بريماكوف

بريماكوف

نجم الأسبوع

السبت، ٣١ أكتوبر ٢٠١٥

أقيمت في موسكو، في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، فعالية “قراءات بريماكوف” الأولى المكرسة لتراث المستعرب الروسي المخضرم رئيس الوزراء الروسي السابق الراحل يفغيني بريماكوف.
هنا اجتمع العلماء المشهورون والمستشرقون ورجال الدولة والاقتصاد والاستخبارات والصحافيون والبرلمانيون الروس لتذكُّر هذه الشخصية السياسية النادرة. وقد جاء في رسالة الرئيس فلاديمير بوتين، التي قرأت في الفعالية، أن “بريماكوف كان رجل دولة فذا، وعالما وسياسيا ودبلوماسيا موهوبا.” وقالت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي (مجلس الشيوخ) فالنتينا ماتفيينكو إن “الغرب كان يحترم بريماكوف رغم أنه كان يخشاه”.
وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الفعالية أن “المجتمع الدولي اعتبر تعيين بريماكوف وزيرا للخارجية في عام 1996 تأكيدا لوضع روسيا كدولة عظمى.” وروى لافروف كيف أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قال في كانون الثاني من عام 1996 إنه “كان يرتاح دائما للعمل مع أولئك الناس، الذين يفهمون بدقة مصالحهم القومية”.
أما رئيس الوزراء الروسي الأسبق سيرغي ستيباشين فـ”نصح الجميع، بدءا من رئيس الولايات المتحدة وانتهاء بالطلاب”، بقراءة كتاب بريماكوف “حقول ألغام السياسة” على الأقل.
في حين طرحت رئيسة لجنة الدوما (مجلس النواب) إرينا ياروفا فكرة تنظيم دورات خاصة في المعاهد التعليمية العليا لدراسة تراث بريماكوف لخبراء السياسة والعسكريين والدبلوماسيين والصحافيين والمستشرقين.
وللتذكير، فإن بريماكوف ولد في العاصمة الأوكرانية كييف، حيث غمره الفضول منذ الصغر للتعرف إلى الشرق، وكان ذلك سببا لاختياره دراسة اللغة العربية منذ أن جاء إلى موسكو ليلتحق بمعهد الاستشراق الموسكوبي. وقد استفاد بريماكوف من معارفه الشرقية فيما بعد أثناء عمله مراسلا لصحيفة “برافدا” في القاهرة ودمشق وبغداد بين عامي 1966-1970، ومديرا لمكتب وكالة “تاس” في بيروت.
وسهلت المعارف تلك على بريماكوف التعارف مع كبار رجال السياسة العرب، فلم يعد مجرد صحافي يعمل في إحدى المناطق الساخنة، بل أصبح رجل المهمات الصعبة، التي كانت أبرزها الوساطة بين القيادة العراقية وأكراد الشمال، المهمة التي تطلبت منه ركوب البغال في جبال كردستان عام 1966، وأثمرت عن توقيع اتفاقية الحكم الذاتي الشهيرة للأكراد في شهر آذار من عام 1970.
ثم انتدبه ميخائيل غورباتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي أول مرة، للحيلولة دون إطلاق الأميركيين “زوبعة الصحراء” في الخليج العربي بعد احتلال القوات العراقية الكويت عام 1990. لكن الفشل كان مكتوبا على هذه المحاولة منذ البداية، لأن غورباتشوف في تقلبه المعهود، أرسل إلى الولايات المتحدة في الوقت نفسه، وزير خارجيته آنذاك، وصديق الأميركيين الجديد إدوارد شيفاردنادزه، للتنسيق معهم.. وضاعت فرصة ذهبية للحيلولة دون اندلاع حرب الخليج الأولى.
بيد أن بريماكوف – رجل معسكر غورباتشوف – كان من بين القلائل، الذين أبقاهم الرئيس الروسي بوريس يلتسين في السلطة بعد رحيل غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، وأوكل إليه رئاسة مصلحة الاستخبارات الخارجية، التي لم يقها من التشرذم وحسب، بل وقام بإصلاحات جذرية فيها. وبعد تنامي الاستياء الشعبي من وزير الخارجية أندريه كوزيريف، لسياسته الموالية للغرب، اضطر يلتسين، رغم الضغوط الأميركية، إلى إقالته عام 1996، وتعيين بريماكوف وزيرا للخارجية.
ومع أن السياسة في نهاية الأمر هي فن الممكن، ومع أنه كان صعبا على عصا أي ساحر دبلوماسي روسي، بعد سنوات طويلة من تقزيم روسيا لنفسها، اجتراح المعجزات، فإن بريماكوف قد نجح في مهمة وضع اللبنات الأولى لاستعادة وضع الدولة العظمى لروسيا على المضمار الدولي.
أما فضل ومآثر بريماكوف على الصعيد الداخلي الروسي، عندما أصبح رئيسا للحكومة في عام 1998، فعصية على النسيان. وبدا أحيانا، في ظل ترهل يلتسين وسكره الدائم، أن رئيس الحكومة هو حاكم روسيا الفعلي، وذلك بفضل صلاته الواسعة بأجهزة الاستخبارات ودعم الجيش والمساندة الشعبية له.
يجب القول إن بريماكوف، وعلى الرغم من نأيه بنفسه عن السياسة اليومية، بعد إقالته في عام 1999، وترؤسه منذ نهاية عام 2001 غرفة التجارة والصناعة الروسية، فإن الرئيس فلاديمير بوتين انتدبه في 24 شباط 2003 للسفر إلى بغداد وإقناع صدام حسين بالتنحي عن منصبه. غير أن تصلب الرئيس العراقي أفسد مهمة الأكاديمي الروسي، وأطلقت واشنطن بعد أقل من شهر “عاصفة الصحراء”، وغزت العراق، وقضي الأمر، لكن ذلك لم يمنع بوتين من الاستمرار بالتشاور مع بريماكوف في مختلف شؤون السياسة الدولية.
بيد أن وجهة نظر أخرى إزاء بريماكوف كانت لدى دميتري مدفيديف، عندما كان رئيسا. وحسب شهادة صحيفة “كوميرسانت” الروسية، لم يعجب مدفيديف أثناء زيارته، في تشرين الثاني 2010، إلى كوريا الجنوبية تغيُّب رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية عن الزيارة بسبب المرض، فما كان من عملاق السياسة الروسية المخضرم إلا أن أعلن في 21 شباط 2011 عن استقالته، ليتفرغ بشكل نهائي للعمل الاجتماعي والكتابة، حيث بلغ عدد مؤلفاته، إضافة للمقالات المختلفة والمحاضرات، 23 كتابا، وليدركه الموت عن عمر ناهز ستة وثمانين عاما بعد مسيرة سياسية فياضة بالمآثر لبلده وللعلاقات الروسية الدولية والعربية.