الطبيب الأندلسي عبد الملك بن زُهر

الطبيب الأندلسي عبد الملك بن زُهر

نجم الأسبوع

الأحد، ٣١ يناير ٢٠١٠

تجديد في الطب، وانتشار في الغرب، قبل أن يبلغ أسماع العرب

 

من الأعلام النابهين الذين حفلت بهم صفحات تراثنا المخطوط، ومنهم من احتفلنا به كثيراً، ومنهم من غاب في زوايا النسيان، ومنهم من صحونا فأخذنا ننفض عنهم غبار السنين.. من هؤلاء جميعاً: الطبيب "عبد الملك بن زُهر" الأندلسي الإشبيلي.

 

ثالث طبيب في أشهر الأسر الطبية في التاريخ:

فمن هو عبد الملك بن زهر، الذي ينتمي إلى قبيلة إياد العدنانية في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام؟ أول ما يتميز به هذا الطبيب أسرياً، أنه كان "الثالث" في أسرة طبية أنجبت سنة أطباء في ستة أجيال متعاقبة، فهي – دون أي جدال- أشهر الأسر الطبية في التاريخ، قلت: هو الثالث، وقد سبقه جده، سمِيّه، الطبيب "عبد الملك بن زُهر"، وأبوه "زهر بن عبد الملك"، وتبعهم الرابع "أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر"، وبعده الابن "عبد الله بن محمد"، وآخر هذا العقد النضيد "محمد بن عبد الله بن زهر".

وميزة ثانية يتمتع بها طبيبنا عبد الملك بن زهر، المُكنى "أبا مروان"، أنه كان الأكثر تفوقاً وفي تاريخ الطب في الأندلس، لأسباب منها: انقطاعه إلى الطب دون غيره من العلوم، وتجرده من قيود التقليد التي تمسك بها سواه من أطباء عصره، واعتماده في طبه على دقة الملاحظة السريرية في تشخيص الأمراض ومداواتها.

ويحلو لي أن أضيف: إن عبد الملك، إن كان قد انقطع إلى الطب لم يمارس غيره من العلوم والفنون، فإن ابنه، الطبيب "أبو بكر محمد بن زهر"، كان شاعراً، بل انقادت إليه في زمنه إمامة شعر الموشحات، وهذا الشعر من ابتداع الأندلسيين ومن موشحاته الشهيرة.

أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع

 

في خدمة "المرابطين"، ثم "الموحدين"

عاش أبو مروان عبد الملك بن زهر في ظل دولة المرابطين المغربية، هذه التي قدر لها أن تنقل جيوشها إلى الأندلس زمن ملوك الطوائف لنصرتها في مواجهة الممالك المسيحية، مرة ثم مرة (في القرن الخامس للهجرة، الحادي عشر الميلادي) وانتهت إلى أن ضمت الأندلس، في المرة الثالثة، إلى دولتها الفتية، فكان أن خدم عبد الملك وقبله أبوه زهر هذه الدولة، أطباء ووزراء، فلما دالت على يد دولة مغربية أخرى، هي دولة الموحدين، خدمها عبد الملك وسلالته من الأطباء.

لم تحدد لنا المصادر التاريخية عام مولد عبد الملك، وقد قدروه ما بين 464 هـ (1072 م) إلى 484، وكانت وفاته في مدينته إشبيلية عام557 هـ، فيكون قد عاش- حسب التقديرين- مابين 73 سنة إلى 93، كان فيها طبيباً للملوك والسلاطين مثلما ظل طبيباً وفياً للفقراء والمساكين.

وأما "كتاب التيسير في المداواة والتدبير" الذي ألفه قبيل رحيله بسنوات قليلة، فإنه يعد واحداً من أمهات الكتب الطبية في الحضارة العربية الإسلامية، ينضاف إلى كتب كثيرة مثل، كتاب "الحاوي في الطب" للطبيب الرازي، وكتاب "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" للطبيب الأندلسي أبي القاسم الزهراوي، وإلى كثير كثير غيرها..

 

الكتاب مترجماً، ثم – في عصر الطباعة- يظهر مطبوعاً:

قلنا: إن ابن زُهر توفي في العام 557 هـ (1162 م)، ولما تكن قد مضت على تأليفه كتابه إلا سنوات قليلة، وكانت النُخب من مثقفي أوروبا القرون الوسطى يتابعون منجزات الحضارة العربية في الأندلس، ولم يطل الوقت حتى ظهرت في العام 1206م، ترجمة الكتاب باللغة العبرية أولاً، وذلك أن اليهود كانوا – حسب ويل ديورانت في موسوعته.. قصة الحضارة"- يتمتعون من الوعي الثقافي والحريات الاجتماعية في ظل دولة الإسلام في الأندلس ما يجعلهم يبادرون إلى قطاف ثمار الإبداع العلمي، وسمي الكتاب في ترجمته العبرية "منوره هارافوآه" أي "مصباح الشفاء"، ثم إن الكتاب ترجم إلى اللغة اللاتينية مرة ومرات، إما عن العربية مباشرة وإما عن الترجمة العبرية أيضاً، وحُرّف اسم ابن زُهر عند الأوروبيين إلى "أفانزووار Avenzoar".

وفي عصر الطباعة ظهر الكتاب مطبوعاً باللاتينية، وأول طبعة له كانت في مدينة "البندقية" الإيطالية عام 1490، ثم طُبع في مدينة "ليون" الفرنسية عام 1531، وفي العام ذاته طُبع في مدينة "ليدن" الهولندية.. وتوالت الطبعات مرات كثيرة، وكان يُطبع غالباً مرافقاً بترجمة كتاب طبي آخر هو "الكليات في الطب" للفيلسوف ابن رشد الأندلسي، على اعتبار أن الكتابين متكاملان، ولفرط اهتمام القوم هناك بالكتاب، كانوا يَسْتَلون فصولاً منه، يلخصونها، لتنزل في مواضعها المخصوصة من كتب العلم الطبي.

وقيل في أوروبا إنه كان لهذا الكتاب الأثر البليغ في الطب الأوروبي حتى القرن السابع عشر الميلادي.

وهذا يسير مما تضمنته أطروحة المستعرب الفرنسي الطبيب غبريال كولان Gabriel Colin، الذي عرف – بعناية بالغة- بالطب العربي وتاريخه، وخاصة في أطروحته الأساسية لنيل مؤهل الدكتوراة بعنوان "ابن زهر، حياته وآثاره" تلك التي طُبعت فيما بعد بباريس العام 1911.

 

التجربة أكبر برهان

وما يُحسب لابن زُهر أنه ألف كتابه هذا بعد أن نضِج علمُه واتسعت تجاربه في كل اتجاه، وقد كان فيه يُحارب الخرافات والأباطيل، ويُكافح الدجّالين والمنجمين، ويُحكم العقل، ويعنى بالتجربة العناية كل العناية..

ولنستمع إليه يقول مصرحاً، أو هو من يرفع صوته صارخاً في وجوه مخالفيه المتوقعين، في غيرته على العلم الذي يؤمن به:

"أنا أحاكمهم، كنت حياً أو ميتاً، إلى التجربة، فإن الكلام يداخله الصدق والكذب، والحجج منها ما هو برهان ومنها ما هو اقتناع ومنها ما هو سفسطة ومنها ما هو تخيل، والبرهان هو ميزان حق في الحجج.. وليس يفرق بين الأقوال إلا البصير، وخاصة إن كان بصيراً بعلم الطب، فحينئذ يمكن أن يميز الحق من الباطل فيما يكون له بالطب معلق.. والتجربة وحدها هي التي تثبت الحقائق وتذهب البواطل.." (التيسير، ص326).

ابن زُهر أول من فصل بين الطب الباطني، والجراحة، والصيدلة:

ومما يحسب له أيضاً أنه فرق، أي فصل- فيما سمّاه العرب "صناعة الطب"- بين ممارسات في الطب رأى أنها تخرج عن عمل الطبيب الذي يُعالج مرضاه سريرياً.

فهو، من ناحية، كان "يأنف" من أن يجري الجراحات بنفسه لمرضاه، وكان يعهد بها إلى معاونيه المتمرسين على كل حال، فإن "فعلها" فللضروة الماسة، وهو في هذا يكون أول من فصل بين عمل الطبيب بالطب الباطني وبين عمل الطبيب الجراح، وإلى ذلك انتهى الأمر في العصر الحديث!

وهو، من ناحية ثانية، لم يكن يُعنى بتحضير الأدوية للمرضى، ففصل بذلك، مرة أخرى، بين عمل الطبيب وبين عمل الصيدلاني!

وفي ذلك قيل إن عبد الملك بن زُهر كان طبيباً "أرستقراطياً"! وصدقوا، فتلك كانت من سماته البارزة.

 

في "أسبوع العلم" الثالث عشر بدمشق:

أوقع طبيبنا عبد الملك بن زهر، الإشبيلي، تأثيره في الطب الأوروبي الصاعد منذ ما قبل عصر النهضة، وظل كتابه "التيسير.." يدرس في أوروبا، بجامعتي "لوفان" و"مونبيلييه" حتى القرن السابع عشر الميلادي.

ثم إن العرب استيقظوا في القرن العشرين، على ما تركه الأجداد من تراث محفوظ، في العلوم الإنسانية وفي سائر العلوم، نظروا، وعرفوا هذا الطبيب الأندلسي غير المنسي على كل حال.

وقد تهممت وزارة التعليم العالي في القطر العربي السوري، ممثلة بالمجلس الأعلى للعلوم، لأن تحتفي بهذا الطبيب، بمناسبة الذكرى "التسعمئة" لمولده "حسب أحد التقديرين: 1072م"، فجعلت منه محوراً لبحوث تُلقى حوله في "أسبوع العلم الثالث عشر"، الذي أقيم بجامعة حلب في شهر تشرين الثاني 1972، وأعدت لهذا "الأسبوع" كتاباً حوى ما كتب عن الرجل قديماً وحديثاً، بالعربية وغيرها، بذلته للمشاركين في ذلك الاحتفال ولكل من يطلبه، ثم أخرجت للناس بعد انقضاء الأسبوع، البحوث في مجلدات، ضم أولها خمسة البحوث التي تناولت هذا الطبيب، وقد حضرها كل من: د. أحمد شوكت الشطي، ود. عبد الكريم اليافي، ود. ميشيل الخوري، والأستاذ عمر رضا كحالة، والمستعرب الإسباني سلفادور غوميث نوغاليث.

وقد استحضرت بعد ذلك صور عن مخطوطات الكتاب حيثما وجدت في المكتبات العالمية، وأكب عليها الدكتور ميشيل الخوري (عضو مجمع اللغة العربية بدمشق) دارساً محققاً، وتعهدات "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" (تونس) إخراج الكتاب للناس مطبوعاً: "كتاب التيسير في المداواة والتدبير"، تولت طباعته "دار الفكر" بدمشق، وخرج بحلة قشيبة في العام 1982، بعد طويل انتظار، في خمسمئة وستين صفحة، وضع له الفهارس بالمصطلحات الطبية، باللغتين العربية والفرنسية، الدكتور مختار هاشم "عضو مجمع اللغة العربية بدمشق".

وشاع الكتاب بين المعنيين بالتراث الطبي العربي العريق، ولعلني استطعت تقريب الكتاب ومؤلفه، في مقالتي هذه، إلى أذهان غير المعنيين!

ولن يفوتني، استكمالاً للقول، أن أضيف أن "أكاديمية المملكة المغربية" بالرباط، أصدرت هذا الكتاب بتحقيق محمد بن عبد الله الروداني في مجلد حسن عام 1991.

 

لا جديد دون قديم

وبعد

لا يقولن أحد إن ذلك "طب قديم" قد عفى عليه الزمن!

فإني أجيب عن مثل هذا القول، بمثل ما كان قاله عميد الأدب العربي طه حسين في محاضرة له بجامعة دمشق في خمسينيات القرن الماضي، من أن من طبيعة الأشياء أن يعرف المحدثون ما لم يعرفه السابقون، وأضيف: خاصة في مجال العلوم، وأولها علم الطب، هذا الذي يقفز القفزات الهائلة، عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم!

وأقول أيضاً: إن الحضارة الإنسانية تبنى لبنة لبنة، ومدماكاً فوق مدماك، ولولا علوم الأوائل، التي اتكأ عليها اللاحقون، لما كان لهم أن يسرعوا في الاختراع والابتداع.. فمن كان يصدق، في أوائل القرن العشرين الذي مضى، أن عيناً لا تبصر يمكن أن تكتحل بالنور، بجراحة سميت "ترقيع القرنية"؟ وأن صاحب القلب العليل يمكن أن يستبدلوا بقلبه قلب إنسان آخر، فينهض به، وينبض في صدره، ويخفق شوقاً إلى الحبيب الذي كان يخفق له القلب المنزوع؟!

فاضل السباعي