آرتساخ في حضن القيصرية الروسية بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

آرتساخ في حضن القيصرية الروسية بقلم: الدكتور البروفيسور آرشاك بولاديان

ثقافة

الخميس، ١ أكتوبر ٢٠٢٠

بعد نضال طويل المدى ضد الإمبراطورية العثمانية وإيران الشاهنشاهية، اضطرت آرتساخ القبول طوعياً بحكم القيصرية الروسية في عام 1805. وبعد انتصار الجيوش الروسية، انضمت آرتساخ نهائياً إلى روسيا وفق اتفاقية كيوليستان المبرمة في 14 تشرين الأول عام 1813 بين الطرفين، ووفق بنود الاتفاقية تخلت إيران عن جميع مقاطعات شرق القوقاس، بما في ذلك آرتساخ، وبانضمامها إلى القيصرية الروسية تخلص شعبها نهائياً من التطهير العرقي وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الإقليم وتطور لا مثيل له في شتى المجالات التعليمية والثقافية والعمرانية و...إلخ[1]... وخاصة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

خلال حكم الإمبراطورية الروسية استعادت الحياة الروحية والثقافية في مدينة شوشي، وظهرت الظروف المناسبة للنمو الاقتصادي، وتطورت الحرف الأرمنية التقليدية مثل حياكة السجاد وغزل الحرير، وازدهرت الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبدأ العديد من الشركات التجارية والصناعية بالعمل، فأصبحت شوشي خلال وقت قصيرة واحدة من أضخم مدن ما وراء القوقاس، ومركزاً ثقافياً وفنياً أرمنياً مهماً، وكذلك وصل التعليم ومهنة الطباعة إلى مستويات مرتفعة، حيث بدأت تعمل في المدينة أكثر من 10 مؤسسات تعليمية و5 مطابع[2].

بتحريض من الإنكليز خرق ولي العهد الإيراني عباس ميرزا معاهدة كيولستان مع روسيا في شهر تموز عام 1826، وهاجم آرتساخ. وبذا بدأت الحرب الروسية-الإيرانية الثانية. وبعد عدة معارك عنيفة وبدعم من القوات الأرمنية والشعبية، حققت الجيوش الروسية خلال سنتين انتصارات كبيرة ضد الإيرانيين، الذين اضطروا إلى إبرام معاهدة صلح جديدة مع روسيا في 10 شباط عام 1828، المعروفة باتفاقية  تركمنتشاي، وبموجب هذه الاتفاقية، انضمت باقي أراضي أرمينيا الشرقية – إمارتي يريفان وناخيجيفان أيضاً إلى القيصرية الروسية.

وهكذا انضمت جميع أقاليم أرمينيا الشرقية ومن بينها، كما رأينا، آرتساخ إلى القيصرية الروسية، وبموجب تلك المعاهدة كان يحق للأرمن في إيران الهجرة إلى الوطن الأم، والتزمت ايران بدفع 20 مليون روبل كتعويضٍ عسكريّ لروسيا، وتمت إقامة العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين روسيا وإيران، وبدءاً من ربيع عام 1828 جرى هجرة نحو أكثر من 40 أرمنياً من عدة مناطق إيران إلى أرمينيا الشرقية.

إن الأرمن كانوا يفضلون السلطة الروسية بعد قرون عدة تحت نير إيران الذين حصلوا على ضمانات أمنية، وتم توزيعهم في مناطق يريفان، النشوى، فايوتس دزور، زانكيزور وآرتساخ وغيرها، وكان لهجرة الأرمن من إيران بعد فترة طويلة من الزمن أهمية خاصة. وبعد حصولهم على ضمانات وتوفير ظروف العيش، قاموا بممارسة حياتهم في جميع المجالات في الوطن، وأثرت هذه الهجرات في ازدياد النسبة السكانية في أرمينيا الشرقية[3].

هكذا بدأت مرحلة تاريخية في حياة الأرمن الشرقيين في كنف القيصرية الروسية، التي خاضت حروباً ضارية في الوقت نفسه ضد الإمبراطورية العثمانية في عامي 1828- 1829 على جبهات القوقاس والبلقان.

بعد انضمام أرمينيا الشرقية إلى القيصرية الروسية ظهر في أوساط الشعب الأرمني طموحات تخص الحكم الذاتي أو ما يشبه بذلك، وكان من أنصار هذا المشروع شخصيات وطنية مثقفة من أمثال لازيريف، خوداباشيان، آرغوتيان وغيرهم. وحسب مشروع الحكم الذاتي كان من المحتمل أن تكون الإدارة بيد الشخصيات الأرمنية، التي كان يحق لها اتخاذ قوانين وأنظمة محلية ورمز وعلم الحكم الذاتي وتشكيل قوة عسكرية، طبعاً رفضت الحكومة الروسية مشروع الحكم الذاتي المقترح من الأرمن، ولكن بأوامر القيصر الروسي نيكولاي الأول، تمَّ في 21 آذار 1828 تشكيل "المقاطعة الأرمنية" التي شملت جميع المناطق التابعة لمحافظتي يريفان وناخيجيفان كإقليم أرمني ضمن القيصرية الروسية، وسمح له اعتماد علمه وشعاره، وانقسمت "المقاطعة الأرمنية" إلى أربع مناطق وجرى فيها تطبيق القوانين وأنظمة الحكم الروسي بدلاً من القوانين القديمة، ولكن سرعان ما جرى في بلاد ما وراء القوقاس من ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر تغيرات إدارية جديدة، التي شملت "المقاطعة الأرمنية" أيضاً، حيث تمّ حلها في عام 1840. وتم تشكيل إداري جديد مؤلف من مقاطعتين، تشمل بلاد ما وراء القوقاس إضافة إلى أرمينيا الشرقية.

وتأسست في عام 1844 مملكة القوقاس، وتم تعيين الشخصية الروسية البارزة س. فارانتسوف كأول حاكم لهذا البلاد. أما في عام 1849 فجرى تشكيل محافظة يريفان التي شملت بدورها الكسندرابول، ناخيجيفان، بايازيط الجديدة وأوردوباد[4].

          بعد انضمام آرتساخ إلى روسيا القيصرية حافظ الإقليم لفترة طويلة على وجوده الجغرافي منيعاً ضد الاعتداءات المستمرة التي كان يشنها الأعداء في المناطق المجاورة. وكجزء من روسيا عمل الإقليم ضمن جهاز إداري في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، فمثل جميع المناطق الأرمنية عانى الإقليم من السياسة القيصرية في رسم الحدود الإدارية، التي أهملت التركيب العرقي لمنع إمكانية قيام كيان وطني فيه[5]، وانقسمت المنطقة إلى مقاطعتين إداريتين نتيجة الإصلاحات الإدارية في القوقاس في عام 1840، وبموجب هذا التقسيم ضمت آرتساخ إلى مقاطعة قزوين[6].

أما في عام 1867 فقد أسست القيصرية الروسية مقاطعة يليزافيتابول (كانتزاك بالأرمنية، كانجا بالتركية)، وأصبحت مدينة يليزافيتابول مركزها الإداري، وبالطبع إن تكوين هذه المقاطعة الجديدة لم يعكس الصورة العرقية-السياسية للمقاطعة، ودخلت ضمن هذه المقاطعة ولاية كانتزاك، التي شكل الأرمن معظم سكانها، والولايات التي كانت تقع داخل إقليم آرتساخ هي: شوشي، جبرائيل، جيفاشير,,, إلخ، التي يحمل أغلبها أسماء غير أرمنية، ونصف سكانها من الأرمن، وولاية زانكيزور الواقعة خارج الحدود[7]. ولغاية عام 1917 أصبح من المستحيل إجراء أي تعديل إداري في ظل النظام القيصري الروسي، وبقي الوضع على حاله أثناء الحرب العالمية الأولى أيضاً.

في ظل هذه الظروف وبعد ظهور العنصر التركي (المعروف آنذاك باسم تتار القوقاس) في منتصف القرن الثامن عشر في شمال آرتساخ، ما أدى إلى الصدام مع الأرمن.

في عامي 1905- 1906 تولى ثوار حزب الطاشناق حماية الأرمن في عدة مناطق خاصة في باكو وغيرها عام 1905 من تتار القوقاس المدججين بالسلاح على تعدياتهم بتحريض خفي من السلطات الروسية القيصرية، وشملت اشتباكات الأرمن والأتراك (التتار) إقليم آرتساخ، زانكيزور، تفليس، كاندزاك، يريفان وغيرها[8].

في 27 شباط عام 1917 انتصرت الثورة البرجوازية- الديمقراطية الأولى في روسيا. وأعلن في خلفيتها في شهر آذار عن استقالته القيصر نيكولاي الثاني، وبذا انهارت سلالة "آل رومانوف" التي حكمت روسيا نحو ثلاثمئة سنة. وتشكلت في بتروغراد عاصمة الأباطرة حكومة مؤقتة عهد إليها بتسيير دفة الأمور في روسيا، وسرعان ما تشكلت في كل أنحاء البلاد لجان تابعة للحكومة المؤقتة.

ونالت الحكومة المؤقتة في بتروغراد على غرار سياساتها الجديدة تجاه القوميات الخاضعة لروسيا والرامية إلى تغيّرات جذرية على دعم كامل من شعوب ما وراء القوقاس وأحزابها السياسية باستثناء الحزب الشيوعي، وكانت الأحزاب القوية والنشيطة في القوقاس حزب الطاشناق الأرمني والحزب المنشوي الجيورجي وحزب المساواة التتاري (الأذربيجاني). وقرر في 9 نيسان عام 1917 في اجتماع عام لجميع فروع حزب الطاشناق في القوقاس إقامة جمهورية اتحادية في القوقاس برعاية روسية، ودافع عن هذه الفكرة تقريباً جميع الأحزاب السياسية الأرمنية[9].

منذ البداية تعاطفت الحكومة المؤقتة مع القضية الأرمنية، وسمحت للمهاجرين الأرمن الغربيين بالعودة إلى ديارهم، ففي 23 نيسان عام 1917 وقع الأمير لفوف-رئيس الحكومة المؤقتة وميليوكوف- وزير الخارجية مرسوم تأسيس إدارة عسكرية في مناطق أرمينيا الغربية التي حلت تحت حكم القيصرية الروسية، ووضعت هذه الإدارة (الرئيس ب آفيريانوف، نائب الرئيس- ياكوف زافاريان عضو حزب الطاشناق) مباشرة تحت إمرة الحكومة المؤقتة.

إن سياسة الحكومة المؤقتة بشأن اعتراف حق المصير للشعوب وإنشاء الإدارة العسكرية في أرمينيا الغربية أدت إلى ازدياد تفاؤل الأرمن في الحصول على وطن موحد.

مع الأسف الشديد ما دام طويلاً هذا الوضع الملائم والمساند للأرمن والقضية الأرمنية إثر اندلاع الثورة البلشفية في روسيا بقيادة لينين في 24-25 أكتوبر (7-8 نوفمبر) عام 1917 التي فتحت مرحلة صعبة وجديدة في تاريخ أرمينيا، والتي أدت لاحقاً إلى اضطرابات محلية ونزاعات بين كل من الأرمن والتتار (الأذربيجانيين) والتتار والجيورجيين، هؤلاء والأرمن، وذلك بسبب غياب الجهاز الإداري المنظم القادر على إمساك مقاليد الأمور وتوجيهها[10].

 

من كتاب قضية ناغورني كاراباغ الجرح الـنـازف



[1]  المكان نفسه.

[2]  المكان نفسه، ص 26.

[3] ميلكونيان آشوط، تاريخ الأرمن، يريفان، 1998، ص 131-132 (باللغة الأرمنية).

[4] آشوط ميلكونيان، المصدر المذكور، ص 135-136.

 [5] مكردجيان ليفون، المصدر نفسه، ص 26.

[6]  آفاكيان شاهين، كاراباغ وجهة نظر قانونية، ترجمة نورا أريسيان، بيروت 2006، ص 13.

[7]  مكردجيان ليفون، المصدر نفسه، ص 26-27.

[8]  بولاديان آرشاك، ولادة الحلم المسلوب، دمشق، 2018، ص 44.

[9]  آشوط ميلكونيان، المصدر نفسه، ص 186.

[10] مروان المدور، الأرمن عبر التاريخ، بيروت، 1982، ص 40-41.