بين الموارد والأجور.. إعادة توزيع الثروة تحدٍ يواجه اقتصادنا..«مداد»: حصة العاملين بأجر من الناتج المحلي انخفضت 50%

بين الموارد والأجور.. إعادة توزيع الثروة تحدٍ يواجه اقتصادنا..«مداد»: حصة العاملين بأجر من الناتج المحلي انخفضت 50%

أخبار سورية

الأحد، ٢ يونيو ٢٠١٩

تشرين
إن أقل ما يمكن وصف مقولة: عدم وجود موارد لزيادة الرواتب والأجور «هراء»، فالمشكلة ليست في الموارد، بل في كيفية توزيعها، وكيف يتوزع الناتج المحلي والدخل القومي بين دخول العمل من جهة ودخول رأس المال (الأرباح، الفوائد، الإيجارات) من جهة ثانية. كمثال على هذا يضيف الباحث الاقتصادي الدكتور رسلان خضور في بحث أعده لمركز دمشق للدراسات والأبحاث «مداد» بعنوان: «مشكلة توزيع الثروات والدخول.. تحد يواجه الاقتصاد السوري»
أن أي سلعة، كان ثمنها 1000 ليرة سورية في عام 2010، وأصبح ثمنها الآن 10.000 ليرة ماذا يمثل سعر السلعة المدفوع والبالغ 1000 ليرة؟ عملياً يمثل ما يُدفع لمن أسهم في إنتاج هذه السلعة، أي الأجور والأرباح والفوائد والإيجارات والريوع (بما في ذلك ريوع الفساد).
وأنه قبل الحرب كانت حصة الرواتب والأجور بحدود 300 ليرة من قيمة السلعة، (30% وهذه نسبة متدنية بالأساس)، والباقي يتوزع بين الأرباح والفوائد والإيجارات والريوع ومنها ريوع الفساد، وفي عام 2018 السلعة نفسها التي أصبح سعرها 10000 ليرة يحصل العاملون بأجر من قيمتها على 20% كحدٍّ أقصى، أي ما يعادل 2000 ليرة، وتذهب الـ 8000 ليرة كأرباح وفوائد وإيجارات وريوع فساد، هذا يعني أن الحصة الحقيقية للعاملين بأجر من الناتج المحلي قد انخفضت بمقدار 50% وزادت بالمقابل حصة الأرباح والريوع، فإذا كان الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 بحدود 60 مليار دولار (ما يعادل 2835 مليار ليرة – على أساس سعر صرف 47 ليرة للدولار)، فإن حصة الرواتب والأجور كانت بحدود 18 مليار دولار (ما يعادل 851 مليار ليرة سورية)، وحصة الأرباح وباقي مكونات الدخل بحدود 42 مليار دولار (ما يعادل 1974 مليار ليرة) وإذا كان الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018 يعادل 60% من ناتج 2010، أي بحدود 36 مليار دولار، فإن حصة الرواتب والأجور هي بحدود 7.2 مليارات دولار (ما يعادل 3240 مليار ليرة – على أساس سعر صرف 450 ليرة للدولار)، وحصة الربح وباقي مكونات الدخل هي 28.8 مليار دولار ( 12960 مليار ليرة).
 
أزمات لاحقة
يضيف الباحث أن الاقتصاد السوري يواجه أنواعاً مختلفة من التحديات بعد ثماني سنوات من الحرب، التي يمكن أن تُفضي، بل ستفضي مستقبلاً إلى أزمات وكوارث كبرى، إذا لم تُعالج بشكل منهجي ومبرمج، ولعل أهم تلك التحديات، بل التحدي الأخطر، الذي يواجه الاقتصاد والمجتمع السوري حالياً، وفي مرحلة ما بعد الحرب، هو التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخولٍ هذا التحدي ليس آنياً وليس يسير الحل، لكنه ليس مستعصياً على الحل، وهو خطر محدق يؤسس لكوارث وأزمات، ويؤمّن منصات لأعدائنا كي ينقضّوا بعد عقد، أو عقدين من الزمن ليشعلوا حرباً أخرى، فهيئوا أولادكم وأحفادكم أيها السادة إلى مأساة قادمة، أو لنفعل شيئاً كيلا تقع المأساة، وكيلا تستمر عملية الغزو من الداخل.
إنَّ التفاوت الكبير في التوزيع وعدم الإنصاف يعد واحداً من أهم الأسباب التي تجعل المواطنين أقل ثقة ببعضهم بعضاً، وأقل ثقة بالحكومة، وبالنظام الاقتصادي القائم، وواحداً من معوقات النمو الاقتصادي نحن بحاجة إلى إعادة بناء الثقة بالمؤسسات من جديد، وإحدى قنوات إعادة بناء الثقة هي مسألة الإنصاف في التوزيع .
إن مسألة التوزيع عبر التاريخ هي فعل سياسي، أكثر مما هي نتاج آليات اقتصادية بحتة، والثقة هي مكون أساس من مكونات رأس المال الاجتماعي الذي تصدع بشكل كبير طوال سنوات الحرب الثماني، بفعل تزايد الشرخ بين المجموعات الاقتصادية والاجتماعية وتقلص حجم الطبقة الوسطى وتراجع دورها. لا يمكننا نحن السوريين تحقيق أي أهداف مشتركة من دون استعادة الثقة التي تراجعت طوال السنوات الماضية، ومن شأن هذا التراجع تهديد فعالية السياسات العامة للحكومة، إن تخلخل الثقة وتراجع رأس المال الاجتماعي وتقلُص الطبقة الوسطى، كلّ ذلك لا يؤثر فقط في التماسك الاجتماعي، بل له تأثيرات سلبية جداً في الأداء الاقتصادي.
هناك دراسات عديدة تُفيد بأن أحد أهم أسباب تراجع وتيرة النمو وعدم الاستقرار الاقتصادي هو التفاوت الكبير في التوزيع.
عدم المساواة
لقد روجت بعض النظريات، أمثال نظريات الـ truckle down ونظرية كوزنيتس، لفكرة تقول: إنَّ العدالة في التوزيع والرخاء يتساقطان على الجميع مع الزيادة في معدلات النمو والتقدم في التنمية، إلا أن الوقائع أثبتت أن عدم المساواة وتزايد حدته لا يهبطان بشكل عفوي من السماء إطلاقاً، كما أن الإنصاف والرخاء لا يهبطان بشكل عفوي من السماء أيضاً، وبالتالي فإن معالجة مسألة التفاوت في التوزيع ليس مسؤولية قطاع الأعمال الخاص ولا قطاع الأعمال العام، بل هي مسؤولية السياسات الاقتصادية الحكومية التي يفترض أنها تُترجِم توجهات سياسية وحزبية.
العبء الضريبي
يتساءل د. خضور عما إذا كان سبب تزايد عجز الموازنة لدينا وزيادة الدَّين العام، هو ارتفاع الإنفاق الحكومي؟ أم إن السبب هو تراجع الإيرادات، وتحديداً الإيرادات الضريبية؟
ويرى أن السبب هو انخفاض حصيلة الإيرادات الضريبية، أكثر مما هو بسبب زيادة الإنفاق الحكومي، فالعبء الضريبي لم يتجاوز يوماً 15% من الناتج المحلي الإجمالي. نلاحظ أن العبء الضريبي كان بحدود 10% في السنوات الثلاث السابقة للحرب، وتراجع بشكل كبير طوال سنوات الحرب ليصل إلى نحو 5% في عام 2017، وهذه النسب هي من النسب المنخفضة جداً على المستوى العالمي.
يفرز التفاوت الحاد في توزيع الدخول تفاوتاً كبيراً في توزيع الثروات، والأجور هي التي تتحمل العبء الأكبر من العبء الضريبي واللافت طوال السنوات العشر الماضية هو تزايد نسبة ضرائب الرواتب والأجور من إجمالي الضرائب المباشرة، إذ كانت بحدود 5% طوال السنوات السابقة للحرب، وتزايدت بشكل مطّرد لتصل إلى 20.8% في عام 2017 عملياً، يدفع أصحاب الرواتب والأجور ضريبة تصاعدية حقيقية، في حين تدفع الشركات ضرائب تنازلية وفي أحسن الأحوال مبالغ ثابتة لا علاقة لها بالدخول الحقيقية يبلغ معدل الشريحة الأعلى في ضريبة الرواتب والأجور 22%، في حين يبلغ متوسط معدل الضرائب على الشركات 22%، ويبلغ معدل ضريبة الأرباح للشركات المساهمة 14% هذا هو الحال نظرياً دون التهرب الضريبي، أما في الواقع ومع التهرب الضريبي تصبح معدلات الضرائب على الشركات أقل من معدلات الضرائب على دخل العمل، أي أن ضريبة دخل العمل هي أعلى من ضريبة دخل رأس المال، كون الشركات وأصحاب المهن والحرف هم الأكثر قدرة على التهرب الضريبي.
تعتمد السياسة المالية لدينا على الضرائب غير المباشرة، فقد كانت تشكل بحدود 34% من إجمالي الإيرادات الضريبية في السنوات السابقة للحرب، وازدادت لتصل إلى 58% في 2017 والضرائب غير المباشرة هي ضريبة تنازلية وليست تصاعدية كونها تُفرض على الاستهلاك وليس على الدخل والثروة، وبالتالي فهي تسهم في زيادة الفقر، وبخاصّة عندما تكون حصتها مرتفعة من إجمالي الإيرادات الضريبية.
الأجور والأرباح
يقدّر وسطي الرواتب والأجور في القطاع الحكومي والقطاع العام الاقتصادي بحدود 40 – 45 ألف ليرة شهرياً، ويبلغ الوسطي في القطاع الخاص بحدود 65 – 70 ألف ليرة شهرياً. هناك تراجع مريع في الدخول الحقيقية لأصحاب الرواتب والأجور منذ العام 2011، بالمقابل هناك زيادة حقيقية في دخول الملكيّة وفي الأرباح الحقيقية. تبلغ نسبة العاملين بأجر من إجمالي عدد المشتغلين 66.5%، ونسبة أصحاب الأعمال 3.7% ونسبة العاملين لحسابهم الخاص 29.8 %، أي إنَّ العاملين بأجر يشكلون الغالبية العظمى ممن يُعوّل عليهم شراء السلع والخدمات المُنتجة. عملياً، لا يمكن حل مشكلة نقص الطلب الكليّ بوساطة التفكير في الأسواق الخارجية فقط، فحل هذه المشكلة يجب أن ينطلق من السوق الداخلية السورية، ويمكن أن يلعب التصدير دوراً مساعداً وليس رئيساً. من يقوم بشراء السلع واقتنائها هم العاملون الذين يحصلون على أجر مناسب وليس المباني والآلات والعقارات، وهذا مبدأ جوهري لتحقيق مزيد من النمو. تشكل الأجور في قطاع الأعمال العام (المؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي) بحدود 4% وسطياً من إجمالي بنود الإنفاق الجاري، وتبلغ هذه النسبة في قطاع الأعمال الخاص بحدود 10% فقط. قد يتسبب رفع الأجور في زيادة التكاليف، وبالتالي ارتفاع الأسعار، هذا صحيح ولكن الأجور لا تشكل حالياً سوى 20% من تكاليف السلع والخدمات المنتجة على أبعد تقدير، وسعر أي منتج لا يتضمن الأجور فقط، لذلك حتى إذا زادت الأجور 50%، فهذا يعني أن الأسعار يمكن أن ترتفع بمقدار 10% فقط، هذا يعني سيبقى فائض لدى العاملين بأجر للإنفاق على السلع والخدمات، وهذه الزيادة في الإنفاق هي، التي تنشط عملية الإنتاج ويمكن أن تخلق وظائف جديدة وتزيد معدلات النمو.
لا يساير
إنَّ نمو دخول العاملين بأجر لا يساير نمو الناتج والدخل القومي، إذ إنَّ إنتاج السلع والخدمات ينمو بمعدلات أعلى بكثير من نمو رواتب وأجور العاملين بأجر، وهذا اتجاه عام منذ عقود، وأصبح الفرق أكثر حدة بعد عام 2011، أي مع سنوات الحرب. إنَّ الحرب على العاملين بأجر هي ليست حرباً على هؤلاء فقط، بل حرب على النمو الاقتصادي في الأمدين المتوسط والطويل، وحرب على المجتمع التكافلي وعلى رأس المال الاجتماعي، وعلى أمن المجتمع السوري، فخفض الأجور لن يؤدي إلى المزيد من الرفاهية بالتأكيد، بل إلى المزيد من البؤس للغالبية العظمى من السكان. إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض الأجور لم يعد ميزة جاذبة للاستثمار في زمن التطور التكنولوجي السريع، فانخفاض الأجور إلى مستويات متدنية، يعني كفاءة أقل ومهارات أقل وإنتاجية أقل، وبالتالي يعني أرباحاً أقل في الأمدين المتوسط والطويل على المستوى الجزئي، ومعدلات نمو أقل على مستوى الاقتصاد الكلي.
الثمن الاجتماعي
يتساءل الخبير الاقتصادي د. خضور: ما الثمن الاجتماعي للتفاوت الحاد في التوزيع؟
كل الوقائع تثبت أن للتفاوت الكبير في توزيع الثروات والدخول دوراً مهماً في عدم الاستقرار الاجتماعي. بما أن اللامساواة الاقتصادية في توزيع الثروات والدخول تُترجم عادة على شكل لا مساواة سياسية، ويزداد الوضع سوءاً عند إضعاف الاتحادات العمالية التي تتأثر قدراتها التفاوضية سلباً، ما يفاقم من حدة التفاوت. ومع زيادة حدة التفاوت في التوزيع تزداد هشاشة المجتمع ويتمزق الأمن الاجتماعي، ويفقد مجتمعنا منعته واستقراره بكل تأكيد، بمعنى آخر زيادة حدة التفاوت في التوزيع وتركز الثروات والدخول وانهيار التكافل المجتمعي يقود حتماً لتمزق وتشتّت وحدة المجتمع، ونكون مجتمعاً منقسماً على نفسه وغير مجدٍ حتى اقتصادياً.
يقول د. خضور: تتفاقم أخطار التفاوت الكبير في توزيع الدخول والثروات، عندما يكون المتسبب الرئيس في هذا التفاوت هو تضخم ريوع الفساد وعدم تكافؤ الفرص، وتتجسد الأخطار هنا في فقدان الثقة بالمؤسسات وبالحكومة، وصولاً إلى حالة النضوب الكامل، وأدى إلى زيادة الاستقطاب وعدم الثقة وتراجع التماسك الاجتماعي، والمزيد من النزاعات السياسية. ويتجلى ذلك بمزيد من الهشاشة وعدم الاستقرار المالي، حيث تزداد ثروات ومدخرات الأثرياء، وفي الوقت ذاته يزداد الطلب على الائتمان من قبل الفقراء والطبقة الوسطى.
ومن معدلات الضرائب على دخل العمل، أن ضريبة دخل العمل هي أعلى من ضريبة دخل رأس المال، كون الشركات وأصحاب المهن والحرف هم الأكثر قدرة على التهرب الضريبي.
تعتمد السياسة المالية لدينا على الضرائب غير المباشرة، فقد كانت تشكل بحدود 34% من إجمالي الإيرادات الضريبية في السنوات السابقة للحرب، وازدادت لتصل إلى 58% في 2017 والضرائب غير المباشرة هي ضريبة تنازلية وليست تصاعدية كونها تُفرض على الاستهلاك وليس على الدخل والثروة، وبالتالي فهي تسهم في زيادة الفقر، وبخاصّة عندما تكون حصتها مرتفعة من إجمالي الإيرادات الضريبية.
هناك دراسات عديدة تُفيد بأن أحد أهم أسباب تراجع وتيرة النمو وعدم الاستقرار الاقتصادي هو التفاوت الكبير في التوزيع.
لقد روجت بعض النظريات، أمثال نظريات الـ truckle down ونظرية كوزنيتس ، لفكرة تقول: إنَّ العدالة في التوزيع والرخاء يتساقطان على الجميع مع الزيادة في معدلات النمو والتقدم في التنمية، إلا أن الوقائع أثبتت أن عدم المساواة وتزايد حدته لا يهبطان بشكل عفوي من السماء إطلاقاً، كما أن الإنصاف والرخاء لا يهبطان بشكل عفوي من السماء أيضاً، وبالتالي فإن معالجة مسألة التفاوت في التوزيع ليس مسؤولية قطاع الأعمال الخاص ولا قطاع الأعمال العام، بل هي مسؤولية السياسات الاقتصادية الحكومية التي يفترض أنها تُترجِم توجهات سياسية وحزبية.
هناك دراسات عديدة تُفيد بأن أحد أهم أسباب تراجع وتيرة النمو وعدم الاستقرار الاقتصادي هو التفاوت الكبير في التوزيع.
لقد أدت الحرب والحصار والإجراءات القسرية أحادية الجانب إلى تزايد نسبة الفقر وتراجع حجم الطبقة الوسطى في سورية لكن ليس سبب ذلك هو الحرب وحدها. سأنطلق في هذه الدراسة من فرضيّةٍ تقول: إنَّ مشكلتنا في الاقتصاد هي ليست مشكلة تراجع الإنتاج والدخول بسبب الحرب، وهي ليست مشكلة ندرة في الموارد فقط، بل هي مشكلة في التوزيع، ومشكلة في كيفية استخدام ما هو متاح من موارد.