محمود ياسين

محمود ياسين

نجم الأسبوع

الخميس، ١٥ أكتوبر ٢٠٢٠

شكّل ظاهرة استثنائية في تاريخ السينما المصرية خلال حقبة السبعينيات التي حفلت بالتناقضات والـ«اكسترافاغنزا» في كلّ شيء! بعد مشاركته في حوالى 140 فيلماً، غير المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات والأعمال الإذاعية، رحل محمود يس بالأمس. أغمض عينيه بعدما شكّل ظاهرة طبعت حقبة كاملة في هوليوود الشرق، بلونه الأسمر المميز، وتصفيفة شعره، وسوالفه العريضة، وأدائه المتنوّع
 بعد معاناة لسنوات من مرض الألزهايمر، وتدهور عام في صحته خلال الأشهر الماضية، رحل بالأمس واحد من أشهر الممثلين في تاريخ السينما المصرية وأكثرهم إنتاجاً، وهو النجم محمود ياسين (1941- 2020). شكل محمود يس ظاهرة استثنائية في تاريخ السينما المصرية خلال سبعينيات القرن الماضي، التي كان نجمها الأول بلا منازع. عندما يستدعي المرء سينما السبعينيات في مصر، بل عندما يفكر في فترة السبعينيات بشكل عام، لا بدّ من أن يطل وجه محمود ياسين بين صور هذه الفترة، بلونه الأسمر المميز، وتصفيفة شعر رأسه الطويل، وسوالفه العريضة، وتلك السراويل «الشارلستون» الضيقة عند الخصر، الواسعة عند القدم، التي تغطي الحذاء وتكاد تلامس الأرض، وتلك القمصان الضيقة ذات الياقات العملاقة، المفتوحة دائماً لتبرز شعر صدره الغزير.
لا أعتقد أن هناك ممثلاً عبّر عن حقبة كاملة مثلما عبّر محمود ياسين عن سنوات السبعينيات، كما لو أنه خُلق من أجلها، أو كأنه التجسيد البشري لهذه الحقبة التي حفلت بالتناقضات والـ«اكسترافاغنزا» (الغرابة والمبالغة) في كلّ شيء!
من قلب العاصفة، وُلدت ظاهرة محمود ياسين في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، ليتحوّل خلال سنوات معدودة إلى نجم الشباك الأول، ومعبود الفتيات الأول، ونموذج الفحولة الأول، ونموذج البطل الوطني الأول، في عشرات وعشرات الأفلام التي أغرقت حقبة السبعينيات.
من قلب قرار تأميم قناة السويس الذي أعلنه عبد الناصر في عام 1956 والعدوان الثلاثي الذي أعقبه، والانتصار الرمزي الذي انتهى به العدوان، ومن قلب الهزيمة المدوية التي جاءت بعد عشر سنوات في عام 1967 وأجبرت سكان مدينته على تركها والهجرة إلى القاهرة وبعض المدن الأخرى... هذه السنوات العصيبة التي عاش خلالها طفولته وصباه، أسهمت في تكوين شخصيّته وذاكرته كممثل.
ولد ياسين عام 1941 في مدينة بور سعيد أكبر وأجمل مدن قناة السويس آنذاك. تأثّر ببيئة كوسموبوليتانية تمتزج فيها الأعراق والجنسيات واللغات، وبأسرة تحبّ الفن والثقافة والتمثيل، وقد عشق القراءة والتمثيل منذ صغره، وشارك في عدد من أعمال الهواة، قبل أن يذهب إلى القاهرة ليدرس القانون في «جامعة عين شمس» في نهاية الخمسينيات. قاده شغفه بالتمثيل الذي بدت بوادره في بور سعيد إلى عالم المسرح، فتقدّم لاختبارات التمثيل في المسرح القومي، حيث لفت الأنظار بصوته الرخيم وقوامه الفارع وملامحه المصرية. وسرعان ما عُهد إليه بأدوار وبطولات في أعمال مسرحية بارزة لكبار كتاب ومخرجي هذه الفترة. وترك مهنة المحاماة ليتفرّغ للمسرح، ومن المسرح التقطه عدد من مخرجي السينما ومنهم صلاح أبو سيف الذي عهد إليه بدور في فيلمه «القضية 68»، الذي عُرض في العام التالي مباشرة لهزيمة 1967، وحمل نقداً لاذعاً للنظام المسؤول عن انهيار بنية مصر. ومن «القضية 68»، التقطه المنتج رمسيس نجيب ليُعهد إليه بأول بطولة أمام النجمة شادية في فيلم «نحن لا نزرع الشوك» (1970)، ويعقبه ببطولة «الخيط الرفيع» (1971) أمام «سيدة الشاشة» فاتن حمامة التي عادت به إلى السينما بعد انقطاع دام سبع سنوات، لأسباب معروفة، ذات دلالة، على التغيّر السياسي الذي أعقب نهاية نظام عبد الناصر وتولّي السادات، وما أعقبه من تحوّلات وانقلابات وتناقضات هائلة.
ربما ليس من قبيل المصادفة أن تلتقي موهبة محمود ياسين مع أفلام «المقاومة» والنقد السياسي التي أعقبت الهزيمة، ولا أن يلعب ياسين بطولة اثنين من أصل ثلاثة أفلام صنعها شباب «جماعة السينما الجديدة» التي تأسّست عام 1968، وهما «أغنية على الممر» لعلي عبد الخالق، و«الظلال في الجانب الآخر» للفلسطيني غالب شعث. وهي ليست مصادفة بالتأكيد أن تتم الاستعانة بمحمود ياسين كممثل يعبّر عن سينما جديدة، وجيل جديد، وشكل جديد للنجم السينمائي، في فترة كثُر فيها الحديث عن «الجديد».
حتى نهاية السبعينيات، كان محمود يس قد شارك في بطولة ما يقرب من ثمانين فيلماً. في بعض السنوات، كان يُعرض له اثنا عشر، أو عشرة، أو ثمانية أفلام مرة واحدة. في الأفلام الثلاثة التي أُنتجت عن حرب أكتوبر مثلاً، عام 1974، قام ياسين ببطولتها كلها: «الرصاصة لا تزال في جيبي»، و«بدور»، و«الوفاء العظيم»!
 
 
مع شادية في فيلم «نحن لا نزرع الشوك»
 
بالرغم من الانتقادات التي يُمكن توجيهها إلى معظم أفلام السبعينيات وإلى أداء محمود ياسين المسرحي في معظمها، إلّا أنه كممثل كان صاحب «قماشة عريضة» جداً، يلعب أدوار العاشق الرومانتيكي في ميلودرامات بركات وحسن الإمام وحلمي رفلة، مثل «أختي»، و«حبيبتي»، و«الزائرة»، و«جفت الدموع» و«انتهى الحب». كما يلعب أدوار العشق الجنسي الجريئة في أعمال مثل «الحب الذي كان»، و«غابة من السيقان»، و«قاع المدينة»، و«امرأة سيئة السمعة» و«عندما يسقط الجسد»!
بالرغم من كثرة الأدوار والأفلام الخفيفة التي شارك فيها، لم يصنّف محمود ياسين كممثل «خفيف»، مثل حسين فهمي، بل عُهد إليه دائماً بلعب الأدوار الجادّة والمركبة في أعمال مثل «الكداب» لصلاح أبو سيف، و«على من نطلق الرصاص» لكمال الشيخ، و«أفواه وأرانب» لهنري بركات، و«سونيا والمجنون» لحسام الدين مصطفى المقتبس من «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، و«قاهر الظلام» لعاطف سالم الذي جسد فيه شخصية طه حسين.
ورغم الجدية التي تفيض من ملامحه وطريقة أدائه، إلا أنه لعب أيضاً بعض الأدوار الكوميدية البارزة مثل دوره في «انتبهوا أيها السادة» لمحمد عبد العزيز، الذي لعب فيه دور جامع قمامة يتحوّل إلى مليونير في عهد الانفتاح، عدا عشرات أعمال «الأكشن» التي قام فيها بلعب أدوار البطل المغوار مفتول العضلات، مثل «الحرافيش» و«التوت والنبوت» و«وكالة البلح».
لم يترك محمود يس دوراً لم يلعبه تقريباً، من ضابط المخابرات الهادئ في «الصعود إلى الهاوية»، إلى سائق العربة التي يجرّها حمار في «العربجي»، إلى الطيار في «الطائرة المفقودة»، وعشرات غيرها.
شارك محمود ياسين إجمالاً في ما يقرب من 140 فيلماً سينمائياً، غير المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات والأعمال الإذاعية، وهو واحد من أغزر الممثلين. بالرغم من انحسار نجوميته الكاسحة في السبعينيات، ظلّ يعمل مع كل الأجيال، ويترك من حين إلى آخر بصمات تمثيلية مميزة، مثل دوره في فيلم «الجزيرة» (إخراج شريف عرفة)، وكان آخر أعماله للسينما دوراً كوميدياً في فيلم «جدو حبيبي» عام 2012.
في استفتاء «أفضل مئة فيلم» في تاريخ السينما المصرية الذي أجراه «مهرجان القاهرة السينمائي» عام 1996 ضمّت القائمة خمسة أعمال من بطولة محمود ياسين هي: «أغنية على الممر»، و«ليل وقضبان»، و«على من نطلق الرصاص»، و«الصعود إلى الهاوية» و«انتبهوا أيها السادة» (الذي احتل المركز 101!)، وهو رقم قد يبدو ضئيلاً مقارنة بعدد الأفلام التي شارك فيها محمود ياسين... لكن هذا لا يقلّل من التأثير الذي تركته ظاهرة محمود ياسين على السينما المصرية. ظاهرة تتجاوز كثيراً هذه القوائم والتقييمات.