الشاعر والأديب السوري محمد الفراتي «1890 – 1978م»

الشاعر والأديب السوري محمد الفراتي «1890 – 1978م»

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ١٤ أبريل ٢٠١٥

ولدَ «محمد بن عطا الله بن محمود العبود» الشهيرُ بـ«الفراتي» في ديرِ الزور، وقد تضاربت الرواياتُ حولَ تاريخِ ولادته، فقد قيلَ - وهو المرجَّح - أنها كانت عامَ 1890م كما قيلَ أيضاً: عام 1880م وعام 1870م.
 
كانَ أبوهُ فقيراً يعملُ حجَّاراً، وقد فقدَ أمَّهُ وهو صغير، وقد بدأت رحلتهُ مع الحرف والكلمة في كتاتيب دير الزور؛ على يدِ شيوخِها وبالأخصِّ منهم شيخهُ حسين الأزهري؛ الذي واكبهُ سنواتٍ ثلاثاً؛ ليلتحقَ بعدهُ بشيخٍ مغربي، نَهلَ مِنهُ قِسطاً غيرَ قليلٍ مِنَ العلومِ الشرعيةِ والعربيةِ باللغتينِ العربيةِ والتركية.
 
من حلب  إلى الأزهر
انتقلَ محمد الفراتي عام 1908م  إلى مدرسةِ «العريان» في حلب، ليستكملَ فيها علومَ اللغةِ العربيةِ والدين والمنطقِ والفقهِ والحديث، على يدِ عددٍ من شيوخِها البارزين ومنهم: «بشير الغزي ومحمد الزرقا» لينتقلَ عام 1911م  إلى جامعةِ «الأزهرِ الشريف» في مصر؛ حيثُ أخذ ينهلُ من شيوخِها أمثال: «سيد علي المرصفي، وسليم البشري، ويحيى الخليلي» حتى تخرُّجِهِ في العام 1914م مجازاً بالإفتاءِ والتشريع.
زمالةُ الدراسة في «الأزهرِ الشريف» جَمَعَت بينَ الفراتي والأديبين: طه حسين، وزكي المبارك وسواهما؛ كما تعرَّفَ في مقاهي «خان الخليلي» وبخاصةٍ: مقهى العجمي  إلى شعراءِ العربيةِ الكبار ومنهم: أحمد شوقي وحافظ ابراهيم من مصر، وخليل مطران «شاعر القطرين» من لبنان، وعبد المحسن الكاظمي من العراق، وقد شَهِدَت هذهِ المرحلةُ انبثاقَ شاعريتهِ وتوهّجِها؛ حتى صارَ الشاعر أحمد شوقي يناديهِ:
«الشاعر الفراتي» وكانت باكورةُ قصائدهِ؛ قصيدة نابضة بالشوقِ والحنين؛ أرسلها يومئذٍ  إلى والدهِ في دير الزور، والتي نقرأُ مِنها قولهُ:
فَبلِّغ يا نسيمَ الصُبحِ عنّي
 إلى من بالفراتِ ثووا سلامي
عَهِدتُ بهِ أوانِسَ راتِعاتٍ
 يُصارِعنَ الهوى بينَ الخيامِ
 
الفراتي توهجٌ وطني وقومي
نشأ الفراتي في أسرةٍ وطنيةٍ، ومجتمعٍ عربيٍّ أصيل، فشُغِفَ بالقوميةِ العربيةِ؛ وكانَ انتماؤهُ الفطري  إلى تيارِ العروبةِ التنويري، انتماءً إيمانياً، وهذا ما انعكسَ إبداعاً صادقاً تبدَّت في ثناياه صورةُ الفراتي: المناضلِ الوطنيِّ القوميِّ العنيد، المشغولُ أبداً باستعادةِ مكانةِ أمتِهِ العربيةِ بينَ الأمم، وحلمهِ بتحقيقِ الوحدةِ العربيةِ وهو القائِل:
وحدةُ العربِ والأماني عِذَابُ
هي كلُّ المُنى وكلُّ المراد
هي بالقلبِ في السويداءِ منهُ
 وهي بالعينِ في مكانِ السواد
شاركَ الفراتي في الثورةِ العربيةِ الكُبرى عامَ 1916م حيثُ انضمَّ  إلى جيشِ الملك فيصل بن الحسين، الذي عيَّنَهُ مُفتياً لجيشه.
عام 1921م تزوَّجَ الفراتي من «عائشة حمد العبد الله» وكانت ثمرةُ هذا الزواجِ سبعةُ أبناءٍ؛ توفّي في حياتهِ إثنانِ منهم: قاسم وزهير، وبقي خمسةٌ: خالد وتحسين وآصف وفاروق وطارق، وابنتان هما: زهرة وروضة، ومِن أحفادهِ المعروفين: رعد آصف الفراتي، الذي ورِثَ هو وأبوه موهبةَ الفنِّ التشكيلي عنِ الفراتي.
إن المتأمِّلَ في تجربةِ الفراتي الطويلة والغنية؛ لا بد لهُ أن يستدِّلَ بوضوحٍ على توهُّجِ شعورهِ الوطني والقومي؛ إضافة  إلى تجذُّرِ هويتهِ الفكرية وعلاقتهِ الوشيجةِ بالتراث.
 
تسريحهُ وسفرهُ  إلى العراق
آثرَ الفراتي العملَ في تدريسِ اللغةِ العربية والتربيةِ الإسلامية والجغرافيا؛ واتخذ من ذلكَ وسيلةً لتوصيلِ أفكارِهِ  إلى طلبتهِ، وبسبب مشاركتهِ في الثورةِ السوريةِ الكبرى؛ ضيَّقت سلطاتِ الانتدابِ الفرنسي الخناقَ عليهِ؛ وسرَّحتهُ مِن وظيفتهِ، فسافرَ  إلى العراق عامَ 1925م ومِن هناكَ خاطبَ قائدَ الثورةِ السوريةِ المجاهد سلطان باشا الأطرش؛ عبرَ قصيدةٍ رائعةٍ، رثى فيها المجاهد أحمد مريود، طالِباً مِنَ المجاهِدِ الأطرش المضيَّ قُدُماً بالثورةِ حتى تحقيقِ الاستقلال قائلاً:
سلطانُ لا توهِن قواكَ جموعُهُم 
فلقد عَهِدتُكَ في الخطوبِ صليبا
دافِع  إلى أن يمنحوكَ مطالِباً 
 تُحيي بِلادكَ أو تموتَ نجيبا
في العراق؛ اتصلَ الفراتي بالملك فيصل بن الحسين؛ ووزيرهِ الأول وزيرُ التربية ساطع الحصري، وعادَ  إلى تدريسِ اللغةِ العربيةِ لمدة سنتينِ في بغداد، وهناكَ التقى أيضاً شعراءِ العراقِ المعروفين ومنهم: جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي.
من العراق؛ سافرَ الفراتي  إلى البحرين التي أمضى في ربوعِها سنواتٍ ثلاثاً، عادَ بعدها  إلى دير الزور، ومنها  إلى دمشق؛ التي استقرَّ فيها مُعلماً ينصرفُ في ساعاتِ فراغهِ  إلى الجلوسِ في مقهى الحجاز الذي عُرِفَ بهِ كما عُرِفَ قبلاً بمقهى المصبغة في بغداد، وفيهِ كانَ يلتقي مُبدعي العراق وهو القائِل:
لي غدوٌ للمقاهي  رغمَ أنفي ورواحُ
ليتها تُمسي هباءً  بل وتذروها الرياحُ
 
الفراتي: مؤلفات كثيرة غنية ومهمة.. ومنوَّعة
أنجزَ الفراتي مؤلَّفات كثيرة: «العواصف» وهو باقةٌ مِنَ الشعرِ الوطني والقومي و«النفحات» حيثُ الشعرُ الوصفيُّ الوجداني و«أروعُ القصص» بما يضمُّهُ من قَصصٍ أخلاقيٍّ وحكمي وأمثالي و«الهواجس» بأجواءِ الشعرِ الفلسفي والصوفي و«سبحاتِ الخيال» حيثُ شعرُ ما وراءِ الطبيعة وديوان «صدى الفرات » الذي يعرِضُ حوادثَ مرَّت بوادي الفرات.
إبداعُ الفراتي لم يقتصِر على التأليف، بل تعدَّاهُ  إلى الترجمة، خاصةً منَ اللغةِ الفارسيّة، فقد شَهِدَت المرحلةُ الأخيرةُ مِن حياتِهِ تَرْكَهُ للتعليمِ منصرِفاً عنهُ  إلى الترجمةِ  إلى العربية، بتكليفٍ من وزيرِ الثقافةِ يومذاك الدكتور أمجد الطرابلسي؛ الذي عيَّنَهُ في قسمِ الترجمةِ بالوزارة عام 1959م وبقي فيه حتى عام 1974م.
عكفَ الفراتي على تعلُّمِ اللغةِ الفارسية حتى أتقنها، وكانَ يتقنُ التركيةَ من قبل؛ فترجمَ خلالَ أربعة عشرَ عاماً: «روضةُ الورد والبُستان» لـسعدي الشيرازي، و«روائع الشعرِ الفارسي، ألفُ بيتِ شعرٍ» لبندر العطار، و«روائعُ شعر عُمر الخيام، وحيُ تبريز ومعجم فارسي» كما ترجمَ عن الفرنسية: «روائع شعر لامارتين».
 
المرسوم التشريعي رقم «1048»
أُعفي محمد الفراتي من عملهِ فعادَ  إلى دير الزور وفي «15 حزيران 1976م» أصدرَ الرئيس حافظ الأسد المرسومَ التشريعي رقم «1048» الذي منحَ فيهِ الشاعر والأديب محمد الفراتي راتباً تقاعدياً استثنائياً؛ فقال الفراتي يومها: «الحمد لله أنني وجدتُ في هذهِ الدنيا من يهتم بأمري؛ وحظيتُ برعايةِ هذا القائدِ البطل» ثمَّ أرسلَ إليهِ برقيةَ شكرٍ شعريَّةٍ في ثلاث أبياتٍ شعرية كانَ أولها:
أزفُّ أخلصَ شكرٍ لا مراءَ بهِ  
إلى الرئيسِ المفدى حافظِ الأسدِ
 
قبل الختام
لقد كُتِبَت عن الشاعر والأديب محمد الفراتي مئاتُ الكتبِ والدراساتِ ورسائلُ الماجستير والدكتوراه، وإن كانت رحلتُهُ الحافِلةُ بالإبداع وصلت خاتِمتَها في «17 حزيران 1978م» فقد فتحَ رحيلهُ بابَ وجوبِ إعادة نشرِ مؤلفاتِهِ الكثيرةِ والمهمة، من المؤسساتٍ الوطنيةٍ السوريةِ المعنيةِ بالفكرِ والإبداع، كي تتسنى لأجيالنا المتعاقبة فرصةُ الاطلاعِ على سيرةِ واحدٍ من أهمِّ مبدعي سورية والوطن العربي، وإمكانية الاستفادةِ من مؤلفاتهِ القيِّمةِ والغنيةِ.