بعد تفشي إدمان «الشعلة» بين الأطفال..هل يصحو المعنيون من سكرتهم

بعد تفشي إدمان «الشعلة» بين الأطفال..هل يصحو المعنيون من سكرتهم

أخبار سورية

الأربعاء، ٨ مايو ٢٠١٩

منال صافي:
إدمان شم «الشعلة», تلك الظاهرة التي انتشرت خلال فترة الحرب على سورية بين صفوف الأطفال المتسولين، وربما هناك كثيرون لم يكونوا يعلمون بوجودها لولا ما نشرته بعض مواقع التواصل الاجتماعي عن أطفال مشردين يمارسون هذا النوع من الإدمان بين الفينة والأخرى، لتنفجر الأمور بعد انتشار مقطع فيديو الفتاة التي سقطت في نهر بردى منتشية من الكمية الكبيرة التي قامت بشمها، الأمر الذي أثار ضجة كبرى ووضع الجهات المعنية أمام استحقاق كبير لكبح هذه الظاهرة المهلكة للطفولة وخطورة انتشارها.
هنا نحاول تسليط الضوء على الآليات والأساليب التي تعاملت بها الجهات المعنية لقمع هذه الظاهرة وحلها من جذورها.
 
حديث الناس
تقول رنا: لم أعرف أنها موجودة أساساً، إلا من خلال الأفلام المصرية التي كنّا نشاهدها، ويقال بالعامية «الولد بيضرب كولة» ولم يخطر في بالي أبداً أنها ستصل إلينا.
أما حسان المصري ويعمل في مجال القانون فيؤكد أن هذه الظاهرة قديمة ولكن القانون لا يعاقب عليها لكون العقوبة مقتصرة على بعض المواد المذكورة والمحددة ضمن جدول المخدرات فقط، وأنه تم توقيف العديد من الأشخاص الذين يدمنون شم هذه المادة، ولكن يتم إطلاق سراحهم مباشرة أمام القضاء، لكونه لا يوجد نص صريح يجرّم استنشاقها، مبيناً أن الموضوع بحاجة إلى علاج طبي وليس عقابياً.
أما عزيز دربول وهو مدرس لمادة الفلسفة فيؤكد ضرورة الحرص في التعاطي إعلامياً -عبر مواقع التواصل- مع هذه الظاهرة، وعدم التطرق للحديث عن طرق التعاطي، لأن الأطفال والمراهقين يتابعون مواقع التواصل، وربما من لا يعلم ومن لا يعرف يريد أن يجرب، لذلك فالأمر حساس وبحاجة إلى وعي ومسؤولية والتنبيه للمخاطر والتحذير.
دمار حتمي
تشرح الدكتورة ماجدة الحمصي- رئيسة دائرة المخدرات في وزارة الصحة ماهية هذه المادة وتركيبتها قائلة: الشعلة اسم تجاري لمادة كيميائية سامة تنتمي إلى مجموعة المذيبات العضوية الطيارة (الغراء) وتستخدم في عمليات اللصق وهي غرض صناعي بحت وليس لها أي علاقة بتعاطي الإنسان، ولكن مع سوء التصرف وقلة الإدراك يتحول الأمر إلى إدمان وهذا سلوك شديد الخطورة على صحة الإنسان ويتمثل في الرغبة الشديدة بشم هذه المادة، فتحدث تنبهات للمخ، ما يولّد شعوراً بالنشوة يصاحبها إحساس بالدوار الخفيف فيستمر الإحساس مابين 12-45 دقيقة ويعتمد على كمية المادة المستنشقة، ويمكن إطالتها إذا استمر الشخص بالاستنشاق.
وعن تأثير هذه المادة على الصحة بينت أنه بداية الأمر يشعر الشخص بالنشاط والانتعاش، ثم يبدأ بفقدان قدرته على التوازن ويبدأ بالترنح أثناء السير يرافقه اختلال وتضارب بالأفكار والآراء، وقد يحدث اضطراب في الألوان والرؤية وعدم تمييز الأصوات نتيجة بعض الهلوسات السمعية والبصرية الشديدة، ويتخيل أشياء مسموعة ومرئية غير موجودة وسط معاناة صحية شديدة لما خلفه من مخاطر مهلكة قد تودي بحياته إلى الدمار الحتمي في سنوات قليلة وربما أشهر.
وأوضحت أن هذه المادة كغيرها من إدمان أي نوع من أنواع المواد الكيميائية الطيارة السامة تسبب تدميراً سريعاً جداً للدماغ، وتدميراً مباشراً لخلايا المخ، كما تتسبب بشكل مباشر في التهابات خطيرة في الجلد والسعال الشديد، وكذلك آلام شديدة في الرأس وتخرش في العيون والأنف والحلق وفقدان الوعي، لافتة إلى أن شمّ كمية كبيرة من الغراء قد يؤدي إلى الوفاة الفورية وتدمير كامل الجهاز التنفسي ويتسبب في أزمات تنفسية حادة قد تؤدي إلى الوفاة الحتمية.
برنامج العلاج
الغريب في الأمر أنه رغم انتشار هذه الظاهرة بين الأطفال المتسولين، وباعتراف المعنيين، غير أنه وحسب الدكتورة حمصي، لم يرد لمشافي وزارة الصحة أي حالة إسعافية أو للعلاج، كما أنه لم يتم استقبال حالات إدمان لمادة «الشعلة» في المشافي المخصصة بعلاج.
وترى أن علاج الإدمان من هذه المواد يبدأ بملاحظة هؤلاء الأشخاص، حيث تظهر عليهم علامات مثل رائحة هذه المواد على الفم تترافق بالخمول المستمر وعدم التركيز، ووجود طفح جلدي حول الفم وأعراض تنفسية قد تكون حادة.
ونوهت بأن الاكتشاف المبكر لإدمان هذه المواد التي تؤثر بصورة مباشرة في المخ يسهم بشكل كبير في نجاح مسيرة العلاج والتغلب مبكراً على مخاطره، حيث يجب نقل المصاب من دون تردد إلى المراكز الطبية المؤهلة لعلاج الإدمان، وإخضاع المدمن لبرنامج علاجي متكامل يشمل العلاج النفسي والجسدي حتى لا يتعرض المريض لخطر الانتكاس والعودة مرة أخرى لمنزلق الإدمان.
برامج توعية
وبخصوص الدور الملقى على عاتق الوزارة وتدابيرها للحد من هذه الظاهرة أشارت إلى أن وزارة الصحة تقوم بالعديد من الإجراءات والتدابير، كتوعية الأطفال في المدارس من خلال عضويتها في اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات كذلك اللجنة الإعلامية المنبثقة عنها، فقد أطلقت مشروع «حمايتي» الذي يهدف إلى رعاية الشباب وحمايتهم سواء كانوا من طلاب المدارس أو الجامعات من آفة المخدرات، وذلك من خلال التوعية وفق خطط عملية وبرامج علمية مدرسية بعيدة عن التنظير وبالتعاون مع الأسرة والمدرسة والجامعة ومن خلال مؤسسات الدولة والمجتمع التي لها الدور الأكبر والأكثر فعالية.
وتابعت حمصي: إن أهم أهداف المشروع الحد من انتشار ظاهرة التعاطي، وتحصين المجتمع الطلابي من أخطاره، وتقديم سبل العلاج وتحسين طرق التعامل مع المتعاطين لعودتهم أصحاء وإعادة دمجهم بالمجتمع، وأنه تم إنتاج الفيلم الإعلاني القصير الأول «حمايتي» كبداية لأعمالنا وبانتظار عرضه على القنوات الفضائية لإيصال رسالة توعية إلى الطلبة، كما أننا بدأنا بتأهيل الكوادر التي ستقوم بحملات توعية لاحقاً في المدارس والجامعات، وأصدرنا بعض «البروشورات» التي ستوزع في المطاعم وندوات الجامعة لتصل لأكبر عدد ممكن من الطلاب، وتتضمن رسائل توعية وأرقام هواتف لخدمة الطلاب وسهولة تواصلهم مع الفرق المختصة بالرعاية النفسية والصحية وبسرية تامة تضمن لهم الأمان.
خاطبنا الوزارات
تقر وزارة الشؤون الاجتماعية أن مكافحة إدمان شم «الشعلة» لدى الأطفال ليس مسؤوليتها فقط، بل بتكاتف جهود كل الجهات المعنية وفي هذا الإطار تقول ميساء ميداني- مديرة مديرية الخدمات في الوزارة: خاطبنا وزارة الإعلام من أجل إقامة حملة إعلامية للتأكيد على خطورة هذه الظاهرة على كل المستويات ووزارة الصحة لدراسة إمكانية تزويد النقاط الطبية الموجودة بمعاهد الوزارة بكادر طبي متخصص بمعالجة الإدمان لتسهيل معالجة تلك الظاهرة داخلياً، ومن دون الاضطرار إلى نقل الحالات إلى المشافي الأخرى، كما خاطبنا وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لدراسة ضبط تداول هذه المادة في الأسواق، وعدم بيعها للقاصرين أسوة بالسجائر إلا في مكاتب القرطاسية المدرسية وبعبوات صغيرة.
وتضيف: قامت الوزارة بمخاطبة وزارة الصناعة لمعرفة إمكانية تغيير مواصفات الرائحة في هذه المادة، أو إيجاد حل بديل للمادة المضرة الداخلة في التركيب، مشيرة إلى أنه سيتم عـقــد اجـتـمــاع لـكـل مـن وزارة الـتـجـارة الـداخـلـيــة وحـمـايــة الـمـسـتـهـلـك ووزارة الـداخـلـيــة فـي وزارة الشؤون لبـحـث إمكانية مــعــالــجــة هــذه الـظــاهــرة.
مراحل العلاج
وبيّنت ميداني أنها تعالج هذه الظاهرة في المعاهد التابعة لها من خلال التعاون بين إدارة المعاهد والجمعيات الأهلية للقيام بندوات توعية عن المواد المخدرة ومخاطرها على المجتمع والفرد، ويتم ذلك بأسلوب تفاعلي، كما يتم دعم هذه الندوات بأنشطة مختلفة: (رياضية- فنية – ترفيهية).
و يتم التأكيد على عدم إدخال المواد المخدرة إلى المعاهد التابعة للوزارة سواء من قبل الأحداث أو الأطفال المتسولين، أو من قبل ذويهم أثناء الزيارات ولذلك يتم تفتيش الداخلين إلى المعاهد بشكل دقيق منعاً من إدخال أي مواد مخدرة ويتم إجراء دراسة اجتماعية ونفسية للحالة فور دخولها المعهد، وفي حال تبين وجود حالات إدمان تتم المعالجة على عدة مراحل، ففي المرحلة الإدارية يتم الاطلاع على الحالة ومن ثم اتخاذ إجراءات أولية منها منع دخول هذه المواد إلى حرم المعهد، ومن ثم يتم تحويل الأحداث الذين لهم سابقة بمثل هذه الحالات إلى الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين، حيث يتم متابعة الحالة واتخاذ تدابير, منها وقائي وآخر علاجي.
أما في مرحلة الدعم النـفـــســي فتتم متابعة حالة المدمن من الناحية النفسية من خلال جلسات إرشاد نفسي فردية ومن خلال إدماج الحدث بأنشطة رياضية وثقافية وفنية متنوعة.
ويتم خلال الجلسات التعرف على الأسباب التي أدت للإدمان، ومحاولة معالجة تلك الأسباب، وأحياناً يكون العمل من خلال التواصل مع ذوي الحالة.
بينما في المرحلة الطبية وفي حال كانت الحالة متقدمة وتستدعي تدخلاً طبياً تتم إحالتها إلى المراكز الطبية المتخصصة التابعة لوزارة الصحة، حيث لا تتوافر في معاهد الوزارة بشكل عام خدمات علاجية لمثل هذه الحالات، لافتة إلى أن هذا ما يجعل التدخل في حالات الإدمان من قبل معاهدنا تنحصر بنطاق ضيق يقتصر على التوعية والإرشاد لا أكثر.
ولفتت ميداني إلى أن الوزارة تتبع علاجاً يتمثل في حـل المشكلات عن طريق التعرف على المشكلات العائلية الموجودة لديهم، ومحاولة إيجاد الحلول المناسبة والعديدة لحلها والتوصل إلى الحل المناسب، باستخدام تقنية العصف الذهني والحديث عن أصدقاء السوء, في حال تبين أنهم سبب البدء في سلوك شم «الشعلة» واستخدام الأمثلة الواقعية والتخيلية واستخدام الحوار السقراطي لضمان توصيل الفكرة تماماً، والتعرف على طموحاتهم وماذا يريدون وبيان خطورة أن شم «الشعلة» سوف يمنعهم من تحقيق طموحاتهم، والبحث عن محيط داعم يساعدهم في الإقلاع عن هذا السلوك واستخدام تقنية الواجب المنزلي لشغل الحالة، وإبعادها عن هذا السلوك وفي بعض الحالات التي تحتاج تدخلاً دوائياً، حيث يتم عرض الحالة على الطبيب المختص لوصف العلاج المناسب ويقوم المعهد بالإشراف على متابعة العلاج.
خطة شاملة
بدوره الدكتور أحمد بكر- اختصاصي نفسي وتربوي أكد أن هناك مواد أخرى غير «الشعلة» يمكن للطفل أن يدمن رائحتها كأنواع الوقود «التنر والبنزين» ومواد التنظيف والطلاء وغيرها، وهي في متناول أيديهم ورخيصة الثمن.
وأشار إلى أن هذه الظاهرة وليدة الحرب على سورية حصراً، ولم نشاهدها سابقاً، إذ انتشرت نتيجة تفكك الأسرة، وانعدام رقابتها وأصدقاء السوء وتدني المستوى الاقتصادي، إضافة إلى تسرب أعداد كبيرة من الأطفال من المدارس, ما جعلهم عرضة للشارع والفراغ، فلو كان لدى هؤلاء الأطفال الكفاية المالية فسيلجؤون حتماً «للهيروئين».
وطالب المدارس التابعة لوزارة التربية بمراقبة سلوك الطلاب ونشر الوعي لمخاطر هذه المواد السامة، مبيناً أنه قبل الأزمة كان عدد طلاب الصف الواحد لا يزيد على الـ 20 طالباً، وكان من السهل للمدرس أن يلاحظ أي تغيير في سلوك الطلاب مع هذا العدد، بينما نتيجة الأزمة وما لحقها من تهجير قسري قد يصل عدد الطلاب إلى /60/ طالباً، وبهذا العدد يصعب على المعلم متابعة جميع الطلبة.
وأشار بكر إلى أنه لا توجد إحصاءات دقيقة عن الأعداد الحقيقية لمتعاطي هذه المواد، غير أن هناك شكاوى ترد من إدارات المدارس إلى وزارة التربية بشأن تعاطي بعض الطلاب وإدمانهم لهذه المواد، وحالتهم السيئة، وبأن أغلبيتهم من أسر مفككة، وتتساءل الإدارات عن آلية التعامل مع هذه النماذج وطريقة مساعدتها؟!.
وشدد على أن الطفل لا يدرك خطورة هذه المواد ويجب أن يكون هناك خطة شاملة، فالخوف كبير من تفاقم هذه الظاهرة وعلينا جميعاً أن نتحمل المسؤولية, إذ يجب ألا تباع هذه المواد إلا وفق فواتير نظامية، وأن يتم تدوين عنوان الطفل للمراقبة والتأكد من صحة استخدامها.
وعلى الأهل تشديد الرقابة والتوعية، كذلك على خطباء المساجد نشر التحذير، لأنها مواد سامة ومؤذية للصحة، وكذلك على الإعلام ووزارة التربية والتعليم العالي أيضاً أن تأخذ دورها بعقد الندوات ونشر الدراسات عن الآثار الكارثية لهذه الظاهرة على الفرد والمجتمع، وكذلك يجب سن قوانين تجرم تعاطي هذه المواد, فوفقاً للقانون السوري لا تندرج هذه المواد تحت بند مواد مخدرة، لذلك لا توجد عقوبة على تعاطيها، وطالب وزارة الشؤون الاجتماعية بضرورة الإقرار والمكاشفة بوجود هذه الظاهرة، بهدف نشر الوعي والتحذير, فالتعتيم بحجة عدم شد انتباه بقية الأطفال إليها أمر غير مقنع ويزيد الأمر سوءاً.
من الجذور
الحلول الورقية والاجتماعات التنسيقية وبرامج التوعية ومخاطبة كل الجهات المعنية للاستنفار وتحمل مسؤولياتها تجاه هذه الظاهرة التي تفتك بالطفولة كلها أمور مهمة، ولكنها لا تكفي أبداً، فالحل الأنجع هو مكافحة ظاهرة التسول من جذورها لكونها السبب الرئيس لتعرض هؤلاء لمنزلقات اجتماعية وصحية وأخلاقية خطيرة.
تشرين