سنية صالح

سنية صالح

نجم الأسبوع

الجمعة، ٢٢ مايو ٢٠١٥

بين شهقة الموج، وزفرة الرّذاذ، قام حلم سنية صالح، يدشّن الروح، بفيض وبراءة العتم، فما إن شهق الموج، الذكر الوحيد، لعائلة فاطمة شريف وخليل صالح، حتى زفر رذاذه سنية صالح، في بلدة مصياف بسورية، يوم 14 نيسان 1935.

كان صمت الطفلة، يولع نيرانه شيئاً فشيئاً بحطب الأسرار، والمعاناة التي خضعت لها من جراء المشادات العائلية التي أودت إلى طلاق والديها. كل هذا كانت سنية الطفلة تحفظه في قلبها.

من ديوانها «حبر الإعدام» نذكر قصيدة «الاختناق»، حيث الطفولة رضعت من ثدي جنّية العتمة دون أن تتنعّم بدرّة حليبها، فتمتد صرخة الماضي إلى حدّها الأقصى، لتتناوب مع أمنيتها في العودة ثانية إلى تلك الطفولة القاسية لو تسنى لها ذلك. فالشاعرة لا تريد مغادرة بحر الحزن وآلامه بل الغوص أكثر فأكثر في أعماقه الجميلة، عبر مونولوج داخلي تستحضر فيه الشاعرة سنية روح أمها الراحلة، لتشاطرها مخاوفها وصرخاتها وذكرياتها بحنين لا يوصف:

«كلما اتجهت نحوكِ صارت طرقي
غباراً،
خطوة واحدة وتختفي،
انتحبي بشدّة يا أمّي
وبأعلى ما تستطيعين
لا فضاء إلا حناجرنا،
فأين الهواء العظيم ليحمل الصوت
المتألم؟
ثم عودي إليّ،
يا طفولتي البكر والمريرة،
يا براري أوسع من الخيال
طفل صغير
تخفّى من الرعب أكثر مما يحتمل قلبه
المرتجف،
قولي للعالم كله
وأنت تبحثين عن قبورهم في الضباب
إن الريح وهي تجري كالطغاة
وحدها تجعلهم يصمتون طوال الليل
والحذر يقف على أفواههم
كالحراس أمام الزنزانات المضغوطة
أتذكرين من خرج في الليل
ليلاقي الريح؟
وحدنا الأطفال،
وحدنا الرماد الذي لا يهدأ
ولا يُذرى
والآن عودي إلى موتك
أيتها المرأة الرائعة».

كأن المولودة سنية صالح، أتت إلى الدنيا وفي فمها ملعقة من حزن مذهّب، يجعلها تكتب بالفطرة كتابة لا تطرب القارئ بل تُربكه، تصدمه بقساوتها وصراحتها ومواجهتها للأشياء الصغيرة التي لا ينتبه إليها أحد. فالشاعرة تمسح جروحها بكحول الكلمة، مما يُشعِر القارئ بأن الألم ألمه هو، فقصائد سنية صالح ثلاثية الأبعاد، ينزل القارئ بين سطورها، ليعيش في تلك الأزقة المظلمة والبيوت البائسة والغرف الواطئة، فقصائدها قصص حيّة، وهذا ما نشعر به في ديوانها «الزمان الضيق»، ففي قصيدتها «أحلام الطفلة شديدة الاحمرار»، ما إن يتنفس القارئ الصّعداء، مع النسيم والعصافير حتى يدخل في متاهة الألم.

«من نافذة النسيم اللامبالي
مددتُ عنقي كطائر
لأرى الطفلة القديمة
الطفلة الشديدة الاحمرار
ولكنني ما وجدت غير اللعب المحطمة
والريش المتناثر.
وعندما هويت
أتاني ضجيج المدينة صاخباً كالسنونو
وكأنّ دفاتري غاباته الأولى.
الليالي المقمرة خُلقت للبكاء أو للذكرى
بين العطور والثياب الفاخرة
بكت حمامة مذعورة
حمامة قديمة يقال لها أمي.
أنا ذعرها الأبدي،
أنا دموعها التي لن تجفّ
فيا أيها القلب الطائر
خلف الوهم
هذا زمان الجوع»

«في طفولتي لم أكن أحلم إلا بالموت وبأشياء مخيفة. فكنت لا أشعر بالاطمئنان إلا في سرير أبي وفي حضنه. كنت أحدّثه عن أحلامي فيقول لي، حاولي أن تفكري في الغابات الخضراء والأشجار العالية حيث العصافير تغرد. وعبثاً كنت أحاول رؤية تلك الغابات في أحلامي. وكنت أخاف أن أنام فينام قلبي».

«طفولتي حلم يغني ويبكي»، «كل طفولة لها جدة جميلة إلا طفولتي. طفولتي مثل حلم، مثل الغابة، كل شيء فيها ينهض من مكانه، يقفز إلى مكان آخر، مثل حورية تولد من الريح في الليالي العاصفة وتطير مع الغبار والأوراق تاركة الفرح في مكان ما».

وفي قصيدة «دموع الأميرة» تعود سنية صالح المرأة خطفاً إلى الخلف، إلى نبع الشعر، تلك الطفولة الفياضة بالحزن.

«ثمّة عويل يربط قلبي بحنجرة الأرض
والزّبد صوتي الضائع.
قد تكون ثيابي مزيّفة
ولآلئي مزيّفة
قد يكون كل ما في العالم
مخادعاً ومزيفاً
إلا دموعي
أنا المرأة ذات الأعوام المسننة
أنزف كجندي بتر رأسه
وأنا أذهب وأجيء وراء النوافذ العالية
كأميرة تستعد للهرب
بعد أن أفسد الذعر فرحي وطفولتي».

بالرغم من أن سنية اختارت الفرع العلمي للبكالوريا، رغبة منها في دراسة الطب، لكنها في الحقيقة درست الأدب الإنكليزي في الجونيور كولدج بين عامي 1957 – 1958 حيث بدأت موهبتها بالتفتح وإزاحة الحجب وكسر القيود والمألوف، وبسبب حوادث لبنان 1958، قررت أن تعود إلى معرة مصرين حيث كانت وظيفة والدها الذي أحيل على تقاعد مبكر، فعملت سنية في حلب كي تساعد العائلة، ولم ترجع إلى لبنان قبل عام 1961، لتكتب بضع قصائد، من بينها قصيدة «جذور الرياح» المنشورة في مجموعة «الزمان الضيق»، وفيها تتكلم الشاعرة عن أزلية الألم، وكانت أولى القصائد التي اطّلعَتْ عليها أختها خالدة سعيد، لتأخذ رأيها وتوجيهاتها الشعرية:

«رياح البحر تخطف الأنفاس
لكن الشّقاء خمر معتّقة
وهذه الفصول،
أبداً هاربة إلى عالم التراب
ألملم جناحي، وأسقط
كما تسقط رؤوس الأزهار
شاحبة وبلا جذور
صفراء آتية من خريف الأرض
مسحورة برياح البحر».

«تراب شاطئكَ ذهبُ الندم
أحلم بك سيداً، أهرب إلى عنفك
وتطويني بعيداً عن العاصفة».

«لأنّ الفصول أبداً هاربة،
لن يحملني زورق للرجوع».

والغريب أن حماس الشاعرة سنية صالح لم يترافق مع أي طموح شعري، «ليس لي أي طموح من أي نوع كان. أنا أعجز من أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه، كما يقول بعض الشعراء، ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ ليس لي أي طموح من أي نوع كان. فقط أسترخي وأترك زحام العالم يتدافعني كشيء صغير جداً ولا وجود له. إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة».

في عام 1961 نالت سنية صالح جائزة النهار، وهي عبارة عن خمسمئة ليرة، عن أفضل قصيدة، وهي قصيدتها «جسد السماء». حينها تألفت اللجنة التحكيمية لجائزة النهار، من خمسة شعراء هم، شوقي أبي شقرا، وصلاح ستيتية، وفؤاد رفقة، وأدونيس، وأنسي الحاج المشرف على القسم الأدبي في جريدة النهار:

«جسد السماء مظلم وحزين
فليكن الليل آخر المطاف
الإضاءة وهمية ومؤقتة
وأكثر حساسية أجنحة الصمت
لا صوت لي ولا أغاني
خلعت صوتي على وطن الرياح والشجر
الظلال أكثر تعانقاً من الأهداب
وما من أغنية تضيء ظلمات الأعماق
لكن الأصداء تدقّ صدر الليل
فأنام في صدري».

وعن القصيدة قال الشاعر أنسي الحاج أنها «قصيدة نثرية ونزعتها شخصية، وتكنيكها مناخي أكثر مما هو عضوي، فحين تقرأها تنفلش في نفسك صوراً وتوترات ولا تحبسك في نفسها. على الرغم من غموضها تتوصل إلى هذه النتيجة، لأنها، مع غموضها، ومع شخصياتها، تحمل كذلك التجربة الصادقة التي تمسّ الآخرين مساساً أجزائياً عبر الكلمات ومساساً روحياً يصدر من جوهرها كله. وبعض الصور والنداءات وبعض الكلمات ذات الدلالة المباشرة تساعد كثيراً على إيضاح القصيدة، بل إيضاح الشاعرة في نفس القارئ».

أما عباس بيضون فتكلم عن الأثر العميق الذي تركته في نفسه قصيدة «جسد السماء»: «كانت القصيدة تأتيني من الجلد والإغماضة والصدى الداخلي ومن مطارح لم تكن بعد اعتادت أن تكون مسالك وطرقاً. لقد طال إصغائي فيما كنت أهرج وأصخب وأغطي على ما ينسلّ إلي من القصيدة حتى بات لها متنفس ومكان في تلك المسام التي أيقظتها. فالقصيدة يتيمة من يتيمات الشعر الحديث، ليس لها أب فارع ولا نسب قوي».

زارت سنية صالح أختها خالدة سعيد - زوجة أدونيس - في بيروت، فالتقت بمحمد الماغوط من خلال التنافس على جائزة جريدة النهار لأحسن قصيدة نثرية، ثم انتسبت سنية صالح إلى جامعة دمشق في خريف 1962، قسم الأدب الانكليزي، وكان محمد الماغوط قد أبعد من لبنان بعد حوادث 1958 وأصبح مغضوباً عليه بسبب مقالاته الساخرة في جريدة سورية. فاضطر إلى التخفي ولازم غرفة صغيرة أشهراً طويلة، فكانت سنية، حبه الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، فقد عاشت معه ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون، فهي بنظر الماغوط كما يقول بنفسه «شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جداً. كما أنها لم تأخذ حقها نقدياً. والنقاد لم يأتوا على ذكرها في مسار الشعر العربي المعاصر، أكثر مما يأتي الملحدون على ذكر الله. فهي شاعرة كبيرة في وطن صغير، وبين نقاد صغار. وباعتقادي أن ديوانها الأخير "ذكر الورد" الذي كتبته وهي على سرير الاحتضار بين باريس ودمشق، من أجمل وأعمق ما كتب عن الإنسان العربي في هذا العصر. إنها أكبر شاعرة عربية، لا نازك الملائكة ولا غادة السمان، ولا أي شاعرة على الإطلاق».

لم تكن سنية صالح إلا سماء محمد الماغوط، وجسره الوحيد إلى العالم، تتخفى وتموّه الطرق لتتواصل معه، حتى أنها قصّت شَعره خوفاً من أن يخرج بشعره الطويل. وهذا بدوره أوجد لها متاعب مع أهلها، تقول سنية صالح: «كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على ما يحيط بنا. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية. وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة. فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض مبقعة بالقهوة حتى ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية، بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معادياً».

بالرغم من كل هذه التضحية، لكن سنية صالح لم تتفق في حياتها كلها مع محمد الماغوط، فالاثنان من عالمين مختلفين، رغم تشابه ظروفهما. فعالم سنية رومانسي حالم، روحاني، صوفي، بينما كان عالم الماغوط يغوص بالوحل والأرصفة والشوارع والبول والقسوة، مع ذلك كانت حياتهما جميلة، فحين يبدأ الصراع تبدأ الحياة.

ويقول الماغوط عن سنية: «جاءت غيمة وأحكمت اللجام الحريري بين القواطع، وحكّت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وبريق المرآة، وأغلقت كل الشوارع، ولملمت كل أوراق الخريف ووضعتها في أنبوب المدخنة للذكرى. أو بالأحرى عندما جاءت لتقلب كل شيء رأساً على عقب، وتجعل الكتب والثياب والأوراق وكل ما تزدحم به غرفته الصغيرة أشبه بأسلاب حرب لا يعرف إلى من تؤول في النهاية. فحياته من دون سنية صالح لا تساوي أكثر من علبة ثقاب».

وفي قصيدة «البحيرة»، نلمس ظلمة السماء التي كان يحلق فيها محمد الماغوط، حيث لم تكن هناك إلا عينا الشاعرة سنية صالح، اللتان تسطعان كي يصمد عبر الآفاق:

«لأنه حزين
ارتدى الأجراس الملوّنة
قناعاً للفرح
أوثق نوادره على طرف لسانه
كي لا تخونه في اللحظة المناسبة
وسار بخفّيْه المرصّعين
وحيداً كاللّيل
ولا نجوم بانتظاره
سوى عينيّ
أيّها الطّائر المحلّق عبر الآفاق
تذكّر أنّ الرّصاص في كلّ مكان، تذكَّرْني
أنا المسافرة الأبديّة
طول حياتي أغذّ السّير
وما تجاوزت حدود قبري».

ومن ديوان «حبر الإعدام»، قصيدة «الصديقان»، وفيها تقول سنية صالح عن الماغوط:

«سحابة ليست كالسّحب
وفارس ليس كالفرسان
هطل مع الأمطار
سار وحيداً
قوياً وبريئاً
تتبعه ملايين الطّعنات
وهي تلمع تحت نور الشّمس».

ما إن امتلأت سماء الحب، ببخار البحيرات والبحار، حتى طافت في الجو غيمتان، الأولى تدعى شام محمد الماغوط و الثانية، سلافة محمد الماغوط. ومن ديوان «قصائد»، تتحدث سنية في قصيدتها «شام، أطلقي سراح الليل»، مع ابنتها قائلة:

«أيتها اللؤلؤة
نمتِ في جوفي عصوراً
استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء
وهدير الدّماء
حجبتُك طويلاً...طويلاً
ريثما ينهي التاريخ حزنه
ريثما ينهي المحاربون العظماء حروبهم
والجلادون جَلْدَ ضحاياهم
ريثما يأتي عصر من نور
فيخرج واحدنا من جوف الآخر
هاهو حصانك الثّلجي يطير مجنوناً بنار
المستقبل
تلمع عيناه ببريق الدّهشة
شيء ما يغريه في المضي
شيء ما يمنعه ويشدّ لجامه
ولكن
لو كان المستقبل يرى مثل السّحب
أو الطّيور
لو كان يُفتَح مثل النّوافذ
لاخترتُ لك أعظم الأعمار
لكنّك وارثتني في الشّقاء
لقد أفرغتُ في جوفك حممَ الأيام
ولظى السّنين
وها يلسع قلبي السّكران
وميض النّجم الذي يشبهك
وعندما تحاصرك الرّياح السّوداء
يحاصرك الأولياء الشّرسون
أسرجي خيولك للفرار
لكن حذار
كي لا يحتال عليك ذئب الأسطورة
كي لا يحتال عليك القمر.
نامي في العراء
حيث نار الحقيقة تضطّرم
حيث تقلّبات الزّمن
بخطواتها الخرساء، تذهب وتجيء
كنَمر يلتقط الأرض بأقدامه المخمليّة».

وتهدي سنية صالح قصيدتها «تخرجين من أسوار الجسد» من ديوان «ذكر الورد»، إلى شام وسلافة:

«أيتها العصفورة
يا ابنتي
دفاعك البريء يشع فيّ
فأضخّ روحي في صدرك
أحقنها تحت جلدك كالعقاقير
الليل يدقّ أجراسه
هل نويتِ الغناء؟
لصوتك الرائع يخشع المصلّون
ويصغي الإله
يأتيك بالطعام الملكي
لتكن خطاك حكيمة في الامتلاك الصعب
للقلب المضطّرم».

وفي «الطوفان» تهدي سنية صالح قصيدة «على زغب المياه» إلى ابنتيها:

«أيها الزمن الذي يغني بحناجره جميعاً
أغاني الفراق،
في رأسي غربة ثقيلة،
وأنتما في العظم والقلب والمفاصل.
الزمن يتفرّق ويحتشد،
يمد حبالاً شُدّت إليها أعناق
فأصرخ: آه يا ابنتيّ،
أتذوّق زغبها الزعفراني
فيقاطعني الرمل والدّم والتراب.
أيتها الموجتان ذات الديانات السريّة
يا ملح البحر وزرقته.
فوقكما تعبر سفينة جنوني
ولحم السفينة يلين ويرقّ على زغب المياه
على إبط المياه المنحني.
يا وطن الزرقة والشقرة
يا وطن شام
وربوع سلافة
جميع خيول الشوق أطلقتها
صوبك
ولا تزال مجنونة في دمي
أنتما اثنتان
أنتما واحدة
أنتما اللانهاية
البر والبحر والقبطان والشمس الساطعة
والرحيل والعودة،
الأعراس والولادة.
جميع الحروب عاجزة أن تنتزعك
من عظامي
يا نهاري، أنتظرك
فأجدني أنتظر الليل
لأضم طيفك كالجسد
خذيني يا صغيرتي
تأبطيني كلحم ذراعك
فلن أقوى على الفراق».

من سخريات القدر، أن تضيق الحياة بأحلام سنية صالح، فلا تجد إلا وظيفة مكتبية لا تليق بأحلامها وشاعريتها. أصيبت سنية صالح بمرض عضال، فامتدت إليها يد السيدة أنيسة مخلوف الأسد البيضاء، بعد أن أغلقت في وجهها أبواب المؤسسات، من اتحاد الكتاب إلى وزارة الثقافة، لترسلها للعلاج في فرنسا، فتمثّل الألم في شعرها، كألم إنساني شاسع، لا يجد خلاصه إلا في الشعر، وفي وصيّتها، وصوتها الذي لا يمحى. وفي مقتطفات من أوراق مبعثرة تقول الشاعرة: «أحلم بالمعجزات وأنا غارقة في العجز حتى أذنيّ».

«الزمان الضيق» كان الديوان الأول والأشبه بـ «عملية عبور النار، اشتعال الجسد والعقل والمخيلة بحمى الكشف. والبرق الذي يفاجئ الشاعر في أثناء ذلك لا يعنيه حدود ما يجري وأهدافه». ففي قصيدة «الجرح والرؤيا» تقول:

«وردتان من النعاس ترتعشان
فوقك يا وسادة
وردتان ذابلتان
رأسي وهذا المساء
عندما يهوي جناحُ الرؤيا
ينزف الجرح
قطرة، قطرة».

الرؤيا الشعرية


تحمل قصائد سنية صالح على كفيها رؤيا تفور بالعناصر الكونية التي تتحد بشقاء الإنسان، ففي قصيدة «القرينة» يؤنسن خيال الشاعرة الأرض، وكأنها امرأة معشوقة لها أطفال يجرون خلفها وأمامها كثوار، طغاة، سجناء، أحرار، أو يتحدون في كيانها مثل أجنّة. كل هذا في خيال بريء وغاضب في الوقت نفسه.

لغتها برية، عفوية قادمة من عالم قاسٍ ومسحوق، لا يعرف الجمال، النزهة، العطور، الفتنة، والمتعة. عالمها يثير الاضطراب والقلق في النفس، لكنه بالوقت نفسه لا يندب ولا يستجدي، فيه يتحول المعقول إلى اللامعقول، واللامعقول إلى المعقول، فالشعر عندها يحول العالم، وكأنه سيمياء العالم، الذي يتجاوز المأساة ثائراً على الألم.

«أيتها الأرض
وراءك أمامك في أعضائك
نجري
تصيرين القرينة المملّحة بالروح
سيدة الصباحات
على عتبات السجون نمارس اتحادنا
دون وساطة الشرطة المقدسة
نطير، وفي الصدر قلب من ورق
وفي القدمين نار العبيد».

كان لسنية صالح قصائد غير منشورة، بعناوين: «ميراث»، «وطن»، «القرنية»، «ثوب الهواء»، «فم الهواء الغامض». وتجتمع الأضداد في قصيدة «وطن» لتعطي صورة كاملة للإنسانية:

«وطني حلم
ملء الرأس، حجم القلب
حارّ وخفّاق
وطني الطرق الموحشة
القبر وغرف الانتظار
وطني المنفى والذكريات
وطني الاحتمالات
الغابة الضائعة والشعوب المكسورة».

الأعمال القصصية


نشرت سنية صالح مجموعة قصصية واحدة عام 1982 بعنوان «الغبار» عن مؤسسة فكر للأبحاث والنشر. تهدي الشاعرة سنية صالح قصة «حمروش» إلى ابنتيها شام وسلافة، كما تقول: «الطفلتين اللتين عمقتا وجودي».

أما حمروش فهو صبي، يمتلئ بالشاعرية، يحب النجوم، العصافير، الجدي، وصديقه الحمار الغبي، لكن الرجل كسرى يسرق لحظات فرحه وتأمله، معرّضاً إياه للتعنيف الجسدي والمادي، منزلاً به أقسى العقوبات. لكن الحمار يهرب من الظلم، أما حمروش فيبقى حيث الاضطهاد والخوف.

وكأن القاصة هنا ترسخ فكرة الانهزام الساحق والخنوع، حيث الإنسان مظلوم ومطعون في كرامته، ولقمة عيشه، ومعنى وجوده، فالعنيف هو السيد المطلق، المسؤول عن قدر الضعيف المهزوم، المعطوب الذي يحمل مخاوفه ونقائضه ويمشي.

من أعمالها القصصية: «الحياء»، «الغبار»، «العاشقان»، «عامل الإسفلت»، «أسرة الديك الأحمر»، «البحث عن وطن».

أما قصصها غير المنشورة فهي: «الرعد العظيم في العتبة»، «فصل النار»، «لأزداد حكمة يا سيدي»، «الزهرة المترنمة».

وكذلك «من يوميات شاب غير مجتهد»: «لا أحب المقاهي. منذ صغري وأنا لا أحب المقاهي. في مدينتنا جميع الرجال كانوا يرتادون المقهى. يجلسون على طول الأرصفة. يُخرجون الكراسي من مبنى المقهى ويجلسون على طول الأرصفة. إلا أبي لم يكن يحب المقاهي. أليس مزعجاً منظر الرجال وهم يملؤون المقاهي ونراجيلهم في أفواههم.
ـ إذن لماذا ناديتني من المقهى؟ ألم أكن في المقهى؟
ـ سأخبرك فيما بعد.
ـ والآن أين بيتك؟».

كتابات نقدية


مقدمة لأعمال محمد الماغوط، طفولة بريئة وإرهاب مسن:
تتحدث فيه سنية صالح، عن مأساة محمد الماغوط في سعيه إلى تغيير الواقع عن طريق الشعر، وبأن الكلمة هي نافذة للحرية وطريق إلى السجن. وعن حياته الفقيرة، فقد كان يعيش في «غرفة صغيرة ذات سقف واطئ، حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على كل من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن».

«حول المسرح والمرايا»، لأدونيس:
وفيه تتحدث سنية صالح عن «لغة هادئة تحمل في قلبها كثيراً من القسوة والمرارة والعنف، فتلك اللغة الناعمة التي تتطاير مستعصية إثر كل محاولة للقبض عليها، ما هي إلا غلالة لمرارة الحياة وجنوحها القاسي.

هي ملامح مدينة جديدة متكبّرة، تكنز ألمها وحنينها. تطلع كالنبع من أنقاض مدينة قديمة مليئة بالآثار وبعفونة الشرق وشعوذة الماضي. ترمز المدينة الجديدة إلى مرآة صافية للربيع والأمل والرغبة في تغيير كل شيء. وبالرغم من أن الرؤية عنده ساطعة وسليمة الاتجاه، إلا أنها سحيقة الأغوار بحيث تتسرّب إلى أزقّة المدينة ومتاهاتها. وتلك الأضواء الفلسفية التي يسلّطها أدونيس على بطله وهو يتخطّى الواقع في لحظات الحب والحلم والموت تعطيها أبعاداً غامضة دون أن تفقدها شاعريتها. ومن المرجّح أن اعتماده على الفلسفة هي محاولة ليتخطى عالماً مغلقاً كعالم الشرق الغائب تحت الأنقاض وغبار الماضي.

المشكلة الرئيسية التي يواجهها بطل أو إنسان "المسرح والمرايا" فيما إذا صح لي تسمية عالم الشاعر الكبير الذي يتلامح بين الكلمات بطلاً مفرداً، هي مشكلة الموت. إن مشكلة الموت تتحول في رأسه وتدق كالناقوس:

أنا النار، والموت عشيق
كشهوتي مسنونُ
وتفتّحتُ يطلعُ الموتُ في نهديّ

ولا يلبث القارئ حتى يكتشف أن الموت هو موضوع أدونيس المفضل، وأن الحياة صعود شاق ومنهك، والموت هو الذروة التي يلفظ عليها القارئ أنفاسه لمن حُكم عليه بالنمو عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل. وعالم أدونيس يبدأ من تلك الذروة:

أبدأ من جنازة امرأة
صرختي الأولى حنين كون
تطاولت
وانحفرت كالنهر...

وإذا كان الموت هو الحليب الذي رضعه الكون منذ طفولته فالحب هو المشروب المخفِّف لهذه المرارة. بل إن كليهما ممزوج بالآخر مزج الروح بالجسد:

الصخرة ماء
والأعضاء شتاء بارد
والحب نوارس ليلية
تتناسل في أعشاش الموت».

«حنجرة الومض وجراثيم الخنّاق»، لحيدر حيدر:
تقول سنية صالح: «إنسان القصة هنا محاصر بالإثم الذي يضرب نضارته الإنسانية بسياط من الوحل ويظل يتفشى في جسده كالداء حتى يغلبه. ولكن كلما شارفت الصورة على النوم، جاء المؤلف يوقظها. يخلق لها الضد أو الصورة المعاكسة. فبعد اليأس المفزع يأتي الأمل ساعياً إلى الشخوص على قدمين فتيّتين».

في «الأمتعة الهاربة» تأخذنا سنية صالح في نزهة إلى قصة أرنست همنغواي «فيما كانت العربات المحملة بالعجائز والأطفال والصناديق والأمتعة تغيب هاربة من نيران المدافع.. تباطأ رجل عجوز على طرف الجسر وراح يتأمل قريته المقصوفة بالقنابل بنظرة جوفاء وملامح مجهدة من التعب، وهو يتمتم:
ـ ستكون الهرّة على ما يرام. أنا متأكد من ذلك. ولكن ماذا عن الحيوانات الأخرى؟
ومن وسط الهزيمة والمنهزمين سأله صوت ما:
ـ هل تركت باب قفص الحمام مفتوحاً؟
ـ نعم.
ـ إذن ستطير..
وتمتم العجوز: أجل ستطير.. ولكن ماذا سيحل بالحيوانات الأخرى؟».

وتتساءل سنية صالح: «ترى أهي حمامات بالفعل تلك التي عناها أرنست همنغواي في أقصوصته الرائعة "رجل عجوز عند الجسر"؟ حمامات حقيقية لها أجنحة ومناقير وقوادم تحلّق عاماً أو عامين ثم تلوى أعناقها وتموت؟ أم يعني طيوراً من نوع آخر سوف تحلق وتحلق إلى الأبد فوق هذا العالم وغاراته الأبدية، ناثرة الملح في جراحنا الملتئمة، لنتذكر جراح الآخرين، أو حتى لا ننسى كم هناك من الحملان والخراف والأطفال المرتعدة، في ظلمات الأسر والحظائر بعد أن فاتتها زوارق النجاة وعربات الناجين أو الهاربين؟ بل ترى كم من الالتفاتات الطويلة، وكم من الجسور المطلة على الخرائب والنيران يلزم نفوسنا لنتذكر رماد الآخرين؟».

وعن ديستويفسكي في «انتصارات الجوع»، تتساءل إن كان «ديستويفسكي بحراً لا ينضب مهما سطعت فوقه شمس التاريخ، أم كنزاً لا يعتوره الشحوب مهما التهمته العيون؟ أم جزيرة متوحدة ومنيعة وسط أمواج الرتابة والظل في هذا العصر وكل عصر؟ من "المقامر" إلى "الأبله" مروراً بـ "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كارامازوف". خيط من الآلام البشرية يغزلها ذلك القلم المروي بالدم أكثر مما هو مروي بالحبر. يكشف الحجب، ويخترق الحواجز. بصفاء الشمس وصلابة الماس، لا يترك ذرة في النفس البشرية إلا ويسلط عليها من ضوء فكره ما يجعلها تتوهج، وتنتفض خلال الصفحات انتفاض الفراشات المحتضرة عندما تداعبها نسمات الربيع.

وبقدر ما يتحول قلمه إلى سهم جارح في العوالم التي يخوضها، ويطرق أبوابها وحصونها، بقدر ما يتحول هذا القلم إلى زهرة تقطر ندى وتضوع عطراً في عالم الأطفال. الأطفال الفقراء المشردون في الثلج، وفي الأوحال، وهم ينظرون بعيون دامعة إلى دخان المدافئ وحرير القصور. حتى ليكاد القارئ أن يلمس شعورهم ويتنشق رائحتهم، ويخرج المنديل من جيبه ليمسح دموعهم.

الطفولة عند ديستويفسكي دائماً نبيلة وحنونة ومشتهاة. وهو إذ ينفي أصالة الشر في قلب الطفل إنما يحمّل المناخ الإنساني مسؤولية كل شر لاحق في المستقبل. لأن الشر في نظر هذا الكاتب الفذ لا ينبع من الطفولة، أو لا يجري مع نسغها الرقيق الصافي كشيء مسلم به، بل كدخيل تفرضه الظروف الأكثر تحطيماً واحتقاراً لأحلام الطفولة وبشاشة رؤياها. مثله كمثل الغبار الذي يتراكم على البراعم، عندما تجف أنهارها أو تبتعد عنها.

إنها الطفولة التي تنقلب إلى رائحة نفاذة ومضنية في كل سطر وكل كلمة، الطفولة التي تجعل القارئ أكثر التصاقاً بالتاريخ، وأعمق تلاحماً مع المستقبل، مانحة ذاكرته المشوشة بفعل الانهيارات المتعاقبة، ذلك الشوق المتوسل اللجوج إلى بذرة السلام الرابضة بكل براءتها ونقاوة سريرتها في أعماق النفس البشرية. كما يرقد ديستويفسكي الآن تحت ثلوج وطنه ليشيع الدفء فيه وفي كل الأوطان».

في «سقراط هو قطة»، تتكلم سنية صالح عن براعة يوجين يونيسكو الكاتب المسرحي، وسؤاله:
«أنّ القطة مخلوق فان، وأن سقراط أيضاً فان، لذلك فإن سقراط قطة، فهل نضحك أم نبكي؟».
ثم تتساءل بدورها «لماذا ترافق كوميديا يونيسكو تلك الغلالة الهفهافة من الجدل المسلّي والتي تنزلق رويداً رويداً من أعمدة المسرحية ونفوس أبطالها، لتكشف عرياً بشرياً يفتت الأكباد؟ لأن يونيسكو يحاول أن يكشف مأساة الوجود الإنساني بالكوميديا، لأننا في الوقت الذي نضحك فيه من تخبّط أبطاله وحيرتهم وسذاجتهم وميكانيكيتهم وقطيعيتهم، نكتشف أنفسنا فيهم وكأننا أمام مرآة صاخبة نرى فيها وجوهنا، ونواجه مأساة وجودنا.

ولذلك فإن مسرحيات يونيسكو تمنع الجنس البشري من أن يكون قطيعاً من الأرانب الهاربة من ضجة الواقع، تشدّنا كالحبال اللزجة إلى الواقع، وإلى اتخاذ موقف وجودي عار من كل زينة، كما يقول هو نفسه: "لقد ألفنا في حياتنا أن نزيّن العالم، وأن نلبسه نفوسنا ومثالياتنا، وأن نصوغ من التطورات ما ينسّق لنا الوجود ويضبطه ويروضه ويجعله إنسانياً".

والغريب أن يونيسكو ينزعنا نزع الشعرة من العجين من عالم الحلم وعالم الشعر إلى عالم الواقع، بلغة الشعر، دون أن يصدمنا بتهويل أو يقبض علينا بتكرار، مع أن حواره من أول المسرحية إلى آخرها خيط طويل يدور حول بكرة واحدة حتى ليصاب جميع أبطاله بالضياع والدوار. "الخرتيت" هي بداية مرحلة جديدة في أدب يونيسكو حيث البطل يتخطى الدوار والضياع والاستسلام ويقف وحيداً في آخر المسرحية يواجه مصيره بشجاعة ويقرر مهاجمته واقتحامه.

ومن المفارقات المضحكة المبكية في هذا التحول العظيم أنه ما أن يشفى البطل من الدوار حتى يصاب به المشاهد دون أن تضيع الدلالات الكبرى ـ المختزنة من فصول المسرحية ـ حتى بعد إغلاق الستارة بساعات بل بأيام».

ومن المقالات النقدية «هل يمكن أن تصبح القصيدة رغيف العصر؟»، وفيها تحاور سنية صالح ممدوح عدوان ومحمد عفيفي مطر.

أما «مقتطفات من أوراق مبعثرة» فليست إلا تدفقاً لشاعرية قلم سنية صالح بعنف وصدق لا مثيل له:
«إن محاولة القفز إلى شواطئك كمحاولة ردم البحر. الرعب مرسوم على الأبواب، الرعب على الجدران».
«إنك نسر من الأفراح، ونسر من الشعر. غدائر الحزن تفقد ذاكرتها».
«تطفو كما يطفو الأطفال على العشب».
«الطاولات ترفرف كالأجنحة. الهمس ينبعث من بين الأشجار كأوراق الذاكرة الحزينة».
«الكآبة هي كرّاستي الوحيدة، أسجّل عليها عمري. مشاعري تلتهب وراء الأذنين، كما تلتهب الأصابع من الحمّى».
«كنت باستمرار أتفقّد أحلامي لأتأكد أنها ما تزال مرعبة وحادّة كرأس الرمح. جميلة ومنعشة كالأقحوان».
«- انظري إلى السماء. كم هي جميلة وحنونة هذه النجوم».
«- إنها حقاً كذلك. لكن تصوّر لو أنها هبطت إلى الأرض».
«أتمنى لو أقضم كلماته الدقيقة الناعمة كما تأكل العصافير أغنيات الليل الهادئ. يا لهذه الحروف المغزولة بشكل غريب وسرّي!».
«في غرفة الليل أبحث عن حكايات الأميرات المنتحرات، وفي غرفة النهار أعرف كيف أزيّن شعري بالورود».
«من يدرك عمق السعادة التي يشعر بها الإنسان عندما يغمر قدميه في مياه البحر ويجلس كصياد فاشل على صخرة موحشة قرب صوت البحر ورائحة أملاحه؟ جرح يرفرف قرب البحر. جرح تغمره رائحة البحر، موسيقى تومئ لقارب حزين يتهادى غير مبال فوق أفكاره. وأرواد الصغيرة بين الأمواج ترسم البحر كجثة تتخبط بدمائها. صوت المغني يأتي من بعيد يعذّب قلب المحب ويطير طائشاً كالسهم. فكيف يصيبنا؟».

كما نذكر من «مقتطفات مبعثرة» للشاعرة سنية صالح: «مشهد»، «الطائر الذي هوى»، «حوارات بعنوان حين تكون الضحية أكثر إشعاعاً من النجوم»، وهو حوار مع سنية صالح أجراه محمد الماغوط.

يسألها: شعرك مليء بالحساسية والطفولة الآسرة، ولكننا لسنا في عالم أطفال كما ينبئ الواقع الذي نعيش فيه. ولذا ألا تشعرين بتأنيب الضمير وأنت تكتبين بمعزل عن قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً من عذاب امرأة غير متآلفة مع بيئتها وغير مستقرة على أرضها؟

ـ فتجيب: قد لا يبدو العالم الذي خصصته بشعري إلا بحيرة أطفال. أو على الأقل كما تراه أنت، لكنها على كل حال مسوقة برياح العالم الكبير. أما أنا فلا أرى نفسي متفرّغة للطفولة بالقدر الذي تراه، إلا عندما تحنّ ذاكرتي السوداء إلى صور البدايات الأولى لأنها تتمتع بجاذبية مدهشة.

سنية صالح كانت الأم، المرضعة، الحب، والمرض لمحمد الماغوط. وكان رأيها أساسياً في كتاباته، فإذا قالت «حلو» يشعر باطمئنان كبير. فهي معلمته الأولى في الشعر وفي الحياة. كان محمد الماغوط يجلس بقربها على فراش الموت، يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، وكانت هي ترد في عبارة لا تُنسى: «أنت أنبل إنسان في العالم».

رحيل سنية صالح



توفيت الشاعرة الكبيرة سنية صالح في دمشق، في 17 آب 1985. لكن شموعها لم تنفذ من بيوتنا، شموع لا يمكن أن يُدرك ضوؤُها إدراكاً كاملاً. فالإبداع كما تقول سنية صالح «هو المشادة بين نسيج الحلم الوحشي القائم في موقع التطرف والانفلات وبين اللغة المحكومة بالقوانين. وهذا الكائن المراوغ ما تكاد تقترب منه حتى يتلاشى أو يغيّر شكله، أو يتسرّب من منافذ أخرى. وغالباً ما تخطئ الكتابة هذا الحلم الشعري، وتقبض على ظلاله وآثاره. ما أن نتجه نحوه بالوعي والإرادة وقوانين اللغة والأشكال حتى نجد أنفسنا بعيدين. هذا التأرجح الذي يلازم الحالة الشعرية، هذا التأرجح الحار المعذب يؤدي إلى إلغاء الضبط الذي يخضع الصورة ويُحدّدها، وهو كثيراً ما يشطرها تاركاً أحد شقّيها ينزف في منفى الشك والحيرة والشطر الآخر في سجن اليقين. وحالة النزف الشعري حالة غريبة، إنها شبيهة بجراح شيشرون التي لا تشفى، ولكنها لا تبلغ حدّ قتل الصورة أو تلاشيها، بل قد تغذيها أو تحييها بالألم والتصدّع. لأن هذا التصدّع يمنح العمل الشعري حيويته ويشكل الثغرة التي منها يطل القارئ على ذلك الجوف المتعدد الأحشاء، المتعدد الذاكرات المتعدد الجذور الذي هو الشاعر».

وستبقى الشاعرة سنية صالح ضد «تركيبة» المجتمع في معظم معتقداته وسلوكه، لاسيما في رؤيته وتصوراته المتصلة بالحب.