القائد المؤسس حافظ الأسد

القائد المؤسس حافظ الأسد

نجم الأسبوع

الأحد، ١٠ يونيو ٢٠١٨

القائد المؤسس حافظ الأسد:

هو رئيس الجمهورية العربية السورية، والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي منذ عام 1971. مناضلٌ صلب، ورجل دولةٍ بارز، وسياسيٌّ محنّك، وعسكريٌّ خبير، واستراتيجيٌّ وتكتيكيٌّ بارع.

قاد الحركة التصحيحية في الحزب والدولة , ليرسي في تاريخ سورية الحديث دعائم عهدٍ من الاستقرار والنهضة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية , بعد أن كانت الفوضى والانقلابات العسكرية تعصف بالبلاد منذ استقلالها في عام 1945م.

هو حافظ بن علي بن سليمان بن أحمد بن إبراهيم. كان جدّه الأكبر إبراهيم زعيماً لفخذ من أحد القبائل العربية التي هاجرت قديماً من اليمن إلى بلاد الشام، واستقرت في أحد جبال اللاذقية المشرفة على الساحل السوري، واستقرّوا في بلدة ( القرداحة) حيث ولد حافظ الأسد في السادس من تشرين الأول عام 1930 م.

ويعود أصل لقب الأسرة «الأسد» إلى جده سليمان الذي عرف بجرأته وقوته البدنية، فأطلق عليه أقرانه لقب ( الأسد ) وقد ورث والد الرئيس الأسد، علي سليمان المولود عام 1875م صفات أبيه سليمان في القوة والشجاعة, وكان متعلماً في زمن قلّ فيه من كان يُلِم بمبادئ القراءة والكتابة.

ووالدة حافظ الأسد هي المرحومة السيدة «ناعسة بنت عثمان عبّاد» سليلة أسرة ريفية مرموقة اجتماعياً، من قرية ( القطلبة) الجبلية، وقد كان لحنانها وقوة شخصيتها أثر كبير في نشأة ابنها حافظ.

وفي ظل هذا الإطار الأسري الريفي ولد حافظ الأسد، وفي القرداحة درس المرحلة الابتدائية، ثم تابع تعليمه الإعدادي والثانوي في اللاذقية (ثانوية جول جمال اليوم) حيث شارك في الحركة الطلابية بنشاط ملحوظ، وفي أول مؤتمر طلابي عقد في اللاذقية بتاريخ 30/3/1950 انتخب حافظ الأسد رئيساً لهذا المؤتمر، واستمر في هذه المهمة حتى نال شهادة الدراسة الثانوية.

وكان القائد المؤسس حافظ الأسد ينوي دراسة الطب والتخصص فيه بعد حصوله على الثانوية العامة، ولكنه عدل عن ذلك وتطوَّع منتسباً إلى الكلية العسكرية عام 1952، ثم اختار التخصص في الطيران، فالتحق بعد ثلاثة أشهر بالكلية الجوية في حلب ليكون من دورة الطيارين الأولى التي تخرجت في سورية بعد الاستقلال، وأبدى تفوقاً بارزاً في التدريب، وتخرج طياراً مقاتلاً برتبة ملازم في مطلع عام 1955 وكان الأول في دورته.

وفي العام 1955 نفسه , أوفد القائد الخالد في بعثة عسكرية دراسية إلى مصر للتدريب على الطيران النفاث، ورفع إلى رتبة ملازم أول طيار في مطلع تموز 1956.وفي مطلع عام 1958 , أوفد الملازم الأول الطيار حافظ الأسد إلى الاتحاد السوفييتي (سابقاً) لاتباع دورة طيران ليلي، وأنهى هذه الدورة بتقدير ( امتياز) ، ثم رفع إلى رتبة نقيب طيار في الأول من كانون الثاني عام 1959. وفي عام 1958, تزوج من السيدة أنيسة بنت أحمد مخلوف، ابنة عمته.

وفي ظل الوحدة بين سورية ومصر ( الجمهورية العربية المتحدة) , أوفد حافظ الأسد مرة أخرى إلى مصر في آذار 1959 لاتباع دورة قائد سرب، وفي تشرين الأول من العام نفسه نُدِب مع سرب للطيران الليلي إلى القاهرة. وبعد واقعة انفصال سورية عن مصر في 28 أيلول 1961 فرضت السلطات المصرية عليه الإقامة الجبرية، ثم زجَّ في سجن ( أبي زعبل) هناك.
وبعد عودته إلى سورية , أُبعِد عن القوات المسلحة بقرار من حكومة الانفصال في 2/12/1961 بسبب مواقفه المناهضة لهذه الحكومة والمدافعة عن الوحدة، ونقل إلى إحدى الوزارات، لكنه لم يلتحق بالعمل فعلياً.

وكان القائد المؤسس إبّان وجوده في مصر عام 1960، قد شارك في تأسيس( اللجنة العسكرية) المؤلفة من الضباط البعثيين الموجودين هناك رداً على قرار قيادة الحزب حلًَّ نفسه آنذاك، وعمل مع أعضاء اللجنة العسكرية المذكورة على إعادة تنظيم الحزب وإعادة الوحدة.

وفي آذار 1962 شارك في حركة الضباط الأحرار التي انطلقوا بها من مدينة حلب لإنهاء حكم الانفصال، وحين أخفقت هذه الحركة توجه الأسد إلى لبنان حيث ألقي القبض عليه وسُلّم إلى السلطات السورية التي زجت به، مع عدد من رفاقه، في سجن ( المزة ) بدمشق.

وبعد خروجه من السجن تابع مع رفاقه من الضباط في اللجنة العسكرية الإعداد لثورة الثامن من آذار، وبنجاحها عاد الأسد إلى القوات المسلحة برتبة رائد جوي. وتقديراً لدوره الكبير في الإعداد للثورة وإنجاحها , عُيّن عضواً في المجلس الوطني لقيادة الثورة، كما عُيّن قائداً للواء الجوي السابع، فقائداً لقاعدة عمر صفر الجوية( الضمير) وفي عام 1964 حصل على شهادة دورة أركان طيران، وانتخب في مؤتمرات الحزب عضواً في القيادة القطرية, ثم عضواً في القيادة القومية للحزب.

وفي الثاني من كانون الأول عام 1964 رُفِّع إلى رتبة لواء جوي وعُيّن قائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي.
كانت ثورة الثامن من آذار 1963 وقيادتها في حاجة إلى خبرة كافية، وممارسة عملية في قيادة الجماهير والدولة، ولذا فإن هذه التجربة أسفرت في البداية عن بعض الخلافات في وجهات النظر داخل الحزب، واتسعت هذه الخلافات بين الحزبيين الذين كان قسم منهم يمثل القيادة المتطرفة واليسار المتسرع.

وكان القائد المؤسس حافظ الأسد رحمه الله يتابع بوادر تلك الأزمة، ويحاول تجنيب البلاد عواقبها بالاحتكام إلى الحوار الموضوعي في المؤسسة الحزبية، إلى أن حَسَمت حركة 23 شباط 1966 تلك الخلافات فوضعت سورية والحزب على الطريق السليم.

وفي هذا التاريخ سمِّي وزيراً للدفاع ، ومن موقعه هذا سعى بكل طاقته إلى تعزيز بناء القدرة العسكرية للقوات المسلحة السورية وتحديثها، والتوجه إلى إعادة الوحدة مع مصر، وترسيخ العلاقات مع الدول العربية الأخرى. وفي الخامس من حزيران 1967 , شن الصهاينة عدوانهم على سورية ومصر والأردن واحتلوا أراضي من الدول الثلاث، وكان من آثار هذا العدوان اشتداد الخلافات في القيادة الحزبية مما جعل الأسد موزعاً بين حل الخلافات في الحزب، وبين السعي الحثيث لإزالة العدوان وتحرير ما احتل من الأراضي السورية بالأساليب السياسية في إطار المنظمات الدولية ومؤسساتها القانونية، وبحرب الاستنزاف التي استمرت على الجبهة السورية عدة أشهر.

وفي الأول من تموز عام 1968 , رفَع اللواء الجوي حافظ الأسد إلى رتبة الفريق الجوي، وبدأ مجدداً العمل على إنجاز كل ما كان خطط له كوزير للدفاع. ولم ينجح الحزب في حل الخلافات التي راحت تعصف به مرة أخرى، ولا استطاع المؤتمر القومي العاشر للحزب الذي عقد في دمشق أوائل تشرين الثاني من عام 1970 أن يصل إلى صيغة مقبولة للتفاهم، وأمام هذا الإخفاق في الخروج بالحزب من تلك الأزمة , قاد الفريق الجوي حافظ الأسد، عضو القيادتين القطرية والقومية للحزب، في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 الحركة التصحيحية ليضع حداً للخلافات التي وصلت إلى طريق مسدود ووضعت القيادة الحزبية والحزب في مأزق خطير.

وفي الواحد والعشرين من تشرين الثاني عام 1970 تولى حافظ الأسد رئاسة مجلس الوزراء، بعدها انتخب رئيساً للجمهورية العربية السورية في الاستفتاء الشعبي العام الذي جرى في الثاني عشر من آذار 1971، كما انتخب أميناً قطرياً لحزب البعث العربي الاشتراكي في المؤتمر القطري الخامس يوم الرابع عشر من أيار 1971.

وفي المؤتمر القومي الحادي عشر المنعقد في الثالث من آب 1971 انتخب أميناً عاماً للحزب، وأعادت المؤتمرات الحزبية، القطرية والقومية بعد ذلك انتخابه لهذين المنصبين، كما أعيد انتخابه رئيساً للجمهورية في الثاني عشر من آذار 1978، وفي الثاني عشر من آذار 1985، ثم في الثاني عشر من آذار 1992، وفي الثاني عشر من آذار 1999.


شخصيته ونهجه السياسي:
القائد المؤسس حافظ الأسد شخصية سياسية نشأت في إطار حزب سياسي قومي ذو تنظيم ومبادئ تقوم على أسس من الوحدة العربية، والحرية والاشتراكية. ومن البديهي أن يكون الأسد قد تشبَّع بما اعتنقه من الأفكار والمبادئ، وتسلح بها للعمل السياسي العام. ولعل أبرز ما اعتمده الرئيس الأسد في نهجه السياسي إيمانه بالتنظيم، والاعتماد على الذات.

ومن هنا كان التنظيم الحزبي بقيادته أكثر إحكاماً وتماسكاً في التزام المبادئ والمنطلقات النظرية التي قررتها مؤتمرات الحزب. وإذا كان نهجه في التنظيم ثمرة ما اكتسبه من تجربة طويلة في المؤسسة الحزبية، وفي المؤسسة العسكرية، فإن إيمانه بفكرة الاعتماد على الذات تأسس عنده على ثقة عميقة بقدرات الأمة العربية وطاقات أبنائها على تحقيق الإنجازات الكبرى في ميادين البناء والتنمية.

ولإنجاح مبدأ الاعتماد على الذات حضّ رحمه الله دائماً على ترسيخ أسس الوعي، وتطوير البحث العلمي، وتحديث المؤسسات وأجهزتها، وتنمية الإحساس بالمسؤولية، وإعداد الطاقات البشرية لاستثمار إمكاناتها, فحشد الطاقات وزجُّها في معركة التنمية من أبرز دعائم النهج السياسي عند الرئيس الأسد، وإيمانه بالإنسان قضية تحتل المنزلة الأولى في نهجه وتفكيره، ومن هنا ركز دائماً على وحدة الجماهير، ووضع في حسبانه وحدة القوى العربية، أو التضامن العربي، أو أي تسمية تحقق قدراً مقبولاً من التماسك العربي بالمنظور الاستراتيجي.

وكان القائد المؤسس قائداً استراتيجياً, تصوراً وتخطيطاً , فعلى الصعيدين القطري والقومي، لم يكن رهين الأزمات الطارئة، أو الضغوط المرحلية، وإنما كان يسمو فوقها أياً كانت خطورتها، وصولاً إلى الرؤية الاستراتيجية الأكثر بعداً، والأنقى تاريخياً. وهذه الرؤية السياسية , تنمّ على تمثّل لحركة التاريخ( وقد كان رحمه الله قارئا حصيفا للتاريخ ) ومؤمنا بقوة بأن الحلول الحاسمة بيد الشعوب.


وكان رحمه الله رجل مبدأ، أو رجل الثوابت المبدئية كما عبَّرت الصحافة العربية في كثير من المناسبات والتحليلات، وقلَّما يخلو حديث أو خطاب له من الإشارة إلى مبادئه الكبرى، ولاسيما الوحدة العربية. ولقد نجح النهج السياسي للقائد المؤسس في تأكيد قوة سورية وتقدمها، وفي أن يكون لها وزن راجح في السياسة الدولية، وكان من الطبيعي، مع هذه السياسة والحكمة والمصداقية، أن يغدو شخصية عالمية، وأن يكون موضع اهتمام القادة ورجال الفكر والسياسة والإعلام، وتجلَّى هذا الاهتمام في سلسلة من الكتب التي تناولت شخصيته وسيرته الذاتية وسياسته بالدراسة والتحليل والتأريخ , فبلغت ما يربو على ستين كتاباً ًلمؤلفين فرنسيين وإنكليز وبولنديين ويهود وعرب، ناهيك عن الشعر والأبحاث والمقابلات والتحقيقات التي كان محورها وعنوانها ومحل تقديرها.

من أبرز الإنجازات في عهده :
كانت سورية قبل ثورة الثامن من آذار وقبل الحركة التصحيحية مسرحاً للحركات السياسية والانقلابات والاختلاف الحزبي، وأحياناً الاقتتال، وعندما تولى القائد المؤسس مهام السلطة في البلاد سعى جاهداً إلى تغيير هذه الصورة من الاضطراب والقلق , بتعزيز الجبهة الداخلية ومدّ جسور الترابط والتماسك بين الحزب مبادئاً وأهدافاً وأساليب عمل، وبين الواقع الاجتماعي، وحركة الحياة بما يرضي تطلعات الجماهير أو يحقق لها قدراً مقبولاً من الوفاق والاستقرار.


ومن ثم دعا إلى المشاركة الشعبية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إطار من المنظمات والمؤسسات المتنوعة التي ترسخ سلطة الشعب وفق منظومة من العلاقات. وفي ظل الحركة التصحيحية , تمّ تشكيل مجلس الشعب عن طريق الانتخاب المباشر لممثلين عن الحزب والمنظمات الشعبية والمهنية والقوى والعناصر التقدمية وبمشاركة المرأة في الترشيح والعضوية. وبدأ المجلس ممارسة التشريع , فأقرّ الدستور الدائم، واستكملت البنى والمؤسسات الدستورية على أساس من التعددية السياسية في صيغة تنتظم القوى الوطنية والتقدمية.

وقامت الجبهة الوطنية التقدمية, التي تضم ستة أحزاب مع الحزب القائد، حزب البعث العربي الاشتراكي (وقع ممثلو القوى الوطنية التقدمية ميثاق الجبهة في السابع عشر من آذار 1972) , فاتسعت بذلك المشاركة الحزبية و الجماهيرية في الحكم، وأُشركت ( الجبهة الوطنية التقدمية) في اتخاذ القرار وبتّ الشؤون المصيرية في البلد، مثل خوض حرب تشرين عام 1973، ودخول الجيش السوري إلى لبنان لوقف الحرب الأهلية هناك عام 1976 ، وقرار معارضة الغزو العراقي للكويت عام 1990، وقرار مشاركة سورية في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.

وتم في ظل قيادته , تحقيق بنية اقتصادية قوية ترتكز على قاعدة متعددة الأنماط الاقتصادية متمثلة بالقطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع المشترك، والقطاع التعاوني من أجل التنمية الاقتصادية بزيادة الإنتاج وتحسينه، وبذلك أفسح المجال لإسهام الجميع في بناء اقتصاد وطني يعتمد على الذات ويطمح إلى تنمية شاملة, وفي الوقت نفسه يمتّن الوحدة الوطنية ضمن إطار ديمقراطي يشمل جميع فئات الشعب.

ومع تعزيز الجبهة الداخلية بإرساء دعائم الديمقراطية، عمل جاهداً على إشاعة الأمن واستتبابه وتقوية أسس الاستقرار الداخلي بالتركيز على ( بناء الإنسان) في وعيه وإرادته. وخصص قسطاً وافراً من وقته وجهده لتطوير بناء القوات المسلحة ورفع قدراتها القتالية، وإعدادها إعداداً عقائدياً لتحمي الشعب وتقوم بواجبها الوطني ورسالتها القومية التاريخية، مثلما فعلت في حرب تشرين المجيدة، وحرب الاستنزاف سنة 1973.

وبرعايته تحققت نهضة حضارية شاملة تجلت في حصر الموارد الطبيعية وفي تعدد الصناعات وتطوير الزراعية وتنويعها، والتكامل بين الزراعة والصناعة، وإقامة السدود وشبكات الري وزيادة مساحات الأراضي المزروعة اعتماداً على نتائج الأبحاث العلمية المتنامية.

ويمكن القول في اختصار: إن القائد المؤسس لم يترك جانباً واحداً من جوانب الحياة العامة إلا أولاه فضل عناية واهتمام بالقدر الذي يتفق وأهميته في تقدم سورية وتطور مجتمعها وضمان حياة مستقرة لمواطنيها.


على الصعيد القومي:
أدرك القائد المؤسس بتجربته الحزبية الطويلة وتحليله السياسي عوامل القوة والضعف في الوطن العربي ، وخلص إلى أن (سبيل العرب إلى قوتهم ترتكز على وحدتهم) . ومنذ فجر الحركة التصحيحية , بدأ الأسد محاولة وضع شعار الوحدة موضع التنفيذ، سواء في تجارب وحدوية، أو في صيغة التضامن العربي التي ( تبدأ بإزالة عوامل التوتر والقطيعة، وتنتهي بشكل عال من أشكال التنسيق) .

وكانت الخطوة الأولى عملياً في ظل قيادته, الشروع بإخراج سورية من عزلتها بتوقيع الاتفاقية العسكرية بين سورية ومصر في 26 تشرين الثاني عام 1970، أي بعد أيام قلائل من قيام الحركة التصحيحية، ثم المشاركة في إقامة اتحاد الجمهوريات العربية مع مصر وليبيا وكانت حرب تشرين بقيادته عام 1973 التحقيق العملي لهذا التضامن العربي، ونقطة تحوّل في مسار تاريخ الصراع العربي الصهيوني، والخطوة المهمة في الانتقال بوعي الجماهير العربية في حال الإحباط والتشتت إلى حال التماسك واستعادة الثقة بالذات العربية.

وعلى الصعيد القومي أيضاً كان اهتمام الأسد بلبنان كبيراً، فقد لبّى نداء الشرعية اللبنانية بعد تفاقم الحرب الأهلية التي نشبت هناك عام 1974، إذ بادر في حزيران 1976 إلى إنهاء اقتتال الأخوة في هذا البلد الشقيق من منطلق الحفاظ على وحدته أرضاً وشعباً، وإشاعة الأمن والاستقرار في ربوعه، والمحافظة على انتمائه القومي، وبعد سنوات من الجهد والبذل تم التوصل إلى اتفاق ( الطائف) عام 1989، وتوّجت جهوده بالنجاح في إعادة الشرعية إلى لبنان وفي إحلال الأمن، بالتعاون مع السلطات اللبنانية، في معظم أراضيه ما عدا المناطق التي كانت ما تزال تحتلها إسرائيل من جنوبه.

وبعد أن سافر السادات إلى القدس جرياً وراء السلم المنفرد في عام 1977 , صمد القائد المؤسس وحده في وجه هذه الردة وسعى إلى بلورة موقف قومي عربي في إطار ما سمي ( بجبهة الصمود والتصدي) و( ميثاق العمل القومي) ، وعمل على تحقيق التوازن الاستراتيجي بمفهومه الحضاري الشامل، على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية، تأسيساً لمشروع حضاري قومي عربي تنجزه الأجيال المقبلة ليكون في مواجهة المشروع الصهيوني.

وتصدى الأسد لجميع المحاولات التي كان من شأنها إضعاف العرب أو النيل من استقلالهم، أو من تضامنهم، واتضح هذا خاصة بعد إبرام اتفاقية الذل والعار ( كامب ديفيد) ، إذ لم يسمح القائد المؤسس للموقف العربي أن يوالي التدهور أكثر، بل دعا إلى مواجهة المخططات الأمريكية والصهيونية بكل وسيلة ممكنة، مما أربك أمريكا فحركت عملاءها المأجورين المتاجرين بالدين تحت اسم (الإخوان المسلمين) ، وبهدوء أعصاب واجه الأسد هذه المؤامرات وأوقف سفك دماء الأبرياء بحزم الحريص على الشعب وأمنه واستقراره. واستنكر الأسد الحرب العراقية الإيرانية وسماها ( الحرب المجنونة ) ، ورأى فيها هدراً لطاقات البلدين واستجراراً للأقطار العربية إلى معركة مع غير العدو.

في حين أصدر أوامره إلى القوات المسلحة السورية على الأراضي اللبنانية بمواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، ودعم القوات بتشكيلات إضافية دافعت بشرف عن الجنوب وبيروت والبقاع، وتمكنت من إيقاف هذا الغزو بعد أن قدمت تضحيات جسيمة. وقدّم للمقاومة الوطنية هناك جميع أنواع الدعم، وكان بهذا الدّعم يحمي أيضاً القضية الفلسطينية وأداتها الثورية وفصائلها في إحدى جبهاتها الساخنة، كما كان يحول دون التقسيم الطائفي والجغرافي للبنان، ويستنزف طاقات إسرائيل ويضعها أمام مأزق حرج, وقادت جهوده إلى إلغاء اتفاق 17 أيار 1983 الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإخفاق التام.

وأولى القائد المؤسس القضية الفلسطينية جُلَّ اهتمامه وجهده، وبذل مساعيه المتواصلة من أجل تحقيق الحل العادل والشرعي لهذه القضية، وكان حق الفلسطينيين بوطنهم ودولتهم المستقلة محور نضاله القومي، ولهذا رفض الاتفاقات المنفردة مع إسرائيل وانتقد من أقدم عليها. وأوضح مراراً للعرب وللعالم تصوره للسلام المراد , السلام الذي يعيد الحقوق كاملة غير منقوصة وحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير , لا الاستسلام للعدو والتفريط في الحقوق وقال عبارته المشهورة : إذا لم نستطع أن نورث الأجيال القادمة نصرا يعتزون به .. فعلى الأقل لا ينبغي أن نورثهم هزيمة يلعنونا عليها .

وكان رحمه الله حريصاً على العلاقات العربية وتماسكها، مترفعاً عن الخوض في الصغائر، صافحاً عن الإساءات التي صدرت عن بعض الحكام العرب، معلياً شعار التضامن العربي على ما سواه من الأمور العربية العارضة.
وانطلاقاً من هذا الحرص على العلاقات العربية رفض احتلال العراق للكويت في 20 آب 1990، ولذلك أسهمت سورية بقوات مسلحة، مثلما فعلت مصر لمواجهة هذا الغزو وإعادة الأوضاع العربية إلى ما كانت عليه. وكثيراً ما سعى إلى حل الخلافات العربية ـ العربية بالتوفيق بين وجهات النظر المتباعدة والدعوة إلى تجاوز الفتور في العلاقات، كما فعل حين فاجأ العالم بحضوره إلى عمان للمشاركة في تشييع جنازة الملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية في مطلع عام 1999م، مع ما كان بين القطرين الشقيقين، سورية والأردن، من فتور عارض في العلاقة.
ولعل في زيارة الملك عبد الله بن الحسين لسورية في نيسان 1999 ما يدلل على سلامة هذا التوجه العربي.

عمل القائد المؤسس على بناء علاقات متينة بعدد من الدول الصديقة وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي (سابقاً)،والدول التي استقلت عنه، وكذلك بعدد من دول شرقي أوربة، ودول أخرى في قارات: أوربة وإفريقية وآسيا وأمريكا. واتسع بأفق العلاقات بالدول النامية في القارات الثلاث الأخيرة ولاسيما الدول الداعمة للحق العربي وللأمة العربية في المحافل والمنظمات الدولية والإقليمية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. وأسهم إسهاماً فعالاً في حركة دول عدم الانحياز وتنشيط فاعليتها في العلاقات الدولية.

وسعى إلى الإفادة من هذه العلاقات في نصرة القضايا القومية، وفي صدارتها القضية الفلسطينية التي تمثل جوهر الصراع العربي ـ الصهيوني، كما سعى إلى الإسهام في ترسيخ الأمن والاستقرار والسلام في المجتمع الدولي، وبذل كل جهد ممكن لاحتواء الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية، ولدعم حركات التحرر، ومن هنا جاءت مبادرته في اليونان عام 1986 لعقد مؤتمر دولي لوضع تعريف للإرهاب الإجرامي وإرهاب الدول، والتفريق بينه وبين النضال الوطني من أجل التحرر من المعتدي ( وكان بذلك من أول الداعين إلى التفريق بين المقاومة وهو الحق المشروع للشعوب وبين الإرهاب وهو الجريمة بحق البشرية الأمر الذي ما زالت حتى اليوم تتخبط فيه دول العالم ) ، ودعا إلى الحد من سباق التسلح ونزع أسلحة الدمار الشامل، ولبناء نظام اقتصادي دولي يقوم على المنفعة المشتركة والمصالح المتوازية، وينهي مظاهر الهيمنة على الدول والشعوب، وفي الوقت نفسه بين أن( الوضع الدولي الراهن حالة طارئة في الحياة الدولية يجب ألا تتحول إلى نظام دولي جديد، لأن هذه الحالة تفتقد مقومات النظام الدولي).

أما في إطار العلاقات الثنائية على الصعيد الدولي فقد حقق القائد المؤسس مكاسب سياسية ومعنوية رسخت مكانته وسمعته , فاستقر في وعي العالم كله أنه رجل دولة له ثقله بين قادة العالم كما دللت اللقاءات والمحادثات والتصريحات التي تناقلتها وكالات الأنباء عند لقائه شخصيات عالمية مرموقة كرؤساء كثير من الدول المهمة. وحين أطاحت الثورة الإسلامية في إيران حكم الشاه في شباط 1979 أيَّد الأسد بقوة هذه الثورة وأقام معها علاقات سياسية لأنها نادت، منذ نجاحها، بتحرير بيت المقدس، وبدعم المقاومة الفلسطينية خاصة والقضايا العربية عامة.

وسعى رحمه الله إلى تحقيق السلام الشامل والعادل في المنطقة على مبدأ الأرض مقابل السلام، وعلى أساس استعادة الحقوق العربية كاملة وفق قرارات الشرعية الدولية، وأخذاً بهذا الموقف, شاركت سورية في مؤتمر دولي للسلام عقد في العاصمة الإسبانية مدريد في تشرين الأول عام 1991، وسعت إلى تحقيق وحدة الموقف العربي إزاء عملية السلام للحيلولة دون فرض اتفاقات منفردة في إطار هذه العملية.


وقد أدرك المجتمع الدولي أن القائد المؤسس حريص على السلام العالمي، راغب في أن يسود المنطقة من غير تفريط بشبر من الأرض، أو بحق من الحقوق العربية العادلة، كما أدرك الجميع أن هذا السلام رهن بموافقة الأسد على كل خطوة لتحقيقه، ومن دون هذه الموافقة يصبح عسيراً أو مستحيلاً. وبمجيء حكومة الليكود الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو بدأت عملية السلام عام 1996 تنحرف عن مسارها الذي كان قد رسم لها دولياً، وتتعرض لمخاطر حقيقية بسبب تنصُّل الإسرائيليين من التزاماتهم التي أقرّت في مؤتمر مدريد.

وإزاء ذلك قامت سورية بقيادة الأسد بنشاط سياسي عربي مكثّف أدى إلى مزيد من التضامن العربي , كما يستخلص مما جاء في قرارات القمة العربية التي عقدت في حزيران من عام 1996 بالقاهرة. وبمناسبة إعادة انتخابه لفترة رئاسية خامسة دعا القائد المؤسس في الكلمة التي وجهها إلى مجلس الشعب القادة العرب إلى وقفة تأمُّل شجاعة ومسؤولة ( تضمن الانتقال من هذا الوضع إلى وضع نستطيع من خلاله النهوض جميعاً وتعود الأمة لتكافح من أجل البناء والتقدم)، ولتقف في مواجهة الأخطار التي يتعرض لها العرب والتي تحدق بالمنطقة ومستقبلها

وكان رحمه الله مقتنعاً بأن الإسرائيليين لا يريدون السلام .. .. وإنهم سيحاولون - دائماً- أن يحبطوا المفاوضات ويفشلوها .. بينما يتوسعون جغرافياً.

إن هذه المواقف والإنجازات التي تحققت في عهد القائد المؤسس ، سياسياً واقتصادياً وعلمياً واجتماعياً، على الصعيد القطري، والقومي، والدولي، أعلت من مكانة سورية في المجتمع الدولي، وأثّرت في صوغ القرارات الخاصة بالمنطقة والوطن العربي، وجعلت من الرئيس الأسد فعلاً باني سورية الحديثة، وواحداً من أبرز المنارات المضيئة في تاريخ العرب المعاصر.

توفي، رحمه الله، في دمشق في العاشر من حزيران، وشُيِّع جثمانه في موكب مَهيب , احتشد حوله الشعبُ السُّوري وسيبقى خالدا في عقولنا وضمائرنا .