغل عام 2015، لكن في العام 2017 زاد عدد المشتغلين إلى نحو (3.6) ملايين مشتغل مقارنة مع عام 2015، لكنه بقي أقل بنسبة (28%) عما كان عليه عام 2010 أيضاً، علماً أن البيانات الإحصائية السورية الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء لا تتضمن أي معلومات عن تغيرات قوة العمل في عام 2012، بسبب عدم القيام بتنفيذ مسوحات قوة عمل في ذلك العام.
غير شامل
وتشير البيانات المسحية الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء إلى أنَّ معدل البطالة في عام 2017 قد انخفض إلى نحو (15%) من قوة العمل، علماً أن المسح لم يشمل المحافظات والمناطق التي ما زالت خارج سيطرة الحكومة كمحافظة إدلب وريفها، والمناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد في الشمال والشمال الشرقي لسورية، وأجزاء من ريف حلب، ويمكن تفسير انخفاض ذلك المعدل بعودة الأمان الكامل إلى بعض المحافظات السورية في الأمد الواقع بين (2016/2017) مثل محافظات حلب وحمص ودير الزور وأجزاء كبيرة جداً من محافظة ريف دمشق، وعودة النشاطات الاقتصادية الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة إليها واستيعابها جزءاً من قوة العمل الوافدة إلى السوق أو التي كانت متعطلة سابقاً بشكل كامل أو جزئي من جراء الأزمة، وتالياً زيادة الطلب على العمل مجدداً، ترافق ذلك كله طبعاً مع انخفاض في عرض قوة العمل على مستوى الاقتصاد بنسبة (14%) تقريباً بين عامي (2015/2017).
استنزاف الكادر
كما تشير البيانات الرسمية المنشورة إلى أن عدد العاملين في القطاع العام كله قد وصل في عام 2010 إلى نحو (1.102) مليون عامل، لكن ذلك العدد قد انخفض طوال سنوات الحرب بشكل واضح وبالتدريج ليصل في عام 2017 إلى نحو (921.719) عاملاً، أي إن القطاع العام خسر في 6 سنوات من الحرب نحو (179.719) عاملاً لديه، أي ما نسبته (16%) من العاملين، لأسباب مختلفة كالهجرة الخارجية الشرعية وغير الشرعية لقسم من موظفي ذلك القطاع، والتقاعد الذي طال قسماً منهم من دون التعويض عنه، والاستقالة من الوظائف لبعض الفئات العمرية من الشباب نتيجة طلبهم للخدمة الاحتياطية وعدم التحاقهم بها، واستشهاد عدد من موظفي ذلك القطاع بسبب العمليات الإرهابية التي طالتهم أثناء تأدية أعمالهم، وحالات الخطف التي تعرض لها الكثير من موظفي القطاع العام.
اختلال قطاعي مزمن
ويُعَدُّ الاختلال القطاعي لسوق العمل في الاقتصاد السوري اختلالاً مزمناً أيضاً، فطوال الأمد الواقع بين (2001/2007) سيطر قطاعا الزراعة والخدمات في الاقتصاد على نسبة تتراوح بين (45-52%) من قوة العمل المشتغلة في الاقتصاد، في حين إن بقية قطاعات الاقتصاد الأخرى كالصناعة والتجارة والبناء والتشييد والمال والعقارات والمطاعم والفنادق سيطرت على النسبة المتبقية، كما حدث انخفاض كبير في نسبة المشتغلين في قطاع الزراعة، فقد تراجعت فيه نسبة المشتغلين بشكل وسطي في الأمد الواقع بين (2013/2017) إلى نحو (10%) من إجمالي المشتغلين بعدما كانت بالمتوسط نحو (20%) من المشتغلين في الأمد الواقع بين (2001/2011)؛ بسبب تأثيرات الحرب في قطاع الزراعة بشكل أساس، في الوقت الذي لم تستطع فيه قطاعات الاقتصاد الأخرى استيعاب كميات أكبر من العمالة بسبب تأثرها بالحرب بشكل كبير أيضاً كقطاع الصناعة الذي تضرر كثيراً.
الجندر
يضيف د. أسد أن مؤشرات العمل كلها المتعلقة بالنوع الاجتماعي تميل دائماً لمصلحة الرجال بدلاً من النساء، وإذا بدأنا بقراءة معدل البطالة بين الجنسين، فإننا نجد أن بطالة النساء كانت طوال الأمد الواقع بين (2001/2017) هي الأعلى من بطالة الرجال، فمتوسط معدل بطالة النساء في الأمد الواقع بين (2001/2011) لم ينخفض أبداً عن (24%)، في حين إن متوسط معدل بطالة الرجال طوال الأمد نفسه لم يزد على (7%)، أما في الأمد الواقع بين (2013/2017) فإنَّ متوسط معدل بطالة النساء وصل إلى نحو (52%) في حين وصل معدل بطالة الرجال إلى (31%) ، والواضح تماماً أن النساء هن الأكثر عرضة للبطالة من الرجال، سواء أكان ذلك في حالة الاقتصاد الطبيعيّ، أم في حالة الأزمات والحروب، ويمكن تفسير ذلك بمجموعة من العوامل منها ما هو متعلق بمتوسط حجم قوة العمل النسوية الذي يقل دائماً عن متوسط حجم قوة عمل الرجال في الاقتصاد، فمتوسط حجم قوة عمل النساء في الاقتصاد السوري لم يشكل أكثر من (20%) من إجماليّ حجم قوة العمل طوال الأمد الواقع بين (2001/2017)، أي إنه الأقل دائماً من حيث الكمية، إضافة إلى إقبال الرجال على الكثير من أنماط العمل التي لا تشتغل فيها النساء كأعمال البناء والصناعة الثقيلة والنقل والأعمال والمهن الحرة، من دون إهمال عامل العادات والتقاليد لدى بعض الفئات الاجتماعية التي لا ترى مسوغاً لعمل المرأة خارج منزلها واقتصار دورها على الدور الأمومي فقط، الأمر الذي يقلص من عرض العمل النَّسوي على المدى الطويل في الاقتصاد.
الاختلال الأجري
يُعَدُّ عدم المساواة بين أجور المشتغلين في القطاعات الاقتصادية من الأمور الشائعة في أغلب اقتصادات العالم، ويظهر الاختلال الأجري بين المشتغلين من ناحيتين أساسيتين: الأولى، هي الاختلال الأجري بين المشتغلين في القطاعات الاقتصادية الأساسية (زراعة، صناعة، خدمات)، والثانية هي الاختلال الأجري حسب مكان التشغيل (قطاع عام، قطاع خاص منظم، قطاع خاص غير منظم)، وقد يظهر ذلك الاختلال الأجري حسب النوع الاجتماعي (رجال/ نساء).
وتشير البيانات المنشورة بشأن توزع فئات الرواتب حسب القطاع (عام/خاص/ تعاوني) في عام 2017 إلى أن (1%) من المشتغلين فقط في القطاع العام تزيد أجورهم الشهرية على (65) ألف ليرة، في حين إن (19%) من المشتغلين في القطاع الخاص تزيد أجورهم على هذا الحد، وأن (18%) من المشتغلين في القطاع التعاوني والمشترك تزيد أجورهم عنه، كما نجد أن (50%) من المشتغلين في القطاع العام تقع فئات أجورهم ما بين (35 – 45) ألف ليرة شهرياً، في حين إن(19%) من المشتغلين في القطاع الخاص و(20%) في القطاع التعاوني تتراوح أجورهم عند الحدود الأجرية السابقة.
تصحيح الاختلالات
تتميز سياسات تصحيح اختلالات سوق العمل بأنها سياسات تداخلية تكامليّة فيما بينها، كما يرد في دراسة د. أسد بمعنى أنه لا يمكن فصل تأثيرات ونتائج الواحدة منها عن الأخرى، فسياسة تحديد الحدّ الأدنى للأجور مثلاً كسياسة تصحيح الاختلال الأجري في سوق العمل، هي في جوهرها إجراء قانونيّ، لكن لها نتائج اقتصادية تتمثل في توفير حد أدنى من السيولة لاستمرار تفعيل الطلب الكلي بما يضمن استمرار عمل الجهاز الإنتاجي بشكل أفضل، ولها نتائج اجتماعية تتمثل في توفير ما يسمى أمن الدخل ومنع الانزلاق إلى الفقر المدقع، وذلك عندما تضمن حداً أدنى من الدخل الكافي لتوفير متطلبات العيش الأساسية وتمتص ارتفاع الأسعار، ولها نتائج سياسية تتمثل في المحافظة على مشروعية النظم السياسية والتقليل من الاضطرابات السياسية، وبأن تلك النظم مهتمة بالعمالة وبأمنها الاجتماعي وأنها تضمن حقوقها المادية.
كما إن أي سياسة عمل موجَّهة لتصحيح اختلال سوق العمل الجندري، ستضمن سلسلة متتابعة من النتائج الاجتماعية الأخرى المتمركزة حول النتائج الاقتصادية والاجتماعية لدعم دخول النساء كدعم القدرة على تعلمهن وتعليم أولادهن، ودعمهن من حيث تحسين دخل الأسرة وإنفاقها بشكل عام، ومن حيث اتخاذ قرارات خاصة بهن نتيجة استقلالهن المالي المتحقق من عوائد العمل. وبالنتيجة يمكن القول:
إن أي سياسة تدخلية لتصحيح أحد اختلالات سوق العمل لا بد من أن تكون لها سلسلة تأثيرات اقتصادية واجتماعية متداخلة، ولا بد من أن تنعكس على قطاعات ومتغيرات اقتصادية أخرى.
ولما كان الاختلال البنيوي في سوق العمل يرتبط بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد وقدرته على امتصاص قوة العمل الوافدة للمرة الأولى إليه، أو المتعطلة نتيجة أسباب مختلفة، ولما كانت اختلالات سوق العمل تابعة لاختلالات الهيكل الاقتصادي العام، فإن سياسات تصحيح تلك الاختلال لا بد من أن تنصب أولاً وأخيراً على سياسات الاقتصاد الكلي القطاعية من أجل تحفيز وتنشيط تلك القطاعات لامتصاص عمالة جديدة، مثلما يجب أن تنصب على السياسات التمويلية والتشغيلية المباشرة الداعمة لقوة العمل، وبخاصّة أن المرحلة القادمة في الاقتصاد السوري هي مرحلة تحتاج فيها القطاعات كلها عمالة كثيفة ومن تخصصات علمية ومهنية متنوعة تبعاً لحاجات إعادة البناء، ولتصحيح ذلك الاختلال، وتحديداً لضمان تقليصه إلى الحدود الدنيا له فإن هذه الورقة البحثية تقترح سياسات منها:
-ضرورة وجود «استراتيجية وطنية للتشغيل» يتحدد على أساسها العرض والطلب المتوقعان على العمل مدّة 20 سنة قادمة،
-تطوير أنموذج لـ «برامج العمل العام»، وهي البرامج الحكومية التي تهدف إلى توظيف السكان المحليين في مناطق محددة.
-دعم ابتكار وتطوير نظام معلوماتي غير مركزي لـ «تبادل معلومات فرص العمل» بين مراكز التشغيل الأساسية كالمناطق والمدن الصناعية والشركات الخاصة وغرف الصناعة والتجارة والزراعة في المحافظات.
-تركيز الدَّعم على مديرية مرصد سوق العمل في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبخاصّة فيما تقوم به من ناحية إنشاء وتطوير نظام بيانات سوق العمل (LMIS) بربط جميع الجهات والمؤسسات المعنية بسوق العمل ضمن نظام حاسوبي مؤتمت بالكامل.
-تركيز الجزء الأكبر من الإنفاق الاستثماري المخصص في الموازنة العامة للدولة على أعمال البنى التحتية الأساسية في المدن الصناعية والمناطق الصناعية، وتحديداً فيما يتعلق بإمدادات الكهرباء من أجل ضمان استمرارية عمل متواصلة لتلك المناطق، وضمان استمرار استقطابها يداً عاملة.
-التوسع في إقامة وتنظيم المدن الصناعية في المحافظات السورية كلها على غرار تجارب المدن الصناعية الثلاث حالياً؛ من أجل تنظيم عملية استقطاب العمالة في بقية المحافظات.
-دعم سياسة التوسع في المشروعات الصغيرة والمتوسطة بعامّة في المحافظات السورية كلها، ودعمها أكثر في المحافظات التي كانت أكثر تضرراً من غيرها من جراء الحرب كحلب وريف دمشق ودير الزور ودرعا، ودعم التي تعمل منها في مجال الصناعة أو التي تستقطب يداً عاملة نسوية أكثر من غيرها، بخاصّة تلك المشاريع الصغيرة التي تشغل من (6 إلى 25) عاملاً وتتراوح قيمة موجوداتها بين (5 إلى أقل من 50) مليون ليرة.
-العمل على تشجيع زيادة عدد مؤسسات التمويل الاجتماعي المرخصة على المرسوم التشريعي رقم (15) لعام 2007، إذ لا توجد حتى الآن سوى مؤسستين مرخصتين فقط، وفق أحكام ذلك المرسوم تقدمان خدمات التمويل الصغير والمتناهي الصغر، لما لهذا النمط من التمويل من تأثيرات اقتصادية واجتماعية في شريحة كبيرة من السكان من حيث توفير فرص عمل ودخول منتظمة لهم.
تشرين