كاراباغ خلال الحكم السوفييتي بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

كاراباغ خلال الحكم السوفييتي بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

ثقافة

الأحد، ٤ أكتوبر ٢٠٢٠

انضمت جمهوريتا أذربيجان وأرمينيا السوفييتيتان في كانون الأول 1922 إلى عملية تشكيل اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، على حين تمَّ تشكيل إقليم حكم ذاتي لكاراباغ الجبلية على جزء من أراضي كاراباغ على مساحة 4.400 كم2 في 7 تموز 1923 ضمن أراضي جمهورية أذربيجان السوفييتية بقرار من اللجنة الثورية المركزية التنفيذية في جمهورية أذربيجان السوفييتية.

وبذلك لم يتم حل قضية كاراباغ؛ بل تم تجميدها مؤقتاً، وحصل كل ذلك من أجل ألا يكون لإقليم كاراباغ الجبلية أي حدود عامة مع أرمينيا. وهكذا أصبح ذلك القرار المشؤوم في 5 تموز لعام 1921 حرباً مفتوحة بين أرمينيا وأذربيجان، تندلع شرارتها في ظروف معينة وأوقات محدودة وفقاً لطبيعة المصالح والقوى، وبهذا الشكل فإننا نرى أن كاراباغ لم يكن في يوم من الأيام تابعاً لجمهورية أذربيجان المستقلة، التي ظهرت على مسرح التاريخ، كما ذكرنا، كدولة أول مرة في عام 1918 بدعم تركي.

 لم يتصالح الأرمن في كاراباغ الجبلية مع هذا القرار طوال الفترة السوفييتية، وناضلوا لسنوات طويلة من أجل الانضمام إلى الوطن الأم، وقامت القيادة في جمهورية أذربيجان السوفييتية بانتهاك حقوق ومصالح السكان الأرمن في الفترة التي انضم فيها إقليم كاراباغ الجبلية للحكم الذاتي إلى تلك الجمهورية.

خلال سنوات الحكم السوفييتي مارست السلطات الأذربيجانية سياسة تمييز عنصري ضد ناغورني كاراباغ، التي ازدادت حدّة بتولي حيدر علييف زمام الحكم كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني. نتيجة تلك السياسة ازداد عدد السكان الأذربيجانيين في ناغورني كاراباغ، ما أدى إلى عدم رضى السكان الأرمن المحليين، ورافقت سياسة التعصب الأذربيجاني تدمير الآثار التاريخية والثقافية في المناطق الأرمنية.

كان للتمييز المفترض من السلطات الأذرية على كاراباغ الجبلية أثر سلبي كبير في سكان كاراباغ الجبلية، وسبب أساسي في تهجيرهم. وبالنتيجة، تغيرت النسبة السكانية في  كاراباغ، ففي عام 1923 بلغ عدد الأرمن في كاراباغ الجبلية 94.4 بالمئة، وانخفض حتى 76.9 بالمئة وفق إحصاءات عام 1989. لقد توسعت سياسة تهجير الأرمن في مقاطعة أرمنية أخرى هي ناخيتشيفان.

وبهذا الصدد صرح زعيم أذربيجان السابق حيدر علييف في إحدى المناسبات بكل وقاحة أنه بذل كل الجهود المتاحة لتغيير الصورة الديمغرافية في ناغورني كاراباغ لمصلحة أذربيجان[1].

قام الشعب في إقليم كاراباغ الجبلية والسلطات في جمهورية أرمينيا السوفييتية بتقديم طلبات عديدة موجهة للسلطات المركزية في اتحاد الجمهوريات السوفييتية من أجل إعادة النظر في قرار نقل كاراباغ إلى جمهورية أرمينيا السوفييتية، لكنه لم يتم النظر فيها أو تمَّ رفضها.

من بين تلك المحاولات، طلبت حكومة جمهورية أرمينيا السوفييتية واللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعام 1945 الموجه إلى حكومة اتحاد الجمهوريات السوفييتية واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاتحادي، ورسائل تحمل تواقيع أكثر من 2500 توقيع من سكان إقليم كاراباغ الجبلية في عام 1963، وأكثر من 45 ألف توقيع في عام 1965، الموجهة إلى قيادة اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، وكذلك اقتراحات جماعية لإقليم كاراباغ الجبلية في إطار المناقشات للدستور الجديد لاتحاد الجمهوريات السوفييتية في عام 1977[2].

الحركة الشعبية من أجل توحيد كاراباغ مع أرمينيا

إن سياسة "الانفتاح- الكلاسنوست" للأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل غورباتشوف وإعادة الهيكلة- "البيريسترويكا" في عام 1985، حررت المشهد السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفييتي، وباتت فرصة تاريخية للأرمن في كاراباغ لطرح ملف قضية ناغورني كاراباغ من جديد، وسعوا إلى تصحيح الظلم التاريخي، والانضمام إلى أرمينيا، وقد أصبح شهر شباط عام 1988 نقطة تحول مهمة في تاريخ ناغورني كاراباغ، حيث رفع شعبه صوته مطالباً بالحرية واستعادة حقوقه المسلوبة نحو سبعين سنة.

تحت شعار "مياتسوم- توحيد" كاراباغ إلى أرمينيا الأم، بدأت في 13 شباط عام 1988 تظاهرات ومسيرات كبيرة في العاصمة استيباناكيرط. بعد أسبوع وخلال الجلسة الاستثنائية لمجلس النواب الإقليمي في كاراباغ المنعقدة في 20 شباط عام 1988 اتُّخذ قرار بشأن انضمام كاراباغ إلى جمهورية أرمينيا السوفييتية، وتمَّ رفع الطلب إلى المجلس الأعلى الأرمني والأذربيجاني، وإلى المجلس الأعلى للاتحاد السوفييتي بشأن نقل الإقليم من عداد جمهورية أذربيجان السوفييتية الاشتراكية إلى عداد جمهورية أرمينيا السوفييتية الاشتراكية. وليس من المفاجأة رفض قرار برلمان كاراباغ من المجلس الأعلى في أذربيجان والاتحاد السوفييتي، الذي أدى إلى تظاهرات احتجاجية كبيرة في استيباناكيرط. وكتعبير عن التضامن مع حركة كاراباغ، بدأت تظاهرات حاشدة مماثلة في يريفان، وأخذت هذه المسيرات تكتسب تدريجياً زخماً ودعماً شعبياً واسعاً، شملت مئات الآلاف، وبلغ عدد الذين احتشدوا من مناطق عديدة من البلاد للانضمام إلى التظاهرات مليون شخص[3].

ومن أجل تنسيق المسيرات والتظاهرات المليونية السلمية، تمَّ تشكيل "لجنة كاراباغ" من المفكرين والمثقفين والعلماء في أرمينيا، التي اتخذت لاحقاً تسمية "الحركة الوطنية الأرمنية".

من البداية اتخذت السلطة المركزية في موسكو مواقف سلبية تجاه الحركة، واعتبرتها انفصالية ومتطرفة، ما أدى إلى إثارة الغضب في أرمينيا وكاراباغ، أما وسائل الإعلام السوفييتي، وتماشياً مع أسلوبها التقليدي في التعبير، فلم تنقل غالباً حقيقة الأمور الجارية في أرمينيا وكاراباغ، ففي أفضل الأحوال كان الصحفيون ينقلون معلومات محرّفة كثيراً ما تكون غامضة مع محاولات تافهة للظهور بمظهر حيادي، ولم تسمح السلطات المركزية دخول المراسلين الأجانب المنطقة التي تجري فيها الأحداث، ولهذا فقد نقلوا الأحداث اليومية الجارية في أرمينيا وكاراباغ من مصادر ثانوية غير مباشرة، ولم يكن بوسعها نقل الاضطرابات بصورة صحيحة وكافية، وقاموا بإعطاء الأحداث تارة طابعاً دينياً– طائفياً بين مسلمين ومسيحيين وتارة طابعاً انفصالياً، مشوهين بذلك حقيقة القضية برمتها[4].

أثناء الحركة الشعبية الهائلة في أرمينيا وكاراباغ لمدة طويلة، أرسلت موسكو بعض المسؤولين الكبار، يحملون معهم خططاً وتوصيات واقتراحات لا تتطابق مع مطالب وأمنيات الشعب الأرمني، الذي كان يرغب في استعادة العدالة وتصحيح الأخطاء التاريخية التي ارتكبت بحقه في الربع الأول من القرن العشرين.

إن حركة ناغورني كاراباغ، لم يسبق لها مثيل بهذا الزخم في الاتحاد السوفييتي خلال 70 عاماً، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التظاهرات المليونية في أرمينيا. ويمكن القول بالتأكيد: إن تلك التظاهرات بطبيعتها المنظمة والسلمية أصبحت مثالاً يحتذى به وحافزاً للحركات الأخرى فيما بعد في الجمهوريات السوفييتية وفي البلدان الأوروبية، والتي أدت في آخر المطاف إلى انهيار المنظومة الاشتراكية في عام 1991 [5].

في البداية لم تكن الحركة موجهة ضد الاتحاد السوفييتي، ولم يكن هناك شعارات للمطالبة باستقلال أرمينيا. على كل حال، في ربيع 1988، عندما بدا واضحاً عدم تطبيق الخيارات الممكنة كافة لحل قضية كاراباغ داخل النظام السوفييتي، تغيّر كل شيء، وكان تاريخ 28 أيار 1988 نقطة تحول، الذكرى السبعون لتأسيس جمهورية أرمينيا الأولى (1918- 1920)، حين رفع موفسيس كوركيسيان العلم الأرمني في ساحة الأوبرا في يريفان، التي سميت "ساحة الحرية" خلال التظاهرات.

ورداً على مطالب سكان ناغورني كاراباغ لتقرير مصيرهم، قامت السلطات الأذرية بتنظيم المجازر والتصفية العرقية بحق السكان الأرمن المقيمين على أراضي أذربيجان، وخاصة في سومغاييت.

مذبحة سومغاييت

إن مذابح الأرمن في مدينة سومغاييت الصناعية في جمهورية أذربيجان السوفييتية (المعروفة أيضاً باسم بوغروم سومغاييت أو أحداث شباط) بقيادة أذرية، استهدفت السكان الأرمن في هذه البلدة الساحلية في 27-29 شباط 1988 كانت نتيجة مطالب الأرمن في "ناغورني كاراباغ" للانفصال من أذربيجان و الانضمام إلى أرمينيا[6].

في27 شباط 1988، تشكلت عصابات كبيرة من الأذريين، وتوزعت ضمن مجموعات شرعت في مهاجمة وقتل الأرمن في الشوارع وفي شققهم على حد سواء، وما ساعد في ازدياد الأمر سوءاً عمليات النهب التي جرت على نطاق واسع وانعدام التزام ضباط الشرطة، وكانت أعمال العنف في سومغاييت غير مسبوقة في نطاق الاتحاد السوفييتي، واجتذبت قدراً كبيراً من الاهتمام لدى وسائل الإعلام الغربية، وكان عدد القتلى ما لا يقل عن 200 شخص.

في يوم 28 شباط دخلت وحدة صغيرة من القوات السوفييتية المسلحة نسبياً في وزارة الداخلية إلى المدينة، وحاولت من دون جدوى إخماد أعمال الشغب، وتمت تهدئة الوضع أخيراً عندما دخلت وحدات عسكرية أكثر احترافاً مع الدبابات وغيرها من العربات المدرعة بعد يوم واحد، وفرضت القوات التي أرسلتها الحكومة حالة الأحكام العرفية في سومغاييت، وأعلنت حظر التجول، وأنهت الأزمة.

ووفقاً لشهود عيان أرمن وعدد من أفراد الجيش السوفييتي لاحقاً، وكما أفادت التقارير أيضاً، أنه تم جلب الكحول و"أناشا" (وهو مصطلح أذري يدل على المخدرات مثل الأفيون)، بالشاحنات وتم توزيعها على الحشود الأذرية.

بدأت أول أعمال العنف بالقرب من محطة الحافلات في المدينة، حيث قاموا بتخريب وتدمير أكشاك الصحف والمحال التي يملكها الأرمن. وكانت العصابات أغلقت الطرق، وأوقفت السيارات والحافلات، ومن ثم طلبت معرفة ما إذا كان الأرمن في الداخل، فإن كانوا هناك، فكانت العصابات تقوم بسحبهم وضربهم (والبعض حتى الموت) باستخدام عبوات من الأسلحة المصنوعة يدوياً مثل الرماح وقضبان من الحديد المسلح، وقطع مشحوذة من المعدن، وهي إشارة إلى أنها صنعت في مصانع سومغاييت الصناعية قبل الهجوم.

كان رد فعل الحكومة السوفييتية على الاحتجاجات في البداية بطيئاً، وكان التفكير في إرسال وحدات عسكرية لفرض الأحكام العرفية في البلدة فعلاً غير مسبوق في تاريخ الاتحاد السوفييتي. ويمكن لمعظم السوفييت العودة إلى أيام الحرب العالمية الثانية، حيث تم اتخاذ مثل هذه التدابير من الحكومة.

إن روح "الكلاسنوست" (حرية التعبير) رأت الاتحاد السوفييتي أكثر تسامحاً في الاستجابة للقضايا السياسية المشحونة، ومع ذلك، قام المسؤولون الروس في أذربيجان، ممن شهد بعضهم على تلك الهجمات، بمناشدة قادة الكرملين لإرسال القوات السوفييتية إلى سومغاييت.

وفي جلسة المكتب السياسي السوفييتي في اليوم الثالث من أعمال الشغب في 29 شباط، تباحث غورباتشوف والمجلس الأعلى حول مواضيع عديدة حتى قبل مناقشة أحداث سومغاييت، وعندما أثيرت أخيراً القضية، أعرب غورباتشوف عن معارضته للاقتراح لكن أعضاء حكومته، بما في ذلك وزير الخارجية إدوارد شيفرنادزه ووزير الدفاع ديمتري يازوف، وخوفاً من تصعيد بين الأرمن والأذريين، أقنعوه لإرسال قوات التدخل.

في 29 شباط تدهور الوضع لدرجة اضطرت الحكومة السوفييتية إلى دعوة المزيد من القوات المسلحة بشدة، والتي يحق لها فتح النار، وشملت الفرقة وحدة «فيليكس ذيرزنسكي» التابعة للقوات الداخلية، وهي مرفقة بمشاة البحرية من أسطول بحر قزوين البحرية، وقوات من داغستان، ولواء قوات الإنزال، والشرطة العسكرية، وفوج المظلات 137 من القوات المحمولة جواً من ريازان، وقوة عسكرية مؤلفة من ما يقرب الـ 10000 رجل، يرأسهم الفريق الجنرال كاراييف. إضافة إلى ذلك، تحركت الدبابات وأمرت بفرض طوق حول المدينة.

وذكر الصحافي الروسي من وكالة الأخبار «كلاسنوست»، أندريه شيلكوف، أنه رأى ما لا يقل عن 47 دبابة وأيضاً قوات ترتدي سترات واقية من الرصاص بدوريات في البلدة، ما يعني ضمناً أن الأسلحة النارية كانت جاهزة واستخدمت خلال أعمال الشغب.

وفرض حظر التجول من الساعة الثامنة مساء حتى السابعة صباحاً، لاستمرار المناوشات بين القوات الحكومية ومثيري الشغب، وأمر كاراييف القوات لإنقاذ الأرمن الباقين في شققهم، وبحلول مساء الـتاسع والعشرين، كانت القوات في الحافلات والناقلات تقوم بدوريات في شوارع سومغاييت للتنفيذ الكامل للأحكام العرفية. وتحت حراسة مسلحة تسليحاً ثقيلاً، نقلت حافلات مدنية وناقلات الجنود المدرعة السكان الأرمن إلى المركز الثقافي في ساحة المدينة الرئيسة، والمبنى الذي تمّ تصميمه ليتناسب مع عدة مئات من الأشخاص، استوعب عدة آلاف من الأرمن.

في الأول من آذار، قمعت القوات السوفييتية أعمال الشغب على نحو فعال، وكان من المقرر أن تبدأ التحقيقات على الفور، لكن قامت شاحنات القمامة بتنظيف الحطام إلى حد كبير في الشوارع والتخلص منه قبل وصولها.

في أعقاب أعمال الشغب، ألقت السلطات السوفييتية القبض على أكثر من 400 رجل لمشاركتهم في أعمال الشغب والعنف، ولم تقم وسائل الإعلام السوفييتي بتناول الحدث، وبقيت صامتة إلى حد كبير، وبدلاً من ذلك، ركزت على القضايا الدولية، بينما أشارت الصحافة المحلية في سومغاييت بفخر، أنه لم يتم إنتاج الأسمدة المعدنية في محطات سومغاييت، وكانت قد توقفت بسبب أعمال الشغب. وكانت الحكومة السوفييتية مترددة في الاعتراف بوقوع العنف، لكنها فعلت في نهاية المطاف، إلا أنها كانت سريعة في الحد من خطورة هذا الحدث من خلال الزعم بأن أعمال الشغب كانت إلى حد كبير قضية "مثيري الشغب". وقامت السلطات السوفييتية بمنع الصحفيين الغربيين الذين سعوا للسفر إلى المدينة.

لم يتم بثّ صور المذبحة حتى 28 نيسان 1988 في فيلم وثائقي مدته 90 دقيقة من صحفي سوفييتي هينريك بوروفيك، وجاء ذلك بمنزلة مفاجأة للكثير من المشاهدين السوفييت.

انتقد بوروفيك التعتيم الإعلامي الذي فرضته الحكومة السوفييتية، مدعياً أنه كان ضد أهداف غورباتشوف التي تدعو إلى المزيد من الانفتاح، وذكر: "إن عدم توافر المعلومات لم يجعل الوضع أفضل، بل جعله أسوأ… وإن صمت الصحافة يسرت الشائعات والاستفزازات".

ربما ما كان لا بد منه هو الصدق في المعلومات كاملة عن الأحداث التي وقعت. وفي وقت لاحق شرع إدوارد شيفرنادزه ليشير إلى عدم الإبلاغ عن المذبحة التي ارتكبت في سومغاييت، كما حدث في «الكلاسنوست» نفسها، "الآليات القديمة تراجعت، وهي تبسط أو تحرف أو تقضي على الحقيقة حول هذا الحدث".

في غضون عدة أيام بعد انتهاء المجزرة، رحل ما يقارب الـ 1200 عائلة أرمنية من سومغاييت، مقلصين عدد سكانها إلى أكثر من النصف. وساد شعور عام ساد جميع أنحاء المدينة بعدم الحساسية بضحايا الأرمن أيضاً، على حين أن العديد من الأذريين في سومغاييت أعربوا عن أسفهم لأعمال العنف التي تلت ذلك، وشعروا أنهم مضطرون لكي يروا أن الأرمن أنفسهم يستحقون ذلك كشكل من أشكال الانتقام للمطالبة بانفصال إقليم «ناغورني كاراباغ».

وضعت السلطات السوفييتية اللوم المباشر على الشخصيات المسؤولة في مدينة سومغاييت الذين أقيلوا من مواقعهم جميعاً، ووفقاً لأستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون، مارك بيسنغر، فإن مسؤولي الحكومة قاموا بـ "مراوغة" الأذريين خلال مسيرات الاحتجاج. فقد أرسلوا إشارات يمكن تفسيرها بسهولة كمعاقبة للعنف، وبعض أجزاء من الدولة قدم دعماً نشيطاً للعنف ضد الأرمن.

وهذا الشك بالأرقام السوفييتية الرسمية مدعوم بمصادر مختلفة. أولها شيلكوف الذي، وبعد زيارة سومغاييت، تأكد من أن عدد القتلى كان"على الأقل" 350 مادام العنف كان من جانب واحد. ادعى الأرمن أن تقديره مدعوم بأدلة من شهادات وفاة الضحايا، كما رفض الكاتب والمحرر البريطاني ديفيد برايس جونز النتيجة، معلقاً أن هذه الأرقام الرسمية هي على الأرجح منخفضة للغاية، وشاطره هذا الرأي أيضاً المؤرخ الروسي جيفري هوسكينغ الذي صرح بأنه تم قتل مئات من الأرمن أو نحو ذلك، بينما بدا للكثيرين أنه نمط منهجي من جانب جيران أذربيجان في سومغاييت. ويمكن اعتبار المذابح والاغتصاب شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية المنهجية التي تشبه الإبادة الجماعية للأرمن التي وضعت حيز التنفيذ ضد الأرمن على يد الأتراك العثمانيين في عام 1915.

اعتقلت السلطات السوفييتية 400 رجل في أعقاب المجزرة، وأعدت تهماً جنائية لـ84 شخصاً، وحكم على إسماعيلوف، مجرب الأنابيب في واحدة من محطات سومغاييت الصناعية، بتهمة القتل المتعمد، وكان أول من يحاكم من المحكمة السوفييتية العليا في موسكو في أيار 1988. في تشرين الأول 1988، حكم على تسعة رجال، بما في ذلك إسماعيلوف الذي سجن بـ 15 عاماً إضافة إلى 33 عاماً حكم بها. وكانت أحكاماً أخرى أكثر قسوة، فقد أدين أحمد أحمدوف وحكم عليه رمياً بالرصاص لقيادة الشغب والمشاركة في قتل سبعة اشخاص. واستمر العديد من الأذريين في حملة "الحرية من أجل أبطال سومغاييت"[7].

هذه هي حقيقة مذبحة سومغاييت التي أودت بحياة عشرات العائلات الأرمنية المسالمة بشكل منظم وممنهج، تلك العائلات التي ساهمت بكل فناء وإخلاص في تطوير الصناعات والإنتاج ليس في هذه المدينة فقط، بل في جمهورية أذربيجان بشكل عام، وجرت هذه العمليات الإجرامية الوحشية من السلطات الأذرية، من دون شك، انتقاماً لمطالب شعب إقليم ناغورني كاراباغ لانضمامه إلى أرمينيا.

وخلال أيام قليلة غادر 14 ألف أرمني مضطرين من سومغاييت. وبدلاً من وقوفهم وراء القضبان، تحول هؤلاء المجرمون إلى أبطال، وكما أشار القاضي الأعلى في جمهورية أذربيجان السوفييتية الياس إسماعيلوف في 1988: "المذنبون الذين أثاروا الناس في سومغاييت، الآن يحملون في جيوبهم قرارات النيابة وهم في المجلس المحلي". وأصبحت سومغاييت رمزاً للعدائية المفتوحة بين الشعوب ورمزاً للمجازر الدورية التي نفذت على الأراضي القومية[8].

تبعت مجازر سومغاييت عمليات التهجير القسري للسكان الأرمن من المدن والقرى المختلفة في أذربيجان السوفييتية مثل كيروفاباد وخانلار وشامخور وباكو وغيرها، ووفق مصادر مختلفة، نحو 360 ألفاً من سكان مدن عديدة من أذربيجان التجؤوا إلى أرمينيا، و140 ألفاً آخرين هاجروا إلى دول رابطة الدول المستقلة.

لم تتمكن المجازر في آذربيجان من النيل من عزيمة الشعب الأرمني، بالعكس، توسعت حركة آرتساخ بوتيرة جديدة، وبدأت مواقف السلطات المركزية المعادية للأرمن تثير الحركة تدريجياً.

وفي 24 تشرين الثاني 1988 طبقت حالة الطوارئ من أجل قمعها، وفي 7 كانون الأول حدث الزلزال المدمر في سبيطاك، وتسبب بوقف الحركة مؤقتاً، وتم اعتقال قيادات الحركة لمدة ستة أشهر، مثل (ليفون دير بيدروسيان وف. مانوكيان، وأ.مانوتشاريان وغيرهم)، ونقلوا إلى سجون موسكو.

بقرار من المجلس الأعلى لجمهورية أرمينيا السوفييتية في 1 كانون الأول 1989، ومن المجلس الأعلى لإقليم كاراباغ للحكم الذاتي المشكل في شهر أيلول، تم الإعلان عن أن إقليم كاراباغ للحكم الذاتي كجزء من جمهورية أرمينيا السوفييتية، وتم رفض ذلك من جديد من المجلس الأعلى لاتحاد الجمهوريات السوفييتية. واشتد حصار أذربيجان لأرمينيا وكاراباغ، ومن جديد تدفق مهجرون أرمن إلى أرمينيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي.

كانت أذربيجان تتلقى بشكل واضح دعم السلطات المركزية، وبجهود القوات المسلحة السوفييتية نظمت في نيسان 1991 عمليات تهجير قسري ومجازر بحق السكان الأرمن في قرية كيداشين وغيرها من القرى الأرمنية في منطقة خانلار. في نتيجة تلك العمليات بدأت الحركة تتحول بشكل تدريجي إلى نضال مسلح، وقررت أذربيجان حل قضية كاراباغ بشكل نهائي بنفي وقتل الأرمن على الطريقة التركية، وانتفض الشعب في كل مكان، وبدأت حرب ضارية، وعرفت بتسمية "نضال من أجل البقاء" أو "حرب التحرير".

تدهور الوضع في كاراباغ وحوله بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1991 وإخراج الجيش السوفييتي من الإقليم، ووقعت العاصمة استيباناكيرط في الحلقة، حيث انهمرت عليها النيران من شوشي التي استقر فيها الأذربيجانيون منذ عام 1920.

وباتت الكتائب المسلحة للمتطوعين الأرمن عام 1991 السبيل الوحيد لأمن السكان الأرمن في كاراباغ.

            من كتاب قضية ناغورني كاراباغ الجرح الـنـازف



 

 

 

69 Նալբանդյան Էդվարդ. «Լեռնային Ղարաբաղ. տեսանելի՞ է արդյոք կարգավորումը» -https://www.mfa.am/hy/nagorno-karabakh-issue/

نالبنديان إدوارد، كاراباغ الجبلية، هل يوجد حل مرئي؟

 [2] انظر: مكردجيان، المصدر المذكور، ص 58-74.

 

[3] مكردجيان ليفون، ص 9.

[4] المكان نفسه، ص 10.

[5] المكان نفسه، ص 9.

 [6] انظر بالتفصيل: The Sumgait Syndrome, Anatomy of Racism in Azerbaijan, Yerevan, 2012.

 

[7] ملحق آزتاك العربي للشؤون الأرمنية- http://www.aztagarabic.com/archives

[8]  المكان نفسه.